أخفق الرئيس دونالد ترامب في خطابه القصير يوم الأربعاء الذي أعلن فيه اعتراف الولايات المتحدة الرسمي بالقدس عاصمة لإسرائيل، والبدء بعملية نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، في تقديم أي مبرر أخلاقي أو سياسي أو عملي يمكن فيه لهذا القرار أن يخدم المصلحة القومية للولايات المتحدة، أو أن يعزز من سمعتها ومكانتها كوسيط تقليدي في المفاوضات الطويلة والمعقدة بين الفلسطينيين وإسرائيل، أو أن يحيي ما يسمى بعملية السلام المجمدة التي لم تحقق أي تقدم يذكر منذ انهيار محادثات كامب ديفيد في سنة الفين.
قرار ترامب الأحادي الجانب لم ينقض فقط نحو 70 عاما من السياسة الأمريكية بشأن مستقبل القدس، والتي اعتمدتها الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة، بل قوّض تقليدا أمريكيا مارسه المفاوضون الأمريكيون في العقود الماضية، وهو عدم زج الولايات المتحدة مباشرة في محاولة حل أي من القضايا الجوهرية الخلافية التي تسمى بقضايا الحل النهائي مثل القدس والمستوطنات والحدود واللاجئين. واعتاد المفاوضون الأمريكيون عندما تصل المفاوضات إلى طريق مسدود على تقديم مقترحات لتقريب مواقف الطرفين، ولكن ليس لفرض صيغة نهائية لحل المشكلة العالقة من طرف واحد.
السجال المحتدم حول قرار ترامب، الذي بدأ قبل الخطاب وبعد تسريب خبر الاعتراف بالقدس، يتركز حول ما إذا كان القرار كارثيا بمعنى أن يؤدي إلى قتل عملية السلام أو وضعها في حالة غيبوبة طويلة، أو أن يكون –كما يأمل أو يتمنى الرئيس ترامب ونائبه مايك بنس، وفريق السلام الأمريكي – ضرره محدودا ومضاعفاته مقبولة. وهذا يعني أنه لا توجد أي دولة، أو أي معلق موضوعي ومحايد قادر على التعامل مع قرار ترامب على أنه قرار ايجابي ومفيد، أو سيعجل في إحياء المفاوضات، أو سيعزز من مكانة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، حيث لا تزال القوات الأمريكية تحارب فلول تنظيم “الدولة الإسلامية”، وتسعى إلى احتواء النفوذ الإيراني التخريبي الذي يتحدى مصلحة أمريكا وحلفائها من شرق المتوسط إلى بحر العرب.
معنى وملابسات قرار ترامب
سوف يعزز قرار ترامب حول القدس من مواقف المتشددين الدينيين في إسرائيل والعالمين العربي والإسلامي. كما سيُضعف الدول العربية الصديقة للولايات المتحدة، التي ستجد نفسها معرضة لهجمات وانتقادات إيران والميليشيات الشيعية المتطرفة التي تنشط تحت لوائها مثل حزب الله ووحدات الحشد الشعبي في العراق، وكذلك التنظيمات الإرهابية المتشددة سنيا، مثل القاعدة و”الدولة الاسلامية”، والتي ستحاول إحراج هذه الدول وتذكيرها بأن صديقتها واشنطن قد خذلتها مرة أخرى وتجاهلت مصلحتها.
كما أن قرار ترامب، خالف تقليدا دبلوماسيا يعود تاريخه إلى فجر الدبلوماسية في العصور التي حكمت فيها الامبراطوريات العالم وأصبح فنا متطورا مع بدء عصر القوميات والدول الحديثة، وهو عدم تقديم أي حوافز أو تنازلات ديبلوماسية أو مادية قبل أو خلال المفاوضات دون الحصول على مقابل. ما فعله الرئيس ترامب ببساطة هو أنه قدم هدية لا يملكها هو إلى إسرائيل، أو قدم تنازلا لإسرائيل نيابة عن الفلسطينيين وبالطبع دون أن يستشيرهم، ودون أن يبالي بوقع قراره على الفلسطينيين وغيرهم من الأطراف المعنية مباشرة بمستقبل القدس وما تعنيه المدينة تاريخيا وروحيا لمئات الملايين من المسيحيين والمسلمين، وحتى لليهود الذين يريدون مشاركة القدس مع الفلسطينيين لتكون مدينة مفتوحة ومنفتحة وكذلك عاصمة للدولتين، في حال التوصل إلى ما يسمى بـ “حل الدولتين”: دولة إسرائيل ودولة فلسطين الجديدة اللتان يفترض أن تتعايشا جنبا إلى جنب في سلام. مؤيدو حل الدولتين كانوا يفترضون عند مناقشة الوضع النهائي للقدس أن تقترح واشنطن نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس الغربية، وأن تقيم في القدس الشرقية سفارتها لدى دولة فلسطين الجديدة.
المسؤولون الأمريكيون الذين تحدثوا في ايجازات خلفية مع الصحفيين، أوضحوا أن الرئيس ترامب قرر تنفيذ وعده الذي قطعه لأنصاره وممولي حملته، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إلى المدينة، واختار توقيت الاعلان، بعد مشاورات وجيزة مع مسؤولين في مجلس الأمن القومي وأعضاء “فريق السلام” المؤلف من صهره جاريد كوشنر، وإثنين من محاميه السابقين جيسون غرينبلات وديفيد فريدمان الذي عينه ترامب سفيرا للولايات المتحدة في إسرائيل. اعضاء فريق السلام الثلاثة يفتقرون إلى الخبرة الدبلوماسية، ومعروفون بدعمهم السياسي وتبرعاتهم المالية لعمليات الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. ولم ترشح معلومات مؤكدة حول مواقف أجهزة الاستخبارات الأمريكية بشأن القرار، وإن كان من المؤكد أن وزيري الخارجية والدفاع ريكس تيلرسون وجيمس ماتيس اعربا عن تحفظاتهما القوية على القرار لأسباب سياسية وأمنية، وساهمت هذه التحفظات بتأخير الاعلان عن القرار لبضعة أيام للانتهاء من اجراءات الحيطة وغيرها من إجراءات الحماية التي اتخذتها السفارات والقنصليات وغيرها من المنشآت الأمريكية في العالم تحسبا للتظاهرات الاحتجاجية وربما اعمال العنف في أعقاب خطاب الرئيس.
لماذا يعتبر قرار ترامب خطوة انقلابية ذات مضاعفات جذرية وبعيدة المدى؟ عندما أقرت الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين، وهو قرار قبله الإسرائيليون ورفضه العرب، اعتبرت مدينة القدس مدينة دولية مفتوحة. ولكن الحرب الإسرائيلية-العربية الأولى في 1948 انتهت بانتصار إسرائيلي شمل احتلال “القدس الغربية” التي أعلنتها إسرائيل عاصمة لها. ولهذه الأسباب لم تقم الدول التي اعترفت بإسرائيل لاحقا ومن بينها الولايات المتحدة سفاراتها في القدس الغربية، بل اقامتها في تل ابيب. وفرضت إسرائيل سيطرتها على كامل مدينة القدس ومحيطها في أعقاب حرب 1967. وعندما ضمت إسرائيل القدس الشرقية لها، فإنها فعلت ذلك بعد توسيع الحدود البلدية للمدينة الموحدة بقوة الحراب. وعندما اعترف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل فإنه لم يحدد اعترافه فقط بالقسم الغربي للمدينة، وبالتالي سوف تفسر إسرائيل اعترافه بالمدينة كما حددتها هي بعد ضمها القدس الشرقية إليها في أعقاب حرب انتصرت فيها. وهذا يعني أن الرئيس الأمريكي عمليا، بقصد أو دون قصد، يعترف بضم إسرائيل للقدس الشرقية التي غنمتها بالقوة.
لماذا القرار، ولماذا التوقيت؟
قال الرئيس ترامب إن قراره يعكس “توجها جديدا” للتعامل مع قضية القدس الشائكة ويعكس شجاعته وميله لاتخاذ إجراءات كان أسلافه يتفادونها لأسباب كثيرة، من بينها افتقارهم للشجاعة. وقبل الخطاب قال مسؤولون حكوميون للصحفيين إن القرار يؤكد التزام ترامب وإصراره على تنفيذ وعده بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إلى المدينة والذي قطعه لمؤيديه خلال الحملة الانتخابية، وخاصة عندما كان يخاطب المسيحيين الإنجيليين المتشددين في دعمهم الديني لإسرائيل، وكذلك أمام بعض المنظمات اليهودية المتشددة في دعمها لإسرائيل، علما بأن هناك انقسام في أوساط اليهود الأمريكيين بشأن نقل السفارة إلى القدس حيث ترى منظمات يهودية هامة أن نقل السفارة يجب أن يأت في سياق اتفاق سلام نهائي بين إسرائيل والفلسطينيين، وهذا يفسر انتقادات بعض المنظمات اليهودية-الأمريكية لقرار ترامب. وفي أعقاب الخطاب ذكرت تقارير صحفية مبنية على معلومات حكومية ومن ممولي حملة ترامب مثل شيلدون أديلسون، الذي قدم تبرعات سخية لحملة ترامب والمنظمات المؤيدة لها، أنهم حضوه مرارا منذ انتخابه على تنفيذ وعده ونقل السفارة، بغض النظر عن المعارضة. وقالت مصادر مطلعة إن توقيت الخطاب يعود للزيارة المرتقبة لنائب الرئيس مايك بنس إلى إسرائيل (التي أضيفت إليها مصر بعد الخطاب) ورغبة بنس بحسم الموقف من الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو قرار أيده بنس، المقرب من الإنجيليين، بقوة قبل اجتماعه بالقادة الإسرائيليين. كما أن توقيت الخطاب فرضه ما يسمى “بالإعفاء” الذي يفترض بالرئيس أن يقدمه للكونغرس لشرح وتبرير عدم نقل السفارة إلى القدس وفقا لقرار الكونغرس في 1995، والذي يعطي الرئيس صلاحية تأجيل تنفيذ القرار- باسم الأمن القومي- لفترة تستمر لستة أشهر. هذا الاعفاء استخدمه الرؤساء الأمريكيون بدءا من الرئيس بيل كلينتون، وانتهاء بالرئيس ترامب الذي وقع في حزيران-يونيو الماضي أول قرار له تأجيل نقل السفارة، وإن قال أنه لن يواصل ذلك في المستقبل. ولكن ترامب اضطر لتوقيع “اعفاء” ثان، وإن غطاه باعلان الاعتراف ونقل السفارة. وسوف يستغرق بناء سفارة جديدة في القدس بين ثلاثة وأربعة أعوام.
ويقول السفير الأمريكي السابق في العراق وافغانستان ريان كروكر في حوار خاص، أن قرار ترامب “لا علاقة له بعملية السلام، ويعكس فقط رغبته بارضاء قاعدته”، ويتابع كروكر الاستاذ المحاضر في جامعة برينستون “كل ما يريده ترامب هو جعل الانجيليين، وأصدقاء إسرائيل المتشددين سعداء”. وأضاف السفير كروكر، “لا توجد لهذه الحكومة استراتيجية واضحة تجاه منطقة الشرق الأوسط، وهذا يشمل سوريا والنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي وكذلك العراق ومنطقة الخليج، وعلى الأخص كيفية التصدي الفعال للتهديدات الإيرانية”. ويتساءل كروكر “لماذا يتخذ ترامب مثل هذه الخطوة السلبية بشأن مستقبل القدس، إذا كان جاريد كوشنر بالفعل يعمل على تحضير خطة للسلام بين الفلسطينيين وإسرائيل؟”. ويتابع “قراره حول القدس يجعل من المستحيل على السلطة الفلسطينية في المستقبل المنظور أن تعود لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل”. وأشار كروكر إلى أن قرارات ترامب الارتجالية وغير المدروسة إن كان في الشرق الأوسط أو في أماكن أخرى في العالم، سوف تضر بمصالح الولايات المتحدة،” مضيفا أن ترامب “ناقض سبعة عقود من التقاليد الدبلوماسية الأمريكية في التعامل مع مستقبل القدس، كما ناقض جوهر الجهود الدبلوماسية المتبعة منذ مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو، وفعل ذلك فقط لأسباب داخلية”.
ويأمل المسؤولون الأمريكيون، أن تبقى ردود الفعل السلبية لقرار ترامب محدودة، وأن تخف وطأتها في الأسابيع المقبلة، لكي يستأنف “فريق السلام” وتحديدا جاريد كوشنر اتصالاته مع الدول العربية وتحديدا السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر لإقناع الفلسطينيين للتعامل بانفتاح مع الخطة الأمريكية للسلام التي يواصل كوشنر إعدادها ويمكن الاعلان عنها وتقديمها لإسرائيل والسلطة الفلسطينية في مطلع السنة الجديدة. الجهود الأمريكية المتعلقة بخطة السلام، مبنية على بعض الافتراضات من أبرزها طروحات وتمنيات أمريكية وإسرائيلية وعربية تقول إن قلق هذه الأطراف المشروعة من الخطر الإيراني المتصاعد في أعقاب الهزائم التي مني بها تنظيم “الدولة الاسلامية” في العراق وسوريا، ونجاح إيران (مع روسيا وقوات نظام الأسد) في استعادة السيطرة على مناطق واسعة من سوريا، تقضي بإقامة جبهة جديدة تشمل إسرائيل والولايات المتحدة ودول خليجية عربية تصد وتردع إيران من شرق المتوسط إلى اليمن. ويرى الأمريكيون أنه يمكن لأصدقاء أمريكا في الخليج، إضافة إلى مصر والأردن، أن يقدموا الحوافز والضمانات –أو فرض الضغوط – على الفلسطينيين للمشاركة في المفاوضات وفي النهاية التوصل إلى اتفاق سلام.
ويرى السفير كروكر أن هناك مبالغات كبيرة في هذه الطروحات حول تحالف جديد عربي-إسرائيلي-أمريكي لمواجهة إيران، ويشير إلى أن هناك حدود لما يمكن أن تفعله الدول العربية “لتسليم” الفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات، “خاصة إذا لم تتخلّ إسرائيل عن سياساتها الاستيطانية، وإذا لم تبد الولايات المتحدة مرونة جديدة تجاه المطالب الفلسطينية”. ويضيف كروكر أن “القلق من إيران يمكن أن يقرب إسرائيل أكثر من بعض الدول العربية ويعزز من التنسيق الاستخباراتي بين الطرفين، ولكنه لن يكون كافيا لتأسيس تحالف جديد في المنطقة في غياب تغييرات جذرية سياسية واستراتيجية، لا اراها الآن”.