ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
يمكن وصف الأسبوع المنصرم بأنه الأسوأ للرئيس دونالد ترامب وحكومته، كما يمكن القول إن ترامب مسؤول بالدرجة الأولى عن وضع نفسه في مأزق أرغمه للمرة الأولى على التراجع بشكل محرج، عن سياسية قاسية تهدف إلى ردع المهاجرين غير الشرعيين والمطالبين باللجوء السياسي من عبور الحدود الجنوبية للبلاد، وذلك من خلال فصل الأطفال، حتى ولو كانوا رضّع عن أهاليهم، ووضعهم في مراكز اعتقال داخل مربعات من سياج الأسلاك وصفها الصحافيون والمراقبون بالاقفاص.
هذه السياسة التي بدأت إدارة ترامب بتنفيذها قبل أقل من شهرين، أثارت استنكار وشجب منظمات حقوق الإنسان، وقادة بعض الدول الديمقراطية الغربية مثل تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا، والبابا فرانسيس اللذان وصفا سياسة ترامب الجديدة بغير الأخلاقية وغير الإنسانية. هذه السياسة بدت نافرة وحافلة بالتناقضات والمفارقات بشكل محرج هذا الأسبوع لأن تسليط الاهتمام النقدي عليها تزامن مع انسحاب الولايات المتحدة يوم الثلاثاء من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والذي يتخذ من جنيف مقرا له، بحجة انتقادات المجلس المتكررة لانتهاكات إسرائيل لحقوق الفلسطينيين، ولتردد المجلس بانتقاد انتهاكات حقوق الإنسان في بعض الدول التي انتخبت لعضوية المجلس مثل الصين وروسيا وفنزويلا. مندوبة واشنطن لدى الأمم المتحدة السفيرة نيكي هايلي اتهمت المجلس بأنه “بالوعة من الانحياز السياسي” ضد إسرائيل. ويوم الأربعاء أحيا وزير الخارجية مايك بومبيو ذكرى اليوم العالمي للاجئين، مثنيا على “صلابة وشجاعة وثبات ملايين اللاجئين في العالم”. ولكن بومبيو تجاهل ذكر اللاجئين والمطالبين بحق اللجوء الذين يقرعون بوابات العبور الحدودية بين الولايات المتحدة والمكسيك. كما لم يتطرق بومبيو إلى حقيقة أن حكومته قد قلصت بنسبة كبيرة عدد اللاجئين الذين تقبل باستيعابهم كل سنة.
المهاجرون كحشرات
كانت مشكلة الهجرة، وتحديدا الهجرة غير الشرعية، في جوهر مسيرة ترامب إلى البيت الأبيض. ومنذ لحظة إعلانه عن ترشحه، شنّ ترامب هجوما شنيعا ضد المهاجرين وركّز خاصة على ما اسماه بتجار المخدرات والمغتصبين القادمين من المكسيك. هذه اللغة النافرة لم تفارقه حتى بعد أن وجد نفسه وحيدا في الأيام الماضية، عندما انتقده أقطاب حزبه الجمهوري في الكونغرس، وحتى أفراد من عائلته. ترامب واصل الحديث عن أنه إذا بقيت الحدود مفتوحة سوف تتعرض الولايات المتحدة إلى اجتياح من قبل المهاجرين من دول أمريكا الوسطى والشرق الأوسط، مستخدما كلمة تستخدم عادة لوصف اجتياح الحشرات للمنازل. وكعادته يبالغ ترامب ويضخم الأمور ويضلل الرأي العام عندما يصف أي ظاهرة لا تعجبه. وهكذا يتحدث عن المهاجرين وكأنهم إما لصوص أو تجار مخدرات أو أفراد عصابات، وفي هذا السياق يرى أن أطفالهم سوف يصبحون مثل آبائهم عندما يبلغون سن الرشد. ويناقض ترامب نفسه حتى خلال الجملة الواحدة. فهو مثلا يهاجم المكسيك لأنها لا تعترض اللاجئين والمهاجرين من غواتيمالا والسلفادور الذين يعبرون أراضيها للوصول إلى أمريكا، وينسى أنه فرض رسوم تجارية ضدها، ويواصل هجماته وانتقاداته اللاذعة للمكسيك كحكومة وكثقافة، ثم يعود للشكوى ضدها لأنها لا تساعده في سياسته القاسية ضد المهاجرين واللاجئين.
جاءت فضيحة فصل الأطفال عن أهاليهم ووضعهم في أقفاص، بعد اعتقال الأهالي أو ترحيلهم خارج البلاد، والقيام بهذه الممارسات بالسر – حتى الآن لم يسمح لوسائل الاعلام بزيارة أو تصوير مراكز الاعتقال- بعد سلسلة من المواقف والإجراءات التي اعتمدها ترامب خلال الأسابيع الماضية وساهمت في تعميق الاستقطابات السياسية في البلاد، وتأزيم العلاقات مع حلفاء واشنطن التقليديين. وخلال أيام، هاجم ترامب وسخر من رئيس وزراء كندا جاستن ترودو، وأهانه عندما ذهب متأخرا إلى قمة الدول الصناعية السبعة في كندا، وغادر القمة مبكرا، لمجرد أن ترودو قال إنه سيرد بالمثل على إجراءات الحماية التي أعلنها ترامب ضد البضائع الكندية. ومقابل إهانات ترامب لحلفائه التقليديين –دول الاتحاد الأوروبي، المكسيك وكندا- كان يكيل المديح على صديقه الجديد دكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون، بعد أن اكتشف خلال قمة سنغافورة، أن الزعيم الذي اغتال أفراد من عائلته ووضع عشرات الالاف من مواطنيه في معسكرات اعتقال، هو في الواقع زعيم قوي يحب شعبه ومفاوضا بارعا وظريفا، كما يقول ترامب.
أطفال في اقفاص
ولكن الأمريكيين في الأيام الماضية نسوا تحركات ترامب الدولية المحرجة، ليواجهوا ما يمكن وصفه بأزمة أخلاقية وقانونية وسياسية لا يمكنهم تجاهلها: أطفال دون سن العاشرة في أقفاص، ترحيل العديد من الأهالي، دون أطفالهم، ما يعني المجازفة بفصل الأطفال عن أهاليهم مدى الحياة، وإبقاء الأطفال الذين فصلوا عن أهاليهم قيد التوقيف. ووصل عددهم خلال الشهرين الماضيين إلى 2300 طفلا، في مراكز اعتقال مغلقة. وحتى الآن لم تفصح السلطات عن أماكن وجود الفتيات القاصرات، حيث قامت في الأيام الماضية بتسليم الأطفال إلى مراكز حضانة، أو في بيوت خاصة في عدد من الولايات. وحتى بعد أن وقع ترامب، تحت ضغوط كبيرة، على قرار تنفيذي يقضي بإنهاء سياسة فصل الأهالي عن الأطفال، لا أحد يعرف كيف ستنتهي هذه الازمة، لأن قرار ترامب الجديد يقضي باعتقال الأهالي مع أطفالهم ووضعهم في مركز الاعتقال ذاته.
وخلال الأيام الماضية شاهد ملايين الأمريكيين صورا مؤلمة لاطفال لا يتعدى عمرهم الخامسة ينحبون خلال اعتقال اهاليهم أو التحقيق معهم. وعلى مدى ايام، استمع الأمريكيون إلى تسجيل صوتي سربه محام من أحد مراكز الاعتقال لعشرة أطفال دون سن العاشرة هو عبارة عن سبعة دقائق من العويل والنحيب المستمرين الأطفال يصرخون بالاسبانية : أمي، أبي، وبالكاد يتوقفون عن النحيب لالتقاط انفاسهم. الاهتمام الإعلامي المكثف، وإدانات منظمات حقوق الإنسان الأمريكية والدولية، ساهمت في تحريك المجتمع المدني، وجرى تنظيم التظاهرات والاحتجاجات ضد هذه السياسة القاسية التي رأى فيها الأكثرية من الأمريكيين أنها تتعارض مع قيم بلادهم وتقاليدها. وحتى المطالبون بإجراءات قوية لرصد الحدود ومنع الهجرة غير الشرعية، شددوا على أنه يمكن للسلطات أن تحمي الحدود، وفي الوقت نفسه تفادي اتخاذ إجراءات تنتهك حقوق اللاجئين وأطفالهم. ووجد أمريكيون عديدون أنفسهم وهم يتسائلون عما حدث لبلادهم، وكيف وصلت إلى مرحلة تبرير “خطف” الأطفال واحتجازهم لفترات مفتوحة.
ولأسابيع، تمسكت إدارة ترامب بادعاءات وأكاذيب صارخة لتضليل الأمريكيين بأنها عاجزة عن وقف هذه الممارسات، وأن فصل الأطفال عن أهاليهم يتم وفقا لقانون أقر خلال ولاية الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، وهذا ادعاء لا صحة له على الإطلاق. كما ادعى ترامب مرارا، أن الديمقراطيين في الكونغرس وليس حكومته هم الذين يمثلون العقبة الكبرى أمام حل المعضلة الراهنة، على الرغم من سيطرة الجمهوريين على مجلسي الكونغرس. وصباح الجمعة الماضية، ادعى ترامب أن توقيعه على أي قرار تنفيذي بهذه الخصوص لن يكون حلا. وبعد تفاقم الانتقادات يوم الثلاثاء، وبعد تخلي قادة الحزب الجمهوري الواحد تلو الآخر عن توفير الغطاء لترامب، تراجع الرئيس وأكتشف أنه بالفعل قادر على توقيع قرار تنفيذ يوقف سياسة فصل الأهالي عن أطفالهم، وهي السياسة التي أعلنها وزير العدل جيف سيشينز قبل أسابيع، حين اعترف أن الهدف منها هو ردع اللاجئين والمهاجرين من خلال التهديد بحرمانهم من أطفالهم.
ومع أن استطلاعات الرأي التي مسحت اراء المواطنين الأمريكيين أظهرت أن أكثريتهم تعارض سياسات ترامب تجاه الهجرة واللاجئين، إلا أن استطلاعات الرأي التي مسحت آراء الناخبين الجمهوريين، وجدت أن اكثريتهم توافق على سياسة ترامب القاسية ضد اللاجئين، بمن فيهم أكثرية الناخبين من المسيحيين الإنجيليين. أزمة فصل الأطفال عن أهاليهم، دفعت بالكنائس الأخرى، وتحديدا الكنيسة الكاثوليكية، وهي من أكبر الكنائس الأمريكية، والكنيسة الأسقفية إلى التنديد القوي بأساليب وسياسات ترامب واعتبارها غير أخلاقية وغير إنسانية، ويمكن أن تلحق أضرارا نفسية بضحاياها الأطفال.
انسحاب أمريكي من العالم
خلال الأسابيع الماضية، واصل ترامب انسحاب أمريكا التدريجي من العالم من خلال تقويضه للأحلاف التي بنتها واشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما عكس سلوكه خلال قمة الدول الصناعية السبعة، وكما يتبين من إجراءات الحماية التي فرضها على اقتصاديات الدول الحليفة. انسحاب واشنطن من مجلس حقوق الإنسان في جنيف، هو تكملة لانسحاب إدارة ترامب من اتفاقية باريس للبيئة، ولاتفاقية الشراكة لدول حوض المحيط الهادئ، وانسحابه من الاتفاق النووي الدولي الموقع مع إيران. وتأتي هذه التطورات على خلفية انتشار أخبار وتكهنات حول تأزم العلاقات بين ترامب ومدير البيت الأبيض الجنرال المتقاعد جون كيلي الذي نسب إليه قوله إنه لم يعد قادرا على ضبط سلوك ترامب، وأنه لم يعد يبالي بذلك حتى ولو أدى سلوك ترامب إلى محاكمته من قبل مجلس النواب، وفقا لتقرير نشره موقع بوليتيكو. في المقابل بدأت تبرز تكهنات وتلميحات تشير إلى نمو مشاعر الفتور بين الرئيس ترامب ووزير الدفاع الجنرال المتقاعد جيمس ماتيس، لأن الأخير فوجيء بقرار ترامب الاعتباطي بوعد كيم جونغ أون خلال قمة سنغافورة بتجميد المناورات العسكرية الدورية التي كانت وزارة الدفاع الأمريكية تعتزم اجرائها مع قوات كوريا الجنوبية، وكذلك انزعاج ماتيس من قرار ترامب المفاجيء بمطالبة القوات المسلحة الأمريكية بإيواء حوالي 20 ألف مهاجر أو لاجئ في منشآتها وقواعدها العسكرية لفترات غير محددة. وتشمل الاجتهادات المتباينة لترامب وماتيس مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في شمال- شرق سوريا، حيث تدعو وزارة الدفاع إلى بقاء هذه القوات في سوريا للتصدي لفلول تنظيم “الدولة الإسلامية”، ولكن الأهم من ذلك البقاء في تلك المنطقة الغنية نفطيا وزراعيا، لحرمان إيران ونظام الأسد من إقامة جسر بري بين إيران وسوريا يمر عبر تلك المنطقة. وكان الرئيس ترامب قد قال في أكثر من مناسبة أنه يريد ويعتزم سحب هذه القوات. وهناك مخاوف في الأوساط السياسية، وخاصة تلك المعنية بالشرق الأوسط، من احتمال وصول الخلافات بين ترامب من جهة والجنرالين كيلي وماتيس إلى مرحلة الحسم، وأن تؤدي إلى إقالة أو استقالة الجنرالين وخاصة ماتيس الذي خدم في المنطقة ويعرف قادتها وتربطه ببعضهم علاقات قوية، إلى تغييرات ومضاعفات بالغة الأهمية على النفوذ الأمريكي في المنطقة، وعلى علاقات واشنطن مع حلفائها العرب.