ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
بعد مرور ستة أشهر على وجوده في البيت الأبيض يجد الرئيس دونالد ترامب نفسه يحارب على أكثر من جبهة، ويتصرف وكأنه في حالة حصار وهو يوجه نيرانه ليس فقط ضد خصومه التقليديين من الديمقراطيين في الكونغرس ومعلقين، بل ايضا ضد وزير العدل جيف سيشنز ونائبه رود روزينستين ومدير مكتب التحقيقات الفدرالي المؤقت آندرو ماكايب، وخاصة ضد المحقق الخاص روبرت مولر الذي يحقق بفضيحة التدخل الروسي في الانتخابات واحتمال تواطؤ مسؤولين في حملة ترامب الانتخابية مع الجهود الروسية، وأيضا في أي علاقات مالية مريبة بين ترامب وعائلته وأفراد في الأوليغارشية الروسية المقربة من الرئيس فلاديمير بوتين. قلق الرئيس ترامب من هذه التحقيقات دفعته لمهاجمة وزير عدله جيف سيشنز علنا لأنه نأى بنفسه عن التحقيق بالتدخل الروسي، الأمر الذي أدى إلى تعيين المحقق الخاص، في الوقت الذي طلب فيه من محاميه، وفقا لتقارير صحفية، توفير كل المعلومات القانونية له حول صلاحياته لإمكانية إصدار العفو المسبق عن مسؤولين في حملته، وأفراد من عائلته، وحتى العفو عن نفسه، ضد أي انتهاكات للقانون، وهو أمر لم يفكر فيه أو يقوم به أي رئيس أمريكي سابق. وتتراكم هذه التحديات في وجه ترامب في الوقت الذي أظهرت فيه استطلاعات الرأي أن شعبيته لا تتعدى 36 بالمئة، وأن نسبة الأمريكيين الذين يؤيدون خطته لاستبدال القانون الصحي الذي أقره الرئيس أوباما لا تتعدى 17 في المئة. وعلى الرغم من ادعاءات الرئيس ترامب بأن القوانين التي وقع عليها خلال أول ستة أشهر له في الحكم تتعدى القوانين التي وقعها أسلافه – وهذا ادعاء لا أساس له من الصحة – فإنه اخفق مع حزبه الجمهوري الذي يسيطر على مجلسي الكونغرس في اقرار قانون الرعاية الصحية البديل لقانون أوباما بسبب وجود معارضة جمهورية وشعبية له.
“إنجازات” ترامب حتى الآن محدودة، وثلث القرارات التي وقعها تقضي بإلغاء قوانين واجراءات اتخذها سلفه الرئيس أوباما، وكأنه يريد محو سجل سلفه بالكامل. النجاح الواضح لترامب كان في تعيينه للقاضي نيل غورستش عضوا في المحكمة العليا. أما قراره التنفيذي المتعلق بتجميد منح رعايا ستة دول ذات أغلبية مسلمة تأشيرات السفر إلى الولايات المتحدة لا يزال عالقا في المحاكم، وأن سمحت المحكمة العليا بتنفيذ بعض بنوده، بانتظار البت النهائي بدستوريته. ولكن إدارة ترامب بدأت باتخاذ إجراءات إدارية لتقليص الهجرة غير الشرعية، والعمل على تقليص الهجرة الشرعية. واتخذ ترامب قرارات للتخلص من القيود التي وضعتها السلطات الفيدرالية والتي تتحكم بعمل ونشاط الشركات في ما يتعلق باحترام البيئة وغيرها، وأقر ترامب استئناف العمل ببناء خط أنابيب النفط الذي سينقل النفط الكندي إلى الموانئ الأمريكية في خليج المكسيك، وهو قرار لم ينفذه الرئيس أوباما وعارضته المنظمات المعنية بحماية البيئة. هذا القرار جاء منسجما مع قرار ترامب بسحب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس بشأن حماية البيئة. وبالنسبة إلى وعوده ببناء جدار على الحدود الجنوبية مع المكسيك، فهذه أيضا اصطدمت بعوائق مالية وبيروقراطية لن يكون من السهل تخطيها.
هل يريد ترامب أن يكون بوتين أمريكا؟
يبدو أن هاجس الرئيس ترامب بمضاعفات فضيحة التدخل الروسي في الانتخابات، والتي تكشف الصحافة وتسريبات المسؤولين معلومات مثيرة عنها بشكل شبه يومي، يهيمن كليا على اهتماماته ووقته وطاقته. وأظهرت آخر التطورات أن المحقق الخاص مولر بدأ بمراجعة سجلات ترامب المالية (ضرائب، وعقود تجارية، وقروض سرية، قد توصله إلى فحص البيانات الضرائبية السنوية لترامب، وهو أمر رفض ترامب بشدة الكشف عنه خلال الحملة الانتخابية، بعكس ما هو معهود من جميع المرشحين). وتم الكشف أيضا عن اجتماع ثان مع بوتين خلال القمة الصناعية في ألمانيا قبل أسبوعين، واستمر إلى حوالي ساعة. وجرى الاجتماع بين الرئيسين على هامش آخر عشاء رسمي نظمته ألمانيا للقادة المشاركين، وأبقاه البيت الأبيض في طي الكتمان لمدة اسبوع تقريبا، ولم يحضره غير مترجم بوتين الخاص، ما أثار دهشة واستياء الأوساط السياسية في واشنطن بمن فيهم عددا من الجمهوريين، كونه جاء مخالفا للأعراف، ولأنه لا يوجد للاجتماع أي سجل رسمي، ولأن ترامب قلل من أهميته السياسية. اهتمام ترامب بتحسين العلاقات مع روسيا وتوطيد علاقاته الشخصية ببوتين، حيث يبدي ترامب اعجابا كبيرا بشخصية بوتين القوية، حيث يرى بعض المعلقين أنه يتوق لأن يكون بوتين أمريكا، انعكس على قرار ترامب المفاجئ قبل أيام بإنهاء الدعم العسكري السري (والمحدود) الذي كانت تقدمه وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) منذ سنوات لبعض فصائل المعارضة السورية المسلحة، وهو أمر كانت تطالب به موسكو. وتعرض القرار لانتقاد قاس من السيناتور الجمهوري النافذ جون ماكين، الذي أصدر بيانا قال فيه إن هذه الخطوة تخدم الرئيس الروسي بوتين، وأن “تقديم أي تنازلات لروسيا في غياب استراتيجية أشمل بشأن سوريا هو أمر غير مسؤول”، وبعد أن طالب ماكين إدارة ترامب باعتماد سياسة تتخطى هزيمة تنظيم داعش، أضاف “يجب أن يكون أحد أعمدة أي استراتيجية أمريكية هو الإطاحة بنظام الأسد كجزء من الحل للصراع القاسي في سوريا”، المسؤول عن نمو داعش “وتوسيع النفوذ الإيراني المؤذي”.
ووفقا لتقارير صحفية مبنية على مصادر حكومية فإن الرئيس ترامب يقترب من تسليم السفارة الروسية في واشنطن مقرين كان الدبلوماسيون الروس يستخدمونها في السابق قبل أن يعلن الرئيس أوباما قبل فترة قصيرة من انتهاء ولايته عن عقوبات جديدة شملت إغلاق المقرين اللذين قالت السلطات الأمريكية آنذاك أنهما كانا مخصصين لأعمال التجسس.
خطاب متشتت ، مربك وخطير
فوجئت الأوساط السياسية في واشنطن صباح الخميس – بعد مرور ستة أشهر بالضبط على دخول ترامب الى البيت الابيض- بمقابلة أجراها ترامب مع صحيفة نيويورك تايمز، الذي كان يصفها “بالصحيفة الفاشلة” استمرت 50 دقيقة. وحتى بمقاييس ترامب اللغوية وثقافته السياسية والتاريخية المتدنية، كانت المقابلة مذهلة لغرابتها وفظاظتها وتحديها للأعراف والتقاليد وحتى القوانين الأمريكية، الأمر الذي دفع بالمحلل المحافظ ماكس بوت اتهام ترامب في تغريدة له بأنه يشكل “الخطر الأكبر الذي تواجهه الولايات المتحدة، لأنه أعلن الحرب على سلطة القانون”. واتسمت المقابلة بلغتها المشتتة وغير المترابطة والخالية من أي روابط منطقية. وكان ترامب يقفز من موضوع إلى آخر دون أي سبب منطقي وكأنه غير قادر على السيطرة على سيل الكلمات من فمه: وكان يتنقل من مهاجمة وزير العدل وكبار موظفي الوزارة مكررا العبارات ذاتها تقريبا، إلى نفي الاتهامات الموجهة إليه بأنه يعرقل سير العدالة، إلى علاقاته الحميمة مع الرئيس الفرنسي فرانسوا ماكرون “الذي يحب أن يمسكني بيده” إلى الإمبراطور نابليون الذي فشل في غزو روسيا بسبب نزوة جنسية، إلى ما ادعاه بأن نابليون مسؤول عن تحويل باريس إلى مدينة الأضواء، إلى الحديث عن خطته للرعاية الصحية، إلى انتقاد هيلاري كلينتون وسلفه أوباما. أحد الصحافيين الثلاثة الذين التقوا بترامب برر عجزهم خلال المقابلة عن طرح الأسئلة الاستيضاحية، لأن ترامب كان يتحدث بسرعة وينتقل من موضوع إلى آخر يختلف كليا عن الموضوع الذي سبقه، ما أرغم الصحافيين على الركض وراء الأجوبة المتناثرة والمشتتة.
وعلى الرغم من تشتت افكار ترامب، إلا أن بعض مواقفه كانت واضحة، وإن كان ينقصها الفصاحة. هجوم ترامب ضد وزير العدل سيشنز، الذي كان أول سناتور جمهوري يؤيده والذي اظهر ولائه القوي لترامب لأكثر من سنة، وكذلك مهاجمة كبار موظفي الوزارة والمحقق الخاص صدم الجميع لأنه غير مسبوق سياسيا، ومحفوف بالمضاعفات القانونية التي يمكن أن تستخدم ضد ترامب في المحاكم في المستقبل. ولا يزال ترامب يرفض العمل بتوصيات محاميه بالتوقف عن التغريد الاستفزازي، أو إجراء المقابلات الصدامية. وأظهرت نبرة المقابلة ومضمونها بوضوح لا لبس فيه مدى قلق ترامب من سير التحقيق الذي يجريه روبرت مولر، وخاصة التقارير الصحفية التي تحدثت عن عزمه توسيع التحقيق ليشمل إضافة إلى التدخل الروسي بالانتخابات، الصفقات والمعاملات المالية والاقتصادية الخاصة بترامب وأفراد عائلته مع الروس، واحتمال ضلوعهم بغسل الأموال أو الصفقات المشبوهة. وهذا يفسر قول ترامب بأنه يعتبر التحقيق بالعلاقات والصفقات المالية له ولعائلته بمثابة “خط أحمر” لن يسمح لمولر بتخطيه، ملمحا إلى إمكانية إقالته من منصبه، كما فعل حين أقال مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية (أف بي آي) جيمس كومي في أيار/مايو الماضي. وفسر العديد من المراقبين قيام ترامب عمليا بسحب ثقته من وزير عدله بهذا الشكل العلني، على أنه دعوة ضمنية لجيف سيشنز بالإستقالة. ولكن سيشنز، أعلن أنه باق لخدمة سياسات ترامب. مسؤولون في البيت الأبيض قالوا لبعض الصحافيين أنهم دهشوا من عدم استقالة سيشنز.
أشباح ووترغيت
أثار تلويح ترامب بإقالة المحقق مولر من جديد المقارنات بين فضيحة ووترغيت في سبعينات القرن الماضي ومشاكل ترامب الراهنة، وخاصة الحدث الجسيم عندما طلب الرئيس ريتشارد نيكسون من وزير العدل آنذاك أليوت ريتشاردسون طرد المحقق الخاص أرشيبالد كوكس. إلا أن ريتشاردسون رفض الطلب، وأعلن استقالته. فكان أن طلب نيكسون من نائب وزير العدل وليام راكلزهاوس طرد المحقق الخاص، ولكن راكلزهاوس رفض ذلك أيضا واستقال بدوره، إلى أن وصل الأمر إلى المسؤول الثالث في الوزارة القاضي روبرت بورك الذي نفذ أمر نيكسون. هذه الاستقالات والإقالات سميت حينها “مذبحة مساء السبت”، ودخلت هذه الجملة مع غيرها من الجمل الظريفة والهامة في القاموس السياسي الأمريكي الحديث. دستوريا، لا يستطيع ترامب أن يقيل المحقق مولر مباشرة، وعليه أن يطلب ذلك من نائب وزير العدل، الذي ألمح إلى أنه لن يقيل مولر طالما يواصل تحقيقاته بطريقة مهنية. إلا أنه نظريا، فإن ترامب يستطيع إرغام وزير العدل ونائبه على الاستقالة وتعيين وزير جديد، ولكن تصديق مجلس الشيوخ عليه سيكون صعبا للغاية وربما مستحيلا لأن هناك إجماع يشمل العديد من المشرعين الجمهوريين أن إقالة المحقق مولر، الذي يتمتع بسمعة مهنية جيدة للغاية سيؤدي إلى نوع من التمرد السياسي ضد ترامب، وربما التسبب بأزمة دستورية. اشباح ووترغيت أرغمت الجيل الأمريكي الشاب على التعرف أكثر على أهم فضيحة في تاريخ الولايات المتحدة، والوحيدة التي أدت إلى إرغام رئيس أمريكي على الاستقالة.
الرئيس الذي وعد انصاره بالقيام عمليا بحركة انقلابية تصحيحية تهدف إلى “تجفيف المستنقع السياسي في واشنطن” ورفض الالتزام بالمعايير التقليدية، وتفكيك ما يسميه وبعض مساعديه “الدولة العميقة”، ربما يدرك الآن أنه عندما يهاجم أجهزة الاستخبارات والنظام القضائي ويعلن الحرب على الإعلاميين، عليه أن يتوقع أن تقوم الأجهزة البيروقراطية التي يتهمها بأنها الدولة العميقة بالدفاع عن نفسها من خلال الدستور والقوانين التي يستخف بها ترامب، لأنه في سنواته السبعين السابقة حاول ونجح إلى حد كبير في الالتفاف عليها واستخدام القضاء وصحافة التابلويد لترهيب خصومه ومنافسيه. اليوم يلعب ترامب لعبة أصعب بقوانين معقدة وقديمة لا يستطيع تجاهلها أو تقويضها، ولذلك فإنه مع “احتفاله” بمرور نصف سنة على وجوده في البيت الأبيض، يبحث مع محاميه صلاحياته الدستورية وإمكانية قيامه بإصدار العفو عن المقربين منه وافراد عائلته، وشخصه ايضا، ربما قبل إحالتهم إلى القضاء.