ارتقت الأزمة الراهنة بين الولايات المتحدة وإيران إلى مرحلة أعلى من الخطورة النوعية يوم الخميس بعد تفجير ناقلتي نفط يابانية ونرويجية في خليج عمان، ما أرغم طاقم السفينتين على إخلائها تحت دخان النيران المشتعلة فيهما، وبعد اتهام وزير خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو إيران بتفجير الناقلتين، في”تصعيد غير مقبول”، وتحميلها أيضا مسؤولية تفجير ثلاثة ناقلات أخرى في الشهر الماضي، وغيرها من الهجمات التي استهدفت السفارة الأمريكية في بغداد، وحلفاء واشنطن وتحديدا السعودية ودولة الإمارات. تحميل الوزير بومبيو للنظام الإيراني المسؤولية المباشرة عن الهجمات، بدلا من اتهام وكلاء وعملاء طهران في المنطقة، هو تحّول نوعي في موقف واشنطن منذ اندلاع الأزمة الأخيرة قبل بضعة أسابيع، وسوف يعزز من الضغوط المباشرة على واشنطن من قبل النظام الإيراني لكي تخفف ضغوطها الحانقة على اقتصاده، وغير المباشرة من قبل حلفاء واشنطن في المنطقة وتحديدا السعودية ودولة الإمارات للرد العسكري المباشر على هذا التصعيد النوعي الإيراني.
بومبيو يوجه أصبع الاتهام لطهران
الوزير بومبيو لم يقدم الدلائل التي تؤكد مسؤولية إيران عن الهجمات، كما أن إيران سارعت إلى نفيها بقوة، واتهام واشنطن وحلفائها في المنطقة مثل السعودية ودولة الإمارات وإسرائيل، بقرع طبول الحرب. ورد الأمريكيون على احتجاجات إيران وادعائها البراءة بتذكير مسؤوليها بتصريحاتهم العلنية بتهديد الملاحة في مياه الخليج بما في ذلك التهديد بإغلاق مضيق هرمز أكثر من مرة في السنوات الماضية، وكان آخرها تهديد الرئيس حسن روحاني بعرقلة تجارة النفط في الخليج حين قال في السنة الماضية مخاطبا الرئيس ترامب “نحن شعب الكرامة والضامن لأمن الممرات المائية في المنطقة عبر التاريخ. لا تلعب بذنب الأسد لانك ستندم”. لاحقا رد ترامب على روحاني مغردا ومهددا إيران بأنها إذا هددت أمريكا بالفعل فإنها “ستتعرض إلى عواقب وخيمة لم يشهد مثلها إلا القليل عبر التاريخ”. وفي الأيام الماضية هدد المسؤول الإيراني البارز حسين أمير عبداللهيان السعودية والإمارات وإسرائيل بانها إذا لم توقف ما أسماه “سياساتها القذرة” في دعم الولايات المتحدة “في حربها الاقتصادية ضد إيران” فإنها ستواجه “القرار الصاعق من إيران”.
وساهم توقيت الهجمات، خلال زيارة رئيس وزراء اليابان شينزو آبي لإيران في محاولة للتوسط بين طهران وواشنطن، وهو ما تمناه عليه الرئيس ترامب خلال زيارته قبل أسابيع لطوكيو، بخلق الأسئلة والشكوك حول مسؤولية إيران عن التفجيرات. ولكن هذه الشكوك تزامنت مع الرفض الإيراني القاطع لأي وساطة والذي عبّر عنه بوضوح وفظاظة المرشد علي خامنئي خلال اجتماعه برئيس وزراء اليابان حين قال “أنا لا أعتبر أن ترامب كإنسان يستحق أن أتبادل الرسائل معه. نحن لن نتفاوض مع الولايات المتحدة”. وسارع الرئيس ترامب للرد على خامنئي قائلا “مع أنني أثمن جدا ذهاب رئيس الوزراء آبي إلى إيران للاجتماع بآية الله علي خامنئي، إلا أنني أشعر شخصيا أنه من المبكر حتى التفكير بالتوصل إلى صفقة. هم غير مستعدين، ونحن أيضا غير مستعدين”.
التلويح بالسيف وغصن الزيتون معا
خلال الأسابيع الماضية تراوحت مواقف الرئيس ترامب وكبار مستشاريه تجاه طهران بين تضييق الخناق الاقتصادي والتهديد بالسيف من جهة، وبين المرونة السياسية والتلويح بغصن الزيتون الديبلوماسي من جهة أخرى. وخلال هذه الفترة كان التقويم الأولي لمعظم المحللين في واشنطن وطهران وفي العواصم المعنية في المنطقة والعالم، هو أن الرئيس ترامب شخصيا، والقيادة العسكرية الأمريكية لا يسعون إلى حرب مع إيران، كما أن القيادة الدينية-السياسية في إيران أيضا لا تريد الدخول في حرب مباشرة مع الولايات المتحدة.
بدأت الأزمة الراهنة في الشهر الماضي عقب تقارير استخباراتية أمريكية حذرت من احتمال تعرض القوات الأمريكية المنتشرة في المنطقة إلى اعتداءات على أيدي العناصر العسكرية التي تعمل لصالح إيران في المنطقة. وصاحب ارسال الامدادات العسكرية البحرية والجوية إلى المنطقة تصريحات متشددة من المسؤولين الأمريكيين مثل قول مستشار الأمن القومي جون بولتون إن “أي هجوم ضد مصالح الولايات المتحدة أو مصالح حلفائها سوف نواجهه بالقوة الصارمة”. وكان بولتون، الذي أعلن عن إرسال حاملة الطائرات إلى الخليج قبل التحاقه بادارة ترامب من دعاة تغيير النظام في طهران. المواقف المتشددة لبولتون، وخلافه مع بعض الأصوات المعتدلة في الادارة، دفعت بالرئيس ترامب وفقا لتقارير صحفية عديدة للتعبير عن احباطه وقلقه من التصعيد العسكري. وسارع ترامب للتأكيد علنا خلال مؤتمر صحفي مشترك مع شينزو آبي ” نحن لا نتطلع الى تغيير النظام (في إيران)، واريد أن أقول ذلك بوضوح” مؤكدا أن أهم ما يريده هو أن لا تصبح إيران دولة نووية عسكريا. وأضاف ترامب “أنا اعتقد أن إيران تريد أن تتحدث معنا”. وفي الأسبوع الأول من الشهر الجاري، كرر ترامب القول “أنا أفضل التحدث … وفهمي هو أنهم يريدون أن يتحدثوا معنا”. ولكن هجمات يوم الخميس دفعت ترامب للاعتراف بأن الأمريكيين والإيرانيين غير مستعدين للتفاوض.
ويوم الخميس، وخلال توجيه الاتهامات لإيران بأنها وراء التفجيرات، قال المسؤولون المدنيون والعسكريون أن واشنطن لا تسعى للدخول في مواجهة عسكرية مع إيران. الوزير بومبيو قال إن سياسة الرئيس ترامب لا تزال في التركيز على الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية “لإعادة إيران إلى طاولة المفاوضات في الوقت المناسب”. ولاحقا قال الناطق باسم القيادة المركزية التي تشرف على القوات الأمريكية في المنطقة الكولونيل أيرل براون ان القوات الأمريكية سوف تتخذ كل الإجراءات لحماية نفسها ومصالحها، ولكنه أضاف “ليس لدينا مصلحة في الدخول في نزاع جديد في الشرق الأوسط”. وتابع “سوف ندافع عن انفسنا، ولكن الحرب مع إيران ليست من مصلحتنا الاستراتيجية، كما ليست من مصلحة المجتمع الدولي”. ويرى بعض المحللين أن لجوء إيران إلى التصعيد العسكري، إن كان من خلال تفجير ناقلات النفط في الخليج، أو من خلال استخدامها لوكلائها أو الميليشيات التي تسلحها في المنطقة، ومن بينهم الحوثيون في اليمن لاطلاق صواريخ ضد مواقع مدنية في السعودية مثل قصف مطار أبها الدولي قبل تفجير الناقلات، يعكس قناعتها بأن واشنطن، والرئيس ترامب تحديدا لن يدخل في نزاع عسكري مع إيران. ويرى هؤلاء أن الإيرانيين الذين سيتفادون مواجهة الأمريكيين بشكل مباشر في مياه الخليج أو ضد قواتهم البرية في العراق وسوريا، لن يترددوا في ضرب أهداف حلفائهم، كما فعلوا من خلال تفجير الناقلات وقصف مطار أبها، لأنهم مقتنعون أن أمريكا لن تعاقب إيران عسكريا بسبب استهدافها لحلفائها. ويتوقع هؤلاء أن يؤدي هذا الموقف الأمريكي إلى استياء حلفاء واشنطن في المنطقة الذين سيتهمون ترامب إذا استمر، كما هو متوقع، على البقاء على موقفه بأنه “يلوّح بالسيف ولا يريد استخدامه” كما قال لنا أحد المحللين المطلعين على الاتصالات بين المسؤولين الأمريكيين ونظرائهم في السعودية ودولة الإمارات.
العقوبات الاقتصادية
وإذا كان الرئيس ترامب لا يريد حربا جديدة في الشرق الأوسط ضد دولة مثل إيران يدرك مسبقا أن حلفاء أمريكا التقليديين في الغرب لن يشاركوا فيها، إلا أنه يعوّل كثيرا على العقوبات الاقتصادية لإرغام إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات. حتى الآن ما هو مؤكد أن العقوبات الاقتصادية، التي منعت الدول الصناعية القريبة من واشنطن مثل اليابان ودول أوروبية من التعامل التجاري معها، قد ألحقت بالاقتصاد الإيراني أضرارا فادحة، لا تستطيع إيران تحملها لوقت مفتوح. ويرى محللون كثر أن انحسار الاقتصاد الإيراني بسبب العقوبات، وتدني أسعار النفط يفسر إحباط واستياء طهران الأمر الذي دفعها إلى تفجير “حرب ناقلات” جديدة، كما يصفها بعض المحللين العسكريين، في إشارة إلى “حرب الناقلات” الأولى خلال الحرب العراقية-الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي. وكانت واشنطن في الشهر الماضي قد أنهت الاعفاءات من العقوبات الاقتصادية التي اعطتها لبعض حلفائها حين انسحبت من الاتفاق النووي الدولي مع إيران واستأنفت عقوباتها الاقتصادية. وفي مطلع نيسان-ابريل الماضي صعدّت واشنطن من ضغوطها على إيران بشكل نوعي، عندما قامت بتصنيف الحرس الثوري الإيراني بكامله كتنظيم إرهابي أجنبي، وفرضت على التنظيم وقياداته وشركاته الاقتصادية عقوبات واسعة أثرت جذريا على نشاطاته الاقليمية والدولية وتحركات قادته. وقال الرئيس ترامب في اعلانه عن هذا التصنيف أنه يهدف إلى “توسيع مدى وعمق ضغوطنا القصوى على النظام الإيراني”.
وفي تصعيد اقتصادي نوعي وبالغ الأهمية، وإن لم يحظ بالاهتمام الإعلامي الذي يستحقه، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية في السابع من الشهر الجاري عقوبات غير مسبوقة على مجمل الصناعات البتروكيميائية الإيرانية، في ما اعتبر ضربة اقتصادية موجعة للغاية لأهم قطاع اقتصادي إيراني، من المتوقع أن يؤدي إلى تقليص هام في عائدات إيران المالية. وكانت واشنطن قد فرضت عقوبات في السابق على شركات بتروكيماوية إيرانية، ولكنها المرة الأولى التي تستهدف فيها القطاع بكامله. وزارة الخزانة بررت العقوبات الشاملة بسبب دعم القطاع لتنظيم الحرس الثوري الإيراني. وبالإضافة إلى ذلك، شملت العقوبات 39 شركة تابعة للقطاع مسجلة خارج إيران. ويوم الأربعاء، أي قبل أقل من 24 ساعة من تفجير الناقلتين، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات ضد شركة عراقية، وشركتين تابعتين لها بسبب مساعدتها لفيلق القدس التابع للحرس الثوري للتهرب من العقوبات الأمريكية المفروضة عليه، من خلال تهريب ما قيمته مئات الملايين من الدولارات من شحنات الاسلحة، لبعض التنظيمات العراقية الموالية لإيران. وقال المسؤولون الأمريكيون أن الشركة المستهدفة كانت تساعد أبو مهدي المهندس وهو من مستشاري قاسم سليماني قائد فيلق القدس، والذي كان مطلوبا من القوات الأمريكية قبل انسحابها من العراق في 2011 بتهمة قتل جنود أمريكيين.
لماذا التصعيد الإيراني الأخير؟
يقول الباحث بول سالم، رئيس معهد الشرق الأوسط، وهو من أقدم مراكز الأبحاث المعنية بالمنطقة في واشنطن، أن التصعيد الإيراني الأخير، بما في ذلك تفجيرات يوم الخميس، مبني على تقييم إيراني يقول إن الرئيس ترامب لن يتورط في حرب مع إيران، وخاصة إذا بقيت الهجمات الإيرانية مركزة على حلفاء واشنطن. وينقل عن وزير خارجية إيران جواد ظريف، عندما التقى به في نيويورك خلال زيارة ظريف الأخيرة للأمم المتحدة، قوله إن العقوبات الاقتصادية الأمريكية التي وصفها “بالقاتلة” لن تمر دون ثمن، وأنه في حال تعرض إيران لأي ضربة عسكرية أمريكية فإنها سترد على حلفاء أمريكا وتحديدا السعودية ودولة الإمارات، وأنه “إذا تم منع إيران من تصدير نفطها، فإنها لن تسمح بدورها للدول الخليجية الأخرى بتصدير نفطها أيضا”. ويرى سالم، في حوار خاص، أن تصريحات ترامب الإيجابية بشأن التحاور مع إيران، قد تم نسفها عمليا عندما فرضت وزارة الخزانة عقوباتها القاسية للغاية ضد قطاع صناعات البتروكيماويات، وأخيرا عقوباتها ضد الشركة العراقية بهدف تضييق الخناق أكثر على الحرس الثوري ونشاطاته. ويضيف أن الإيرانيين يقولون إن “ترامب يتحدث عن التفاوض مع الإيرانيين، ولكنه في الواقع يصعد حربه الاقتصادية ضدنا”. ويرى سالم أن هناك نوع من “المنطق” الإيراني الذي يفسر سلوكهم العدائي الأخير، ويضيف “إيران تعتقد أنها حشرت الولايات المتحدة لأنها مقتنعة أن ترامب لا يريد الحرب”. ووفقا لهذا التقييم، سوف تصعد إيران من ضغوطها ضد السعودية ودولة الإمارات وتهديد الملاحة في الخليج، وأنها ستدعي أن ترامب هو المسؤول الحقيقي عن التصعيد، وفي حال تعرضها لضربة عقابية أمريكية فإنها سترد بضرب حلفاء أمريكا، في محاولة لخلق الخلافات بينهم وبين واشنطن، في حال امتنع ترامب عن توفير مظلة حماية لهم.
ويرى بول سالم أن ما تريده إيران في هذه المرحلة هو تنازلات أمريكية معينة لتخفيف الخناق الاقتصادي عليها، مثل العودة إلى إعفاء الدول الصناعية التي كانت تستورد النفط الإيراني مثل اليابان والدول الأوروبية من العقوبات الأمريكية، مقابل وقف عملياتها التخريبية في الخليج، وضد السعودية عبر الحوثيين. ويضيف “إيران لن تتفاوض بشكل جذري مع الرئيس ترامب، وتفضل الانتظار لانتخابات 2020، اعتقادا منها من أن أي رئيس ديمقراطي جديد سوف ينتهج سياسة أقل عدائية إيران من سياسة ترامب”.
التفجيرات الأخيرة وضعت الرئيس ترامب أمام خيارات صعبة. الامتناع عن الرد العسكري ضد التصعيد الإيراني المباشر وغير المباشر ضد حلفاء أمريكا في الخليج سوف يطرح الأسئلة حول جديته في التصدي لسياسات إيران السلبية في المنطقة، كما أن الخيارات العسكرية غير جذابة، لأنه لا يستطيع ضمان ألا تؤدي إلى توريط الولايات المتحدة لوحدها في نزاع عسكري واسع ضد دولة مثل إيران، وهو ما يتعارض مع طروحاته، ولا يحظى بتأييد الرأي العام. ردع إيران دون التورط في حرب جديدة سوف يكون تحديا يتطلب مهارات قد لا يملكها الرئيس الأمريكي.