زار وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بغداد وأربيل في الفترة من 22-24 أغسطس/آب، حيث أجرى محادثات مع المسؤولين العراقيين والأكراد ركزت على مجموعة من القضايا الرئيسية، منها استئناف صادرات النفط من إقليم كردستان العراق عبر تركيا، وقضية تحكيم ذات صلة بالموضوع، وقضية حزب العمال الكردستاني، بالإضافة إلى الصراع المستمر على المياه بين أنقرة وبغداد. وتعد مشاركة حكومة إقليم كردستان ضرورية لمعالجة تلك القضايا القائمة منذ وقت طويل بشكل فعال، حيث يمكنها أن تلعب دورًا إيجابيًا في إدارة وحل تلك المشكلات باعتبارها صاحبة مصلحة رئيسية.
نزاع نفطي كبير
تجمع العراق وتركيا مصالح اقتصادية مشتركة، حيث تمثل الموارد الهيدروكربونية الوفيرة في العراق أهمية استراتيجية كبيرة لتركيا بسبب قربها جغرافيًا. لكن غياب إطار قانوني وطني واضح وشامل في العراق فيما يتعلق بموارده الهيدروكربونية، قد قيّد بشدة قدرة أنقرة على تسخير إمكانات إنتاج النفط العراقي لتلبية احتياجاتها المتزايدة من الكهرباء وتنشيط اقتصادها. إن سنّ مثل هذا التشريع في العراق من شأنه أن يحدد صلاحيات الحكومات الفيدرالية والإقليمية، مما سيوفر بيئة أكثر أمانًا لكل من شركات النفط التركية والأجنبية للاستثمار في العراق وإقليم كردستان. لذلك، اعترافًا منها باستقرار إقليم كردستان العراق النسبي، استثمرت أنقرة في موارده الهيدروكربونية، من خلال توقيع اتفاقية طاقة مدتها خمسون عامًا مع حكومة إقليم كردستان في عام 2012، وتوفير الدعم السياسي لأربيل، وتشجيع الشركات التركية والأجنبية على الاستثمار في المنطقة، وتسهيل تصدير النفط الكردي إلى الأسواق العالمية عبر تركيا.
ورغم أن أنقرة استفادت من التعاون مع أربيل في مجال الطاقة، إلا أنها عرّضت في الوقت نفسه علاقاتها مع بغداد للخطر، وفتح هذا الأمر الباب أما ترقب دولي فيما يتعلق بدورها في تسهيل تصدير وبيع النفط من الشمال الكردي الذي لا يعتبر دولة، في الماضي كان هناك جدل حول مدى انتهاك تصرفات أربيل وأنقرة للدستور العراقي، حيث استغلت كل من حكومة إقليم كردستان وتركيا غموض بعض الفقرات في الدستور العراقي لتبرير تجارة الطاقة بينهما.
وفي فبراير/شباط 2022، حكمت المحكمة العليا في العراق بعدم دستورية قانون النفط والغاز الذي أصدرته حكومة إقليم كردستان عام 2007. وفي مارس/آذار 2023، فاز العراق بقضية تحكيم رفعها ضد تركيا في محكمة التحكيم التابعة لغرفة التجارة الدولية بشأن تصدير النفط من إقليم كردستان. حيث حُكم على تركيا بدفع نحو مليار ونصف دولار للعراق مقابل خرق بعض بنود العقد بين عامي 2014 و2018، ويسعى العراق إلى الحصول على تعويض إضافي في واقعة مماثلة وقعت في الفترة من 2018 إلى 2022.
ونتيجةً لذلك، أوقفت أنقرة في 23 آذار/مارس شحنات النفط القادمة من إقليم كردستان، وهي خطوة كانت لها تداعيات مالية وسياسية بالغة على أربيل. منذ ذلك الحين، عقدت أنقرة وبغداد 19 اجتماعًا لوضع آلية لاستئناف صادرات النفط. وقد استهلّت تركيا المحادثات بموقف عدائي، مطالبة بإلغاء الغرامة البالغ قيمتها مليار ونصف دولار، والتنازل عن الجولة الثانية من القضية، وزيادة رسوم العبور، وموافقة بغداد على اتفاقية الطاقة طويلة الأجل التي وقعتها مع أربيل. وعلى الرغم من موقف أنقرة المتشدد، تحظى بغداد بالأفضلية لوجود رأيين قانونيين يدعمان وجهة نظرها.
ولا تعتبر المطالب التركية قابلة للتنفيذ بالنسبة لرئيس الوزراء العراقي محمد السوداني، حيث إن سلطته وهامش المناورة المتاح له مرهونان بالفصائل التي ساعدته في الوصول إلى السلطة، والتي تعارض بشكل عام المصالح التركية في العراق.
مخاوف أمنية
وبعيدًا عن التشديد على موقف تركيا بشأن النزاع النفطي، فمن المرجح أن يكون الهدف الأساسي من تحركات فيدان المكثفة هو التأثير على قوات الحشد الشعبي، وهي مجموعة من الميليشيات التي تضم قوات موالية لإيران، لوقف تعاونها المستمر مع حزب العمال الكردستاني في محافظة نينوى. ولبلوغ غايته، التقى فيدان بشكل مباشر بمسؤولين في حكومة السوداني، التي تتوافق معها قوات الحشد الشعبي بشكل عام، ومع فصائل قوات الحشد الشعبي. وتفيد التقارير بأن فيدان ضغط على العراق لتصنيف حزب العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية، ولا يزال من غير الواضح كيف كان ردّ بغداد. وقد تجد حكومة السوداني صعوبة في تبني هذا التصنيف، نظرًا للإجراءات العدوانية التي تتخذها تركيا بانتظام ضد حزب العمال الكردستاني في العراق منتهكة سيادة الدولة، والتي ألّبت عليها الرأي العام، وأثارت غضب المشرعين العراقيين. وقد تعترض إيران ووكلاؤها النافذون في العراق أيضًا على إجراء من شأنه أن يقوض حرية بعض فصائل قوات الحشد الشعبي في تشكيل التحالفات التكتيكية التي تختارها. من غير المستبعد أن يتخذ العراق مثل هذا الإجراء كجزء من صفقة كبرى مع تركيا، حيث استجاب في الماضي لبعض المطالب التركية، منها تعزيز الأمن حول مخيم “مخمور” للاجئين، الذي يوفر مأوى لأكراد تركيا منذ التسعينيات. غير أن أنقرة تعتقد أن حزب العمال الكردستاني يستخدم المخيم كمركز لتجنيد عناصر جدد.
وكانت حكومة إقليم كردستان قد عززت من إجراءاتها الأمنية، وشكلت شراكة مع تركيا لمحاربة حزب العمال الكردستاني لتحقيق مصالحها الخاصة، ومع ذلك، توترت العلاقة بين أنقرة وبغداد بعد أن شنّت تركيا غارات بطائرات مُسّيرة في عمق إقليم كردستان، والتي اعتبرتها بغداد انتهاكًا لسيادتها.
إن اجتماعات فيدان غير التقليدية مع قادة قوات الحشد الشعبي والأحزاب السياسية العراقية والأحزاب الإسلامية في إقليم كردستان، الذين يتمتعون بنفوذ في المناطق الواقعة تاريخيًا تحت سيطرة إيران، تنبئ بأن تركيا ستنتهج سياسة خارجية أكثر نشاطًا في عهد فيدان، حيث يستغل فيدان شبكة العلاقات التي كوّنها خلال فترة عمله كرئيس للمخابرات. كما يعكس نمط التواصل غير المعتاد على مستوى وزراء الخارجية نهجًا يشمل تفاعلات رسمية وغير رسمية بهدف تعزيز النفوذ التركي، مشابهًا للنهج الذي تتبعه إيران في العراق.
تداعيات حظر تصدير النفط
ربما تستطيع كل من العراق وتركيا التعامل مع التداعيات الاقتصادية الناجمة عن توقف صادرات النفط الكردية، لكن إقليم كردستان سيكون الخاسر الأكبر، إذ تشكل صادرات النفط %80 من ميزانيته. ومع رفض المسؤولين الفيدراليين العراقيين تخصيص حصة من الميزانية الفيدرالية لحكومة إقليم كردستان، قد تتفاقم التحديات الاقتصادية التي يواجهها الإقليم، الأمر الذي قد يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار.
ولن تنعكس الآثار السلبية لهذا الوضع على العراق وجيرانه فحسب، بل على المجتمع الدولي بأكمله. فقد تؤدي زيادة البطالة والمشكلات الاقتصادية إلى موجة أخرى من هجرة الأكراد إلى أوروبا. ومن ناحية أخرى، مع مواصلة أكبر منتجي النفط، أي السعودية وروسيا، سياسة خفض إنتاج النفط الطوعية، قد يؤدي استئناف صادرات النفط الكردية إلى خفض الأسعار، والمساهمة إلى حد ما في تخفيف أزمة الطاقة في أوروبا.
الحاجة لاتفاق ثلاثي
إن استئناف تصدير النفط من حقول النفط الكردية إلى السوق العالمية عبر تركيا يجب أن يحظى بتأييد أربيل وبغداد وأنقرة بوصفه حلاً مستدامًا. وقد حذر المسؤولون الأكراد من أنه ما لم تحترم الحكومة الفيدرالية التزاماتها المنصوص عليها في قانون الموازنة الاتحادية الجديد – أي دفع الحصة المخصصة لحكومة إقليم كردستان – فإنهم قد يختارون استراتيجية بديلة غير محددة لمواجهة بغداد.
إن تسليم الحكومة الفيدرالية لحصة إقليم كردستان من الميزانية يعتمد على قيام الأخيرة بتزويد الحكومة الفيدرالية 400 ألف برميل من النفط يوميًا. ونظرًا لتوقف صادرات النفط الكردية بسبب حكم التحكيم الصادر لصالح العراق ضد تركيا، فإن الوفاء بهذا المطلب أصبح مستحيلاً، بعد أن خفض متعهدو النفط في إقليم كردستان الإنتاج بشكل كبير بسبب عدم وجود خط تصدير. ومع ذلك، إذا اتفقت بغداد وأنقرة على إعادة تشغيل خط أنابيب كركوك-جيهان، ستتمكن شركات النفط في الإقليم الكردي من زيادة الإنتاج، وسيمكن ذلك أربيل من نقل 400 ألف برميل إلى شركة النفط الوطنية العراقية.
وقد أسفرت زيارة وفد حكومة إقليم كردستان الأخيرة إلى بغداد عن حل مناسب على المدى القصير فيما يتعلق برواتب موظفي حكومة إقليم كردستان. كما وافقت بغداد على منح أربيل قروضًا للأشهر الثلاثة المقبلة، بينما تعمل بشكل حثيث على إيجاد حل لمشكلة صادرات النفط الكردية. وتعكس تلك الانفراجة المؤقتة اعترافًا بالوضع القائم على الأرض، وبالظروف الصعبة التي تواجهها حكومة إقليم كردستان. ولكن ما لم تعقد بغداد مباحثات مع كل من أربيل وأنقرة لإيجاد حل دائم، فمن المرجح ألا يتم التوصل إلى اتفاق شامل.
ومع ذلك، هناك عقبات سياسية تلوح في الأفق قد تعرقل مساعي التوصل إلى حل عملي. فالحكومة العراقية الحالية تسعى إلى إحكام السيطرة الفيدرالية على إقليم كردستان، اعتقادًا منها بأن تصدير صورة قومية قوية سيفيدها في انتخابات مجالس المحافظات المزمع عقدها في نوفمبر/تشرين الثاني. وبالرغم من المكاسب الانتخابية التي قد تحققها تلك المقاربة، إلا أنها تهدد بتعريض أي اتفاق محتمل بشأن صادرات النفط للخطر، بل وحتى زعزعة استقرار العراق، الذي يشهد بالفعل أجواء مشحونة بين الأكراد والعرب.
بالنسبة لتركيا، أصبحت القضية الكردية بالغة الحساسية، على الرغم من عدم وضوح مدى تأثيرها على علاقات تركيا مع حكومة إقليم كردستان. حيث تتصاعد اللهجة المعادية للأكراد في خطاب بعض الأحزاب السياسية الرئيسية، مستهدفة في المقام الأول أكراد تركيا، كما أن الانتخابات المحلية التركية المزمع إجراؤها في مارس/آذار 2024 تلعب دورًا في صياغة الحسابات السياسية في أنقرة.
وعلى الرغم من وجود عقبات، فإن بعض المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية الحيوية للأطراف المعنية معرضة للخطر. ويتوقف استئناف صادرات النفط الكردية على تحقيق توافق في الآراء بين بغداد وأنقرة، إلا أنه لا يمكن الوصول إلى حل دائم إلا من خلال اتفاق ثلاثي يشمل أربيل ويحقق منفعة لكافة الأطراف.