لم يحدث خلال تاريخ الولايات المتحدة أن تم تأجيل انتخابات رئاسية، حتى خلال الحروب، بما فيها الحرب الأهلية، كما لم يتم في أي وقت عرقلة أو منع الانتقال السلمي للسلطة من حزب إلى آخر، كما لم يحدث أن قام رئيس خسر الانتخابات بتحدي إرادة الناخبين، والإصرار على البقاء في السلطة، أو التآمر مع أنصاره واستخدام أساليب الترهيب والتزوير والتضليل والكذب والتشجيع على استخدام العنف للبقاء في منصبه، إلى أن قرر الرئيس السابق دونالد ترامب البقاء في البيت الأبيض بعد خسارته للانتخابات في 2020 عبر محاولاته تقويض الدستور الأميركي ومنع الكونغرس، ونائبه آنذاك مايك بينس، من التصديق رسميًا على انتخاب الرئيس جوزيف بايدن.
يوم الثلاثاء، وجهت هيئة محلفين كبرى في واشنطن لائحة اتهامات جنائية ضد ترامب، هي الثالثة خلال أربعة أشهر، وتعتبر الأخطر لأن مضاعفاتها السياسية والقانونية تمس جوهر الدستور والديموقراطية الأميركية، لأن هذه التهم تضعه في قلب مؤامرة شاملة “لإلغاء هزيمته في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2020،” حين شجع أنصاره في السادس من يناير/كانون الثاني 2021 على اقتحام مبنى الكابيتول، معقل الديموقراطية الأميركية، لمنع أعضاء الكونغرس من التصديق على فوز الرئيس المنتخب جوزيف بايدن.
في أواخر مارس/آذار الماضي، وجهت هيئة محلفين في مانهاتن، نيويورك، اتهامات لترامب تشمل التلاعب بسجلاته المالية، وتقديم رشاوى لممثلة أفلام إباحية والتغطية على ذلك. وفي شهر يونيو/حزيران، وجهت هيئة محلفين بعد حصولها على أدلة من المحقق الخاص جاك سميث لائحة اتهامات لترامب تشمل الاستيلاء على وثائق رسمية واخفائها في مقره في مارا لاغو بولاية فلوريدا، ورفضه إعادتها إلى الأرشيف الوطني، وعرقلة محاولات الإف بي آي استعادتها. ومن المتوقع أن تقوم هيئة محلفين في ولاية جورجيا خلال الشهر الحالي بتوجيه تهم جنائية ضد ترامب وعددًا من مساعديه، تشمل التدخل المباشر مع المسؤولين المحليين عن الانتخابات وترهيبهم، لقلب نتائج الانتخابات في الولاية، التي فاز بها الرئيس المنتخب بايدن، لصالحه من خلال التلاعب بأصوات الناخبين.
ولكن جميع هذه التهم، على الرغم من أهميتها وكونها أيضًا غير مسبوقة، تبدو حين مقارنتها بلائحة التهم التي أعلن عنها المحقق الخاص سميث يوم الثلاثاء، محدودة وليست غريبة للغاية، كما تبين لائحة التهم المؤلفة من 45 صفحة، والتي تتطرق بالتفاصيل الدقيقة لما قام به الرئيس السابق شخصيًا، أو بالتآمر مع بعض مساعديه ومحاميه منذ اليوم التالي لخسارته للانتخابات، وخلال الأسابيع التي فصلت بين يوم الانتخابات واجتياح الكابيتول حين كان رئيسًا للولايات المتحدة، وبعد تاريخ العشرين من يناير/كانون الثاني 2021 كمواطن عادي، بعد استلام الرئيس بايدن للسلطة.
وجاء في لائحة الاتهامات أن ترامب شارك في ثلاث مؤامرات واسعة فور انتهاء الانتخابات، استخدم خلالها أساليب غير قانونية للتلاعب بنتائج انتخابات شرعية، وتقويض نتائج الانتخابات، وتشمل هذه التهم: التآمر للاحتيال على الولايات المتحدة عبر التضليل والاحتيال، والكذب لتعطيل وعرقلة وهزيمة نشاط الحكومة الفيدرالية الشرعي لجمع واحصاء الأصوات والتصديق على انتخاب الرئيس الجديد، والتآمر لعرقلة وتعطيل اجراءات الكونغرس في السادس من يناير/كانون الثاني لإحصاء الأصوات (في المجمع الانتخابي) والتصديق عليها، والتآمر ضد حق المواطنين بالانتخاب، وحقهم بأن يتم إحصاء اصواتهم.
وقال المدعي العام الخاص جاك سميث، “الهجوم ضد عاصمة الوطن في السادس من يناير/كانون الثاني سنة 2021 كان هجومًا غير مسبوقًا ضد مقر الديموقراطية الأميركية”. وتابع “هذا الهجوم كان مشحونًا بأكاذيب المدعى عليه”.
وينفي الرئيس السابق هذه التهم، ويدعي أنها جزء من جهود سياسية تبذلها ادارة الرئيس بايدن للتدخل في الانتخابات ومنعه من العودة إلى البيت الابيض. وفور صدور لائحة التهم أصدرت حملة ترامب الانتخابية بيانا وصفت فيه المحقق الخاص ومحاميه بالفاشيين والشيوعيين، وأضاف البيان ” هذا الاضطهاد غير القانوني للرئيس السابق وأنصاره يذّكرنا بألمانيا النازية في ثلاثينات القرن الماضي”.
وتضمنت اللائحة، تهم موجهة ضد ستة اشخاص آخرين شاركوا في هذه المؤامرات، ولكن لائحة الادعاء لم تذكرهم بالاسم، ويعتقد أن ذلك يعود لرغبة المحقق الخاص سميث، اعطاء هؤلاء فرصة أخيرة للتعاون مع التحقيق، وربما الادلاء بشهادات ضد ترامب خلال المحاكمة. ولكن الادعاء يصف هؤلاء الأشخاص ويتطرق إلى بعض ما قاموا به من انتهاكات، ويبين هذا الوصف الدقيق أن الادعاء يشير إلى حلفاء ترامب الرئيسيين ومعظمهم من أبرز محاميه، مثل رودولف جولياني وجون أيستمن وسيدني بأول وجيفري كلارك، الموظف في وزارة العدل، والذي كان ترامب قد اقترب من تعيينه وزيرا للعدل بالوكالة.
صحيح أن معظم التهم معروفة، أو كانت قيد النقاش في الأوساط السياسية والقانونية والاعلامية، إلا أن حجم المؤامرات وشموليتها وتفاصيلها، خاصة وأن الادعاء يتطرق بالتفصيل إلى أساليب الترهيب والتضليل ومحاولات تزوير نتائج الانتخابات في ولايات محورية، مثل أريزونا وجورجيا وميتشغان وبنسلفانيا وويسكونسن. وتوثق لائحة التهم أن ترامب والمتآمرين معه كانوا يدركون أنهم خسروا الانتخابات، وأن مسؤولين في حملته الانتخابية، ومسؤولين بارزين في إدارته، من بينهم وزير العدل وليام بار، ومسؤولين في أجهزة الاستخبارات، ومسؤولين انتخابيين في مختلف الولايات، وبعض حكام الولايات، وحتى أفراد من عائلة ترامب، قد أكدوا له أنه خسر الانتخابات، إلا أنه واصل مع المتآمرين معه على التمسك بأكاذيبه وتضليله.
وجاء في لائحة التهم أن “هذه الادعاءات كانت خاطئة، وأن المدعى عليه (ترامب) كان يعلم أنها خاطئة. في الواقع تم ابلاغ المدعى عليه مرارًا أن ادعاءاته كانت غير صحيحة، وأحيانا كثيرة من أفراد اعتمد عليهم لإعطائه المشورة الصريحة حول القضايا الهامة، من الذين كانوا في أفضل المناصب لمعرفة الحقائق، ومع ذلك فإنه تجاهل الحقيقة عن قصد”.
وتوضح تفاصيل الادعاء أن ترامب والمتآمرين معه لم يسعوا فقط لقلب نتائج الانتخابات، بل إلى التلويح باستخدام القوة العسكرية لإبقاء ترامب في السلطة. ويشير الادعاء إلى أن نائب محامي البيت الأبيض أبلغ المتآمر مع ترامب، الذي يصنفه الادعاء المتآمر رقم 4، والذي يعتقد أنه المسؤول البارز في وزارة العدل جيفري كلارك أنه إذا اصرّ ترامب على البقاء في منصبه بعد انتهاء ولايته، “سوف تحدث تظاهرات صاخبة في جميع المدن الرئيسية في الولايات المتحدة،” وأن كلارك أجابه، “ولهذا السبب لدينا قانون مكافحة العصيان”، في إشارة إلى القانون الوحيد الذي يسمح للرئيس الأميركي بنشر القوات المسلحة داخل الولايات المتحدة ضد المواطنين الذين يلجؤون إلى العنف، لحفظ الأمن. وهذا يعني أن هذه المؤامرات لم تهدف إلى إلغاء نتائج الانتخابات فحسب، بل شملت أيضا احتمال استخدام القوات الأميركية المسلحة ضد الأميركيين.
سوف يسعى المحقق الخاص سميث إلى بدء محاكمة ترامب بهذه التهم في واشنطن، قبل انتخابات الرئاسة، ولكنه سوف يواجه محاولات عنيدة من محامي ترامب وأنصاره لتأجيلها لما بعد الانتخابات، أو تأخيرها لأطول فترة ممكنة. وفي حال توجيه تهم جنائية جديدة في ولاية جورجيا ضد ترامب كما هو متوقع، فهذا يعني أن ترامب، الذي يمكن أن يضمن خلال النصف الأول من السنة المقبلة ترشيح حزبه لمنصب الرئاسة، سوف يجد نفسه في وضع صعب سياسيًا وقانونيًا ولوجستيًا، وهو يحاول التوفيق بين متطلبات حملته، مثل المشاركة في المهرجانات والنشاطات الحزبية والسياسية في مختلف الولايات، والمثول أمام أربعة قضاة سوف ينظرون مع عشرات المحلفين في الانتهاكات العديدة والمتشعبة الموجهة إليه في نيويورك وواشنطن وجورجيا وفلوريدا، وهذه سابقة لم تشهدها البلاد، تضاف إلى السوابق العديدة التي جلبها ترامب للأميركيين.
اخفاق ترامب في البقاء في السلطة، لا يلغي حقيقة نجاحه الباهر في تقويض صدقية الانتخابات في الولايات المتحدة، حيث تبين استطلاعات الرأي أن أكثر من 30 بالمئة من الناخبين يقولون إن انتخابات سنة 2020 كانت مزورة، حيث تؤكد الدلائل عكس ذلك، وهي سابقة مقلقة في تاريخ البلاد. ومنذ الانتخابات اكتسبت سردية الانتخابات المزورة وظاهرة ترامب الضحية شعبية كبيرة في أوساط الجمهوريين، الأمر الذي يفسر لجوء العديد من قادة الحزب الجمهوري، وخاصة في مجلس النواب، بمن فيهم رئيسه كيفن ماكارثي، إلى رفض اتهامات وزارة العدل لترامب، حتى قبل قراءتها، أو التشكيك بصدقية تحقيقات مكتب التحقيقات الفيدرالي (الإف بي آي) بانتهاكات الرئيس السابق قبل معرفة تفاصيلها أو نتائجها.
وفي السنوات الماضية يردد القادة الجمهوريون ادعاءات كثيرة لا أساس لها، مثل القول بأن هناك نظامين للعدالة في البلاد، واحد للديموقراطيين والثاني للجمهوريين، كما يتهمون الرئيس بايدن وإدارته باستخدام وزارة العدل والإف بي آي “كسلاح” ضد خصومهم السياسيين. بل إن اللجنة القضائية في مجلس النواب التي يرأسها النائب جيمس جوردان، الذي يؤيد ترامب بقوة، نظمت جلسات استماع لمناقشة “عسكرة” وزارة العدل والإف بي آي ضد ترامب وأنصاره. النائب جوردان دعا أيضًا إلى تقليص ميزانية وزارة العدل والإف بي آي كإجراء عقابي.
وللتدليل على أن حقائق الحياة السياسية في الولايات المتحدة تبدو في أحيانًا كثيرة، وكأنها قد انقلبت رأسًا على عقب، كانت شعبية ترامب في أوساط الجمهوريين ترتفع بشكل ملحوظ بعد توجيه التهم الجنائية ضده، وما يصاحبها من ارتفاع في معدلات التبرعات المالية التي يتلقاها من الناخبين العاديين، والتي يستخدمها لدفع نفقات محاميه، ومحامي شركائه في انتهاكاته. ولن يفاجأ أي مراقب أن تؤدي لائحة الاتهامات الأخيرة، على الرغم من خطورتها واستثنائيتها إلى تعزيز ترامب من مكانته كأهم مرشح جمهوري لمنصب الرئاسة.
كما تؤكد جميع استطلاعات الرأي، وآخرها الاستطلاع الواسع الذي أجرته صحيفة نيويورك تايمز بالتعاون مع جامعة سيينا، على المستوى الوطني، كأول استطلاع حول انتخابات الرئاسة في 2024.
وأظهر الاستطلاع أن ترامب متقدم على أقرب منافس له، رون ديسانتس، حاكم ولاية فلوريدا بـ 37 نقطة، تاركًا ورائه منافسيه الأخرين، ومن بينهم نائبه السابق مايك بينس، وممثلته السابقة في الأمم المتحدة نيكي هايلي وغيرهما، بنسب محرجة لا تتعدي ثلاث نقاط أو حتى نقطتين فقط. الأمر اللافت هو أن الاستطلاع أظهر تفوق ترامب في مختلف الفئات الديموغرافية للناخبين الجمهوريين. وحتى قبل بدء المناظرات بين المرشحين، وقبل أقل من ستة أشهر على أول انتخابات حزبية، هناك قاعدة جمهورية بين 30 و35 بالمئة من الناخبين سوف تظل موالية لترامب، بغض النظر عن أي اتهامات جنائية توجه إليه، أو أي انتقادات سياسية يتجرأ أي من منافسيه حتى على الهمس بها.
الأمر المفاجئ الذي أظهره هذا الاستطلاع أيضًا هو أن ترامب، على الرغم من الاتهامات الموجهة إليه، متعادل مع الرئيس بايدن حيث حاز كل منهما على 43 بالمئة من أصوات الناخبين. هذا التعادل الذي يأتي بعد أن عزز بايدن من مكانته داخل حزبه، وبعد الانخفاض الملحوظ في معدلات التضخم، يعني أن بايدن، في حال فاز ترامب بترشيح حزبه، سيواجه خصمًا يتمتع بمناعة لم يحدث أن تمتع بها رئيس أميركي سابق في تاريخ البلاد. أكثرية القاعدة الديموقراطية لا تريد بايدن أن يكون مرشح الحزب في 2024، لأكثر من سبب أبرزها تقدمه في السن (سيكون في الثانية والثمانين في 2024)، والأسئلة (الشرعية أو المبالغ بها) التي تحيط بأهليته الجسدية، وحتى الذهنية لقيادة البلاد في ولاية ثانية. ولهذا السبب هناك حماس محدود للغاية في أوساط الديموقراطيين لولاية ثانية لبايدن. العديد من الديموقراطيين الذين يقولون أنهم سيصوتون لبايدن في 2024، يؤكدون أنهم سيفعلون ذلك بتردد، لأنهم لا يريدون عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
وبغض النظر عن تحدياته القضائية، سوف يبقى ترامب مخيمًا بظله الكبير على الحياة السياسية الأميركية، على الأقل حتى نوفمبر/تشرين الأول 2024. ويمكن أن نضيف سابقة أخرى لترامب وهي أنه لم يقرأ رئيس أميركي سابق خبر وفاته سياسيًا، أو يسمع بنعيه المبكر كما قرأ أو سمع دونالد ترامب.