ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
وصف الرئيس دونالد ترامب أول جولة له في الشرق الأوسط بأنها مفصلية وحققت إنجازات ضخمة إن لجهة تعميق وتوسيع العلاقات الاقتصادية والسياسية مع أصدقاء الولايات المتحدة وتحديدا دول الخليج العربية، أم لتأسيس تعاون جديد لمكافحة الإرهاب ومصادر تمويله والتصدي لمنابعه الأيديولوجية، أم لوضع أسس تعاون إقليمي جديد للتصدي لنشاطات إيران السلبية والتخريبية في سوريا والعراق واليمن. اجتماعات ترامب التي أجراها في أيار/مايو الماضي مع عدد من القادة العرب والمسلمين في السعودية كانت فرصة للرئيس الأمريكي ذو الخبرة الضئيلة بقضايا المنطقة والمعرفة المحدودة للغاية بالمجتمعات المسلمة والتي تشوبها الصور النمطية، لكي يتعرف شخصيا عليهم ويسمع منهم مباشرة ما يتوقعونه منه. مراسم الترحيب الحار والأُبهة التي قوبل بها ترامب، وخاصة في السعودية، تركت أثرها العميق على الرئيس الجديد الذي يعشق طقوس الحفاوة والمآدب الفاخرة وسماع كلمات الثناء والمديح لشخصه، كلها تشكل أسهل طريق إلى قلبه. جولة ترامب في الشرق الأوسط كانت برأيه فريدة وتاريخية، لأكثر من سبب، من بينها أنها ابعدته عن حالة الحصار التي كان يشعر بها في واشنطن في الربيع الماضي في أعقاب إقالته لمدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) جيمس كومي ومضاعفات التحقيقات بالتدخل الروسي في انتخابات الرئاسة أو احتمال ضلوع مقربين من ترامب في هذا التدخل.
الشرق الأوسط بعد جولة ترامب
بعد أكثر من ستة أشهر على تلك الجولة، تبدو انجازاتها العملية محدودة للغاية. لا بل يمكن القول إن الهيمنة الإيرانية في العراق وسوريا أصبحت أقوى مما كانت عليه قبل جولة ترامب، حيث عززت طهران من نفوذها في العراق في أعقاب سيطرة ميليشيات الحشد الشعبي التي تمولها وتدربها إيران على مدينة كركوك بعد انسحاب قوات البيشمركة الكردية، وبعد النجاحات الميدانية التي حققها نظام بشار الأسد في شرق سوريا بدعم من الطيران الروسي، وقوات حزب الله وغيرها من الميليشيات الشيعية التي جندتها ودربتها إيران. كما لا توجد أي مؤشرات واعدة بشأن انهاء حرب اليمن، التي كانت من بين الأسباب التي دفعت بالسعودية إلى تصعيد تحديها لإيران وحزب الله اللبناني، والتي أدت إلى استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري من الرياض بعد زيارة مفاجئة لها أثارت ولا تزال تثير الكثير من الجدل في لبنان والعالم. جاء ذلك في اعقاب اطلاق القوات الحوثية صاروخ باليستي ضد العاصمة السعودية الرياض اعترضته الصواريخ المضادة، ولكنه كان بمثابة تصعيد نوعي وخطير في الحرب، بعد أن اتهمت الرياض إيران بتزويد الحوثيين بمثل هذه الصواريخ، وبعد اتهامها لحزب الله بأنه الطرف المسؤول عن تدريب الحوثيين على إطلاقه. وفور عودة ترامب إلى واشنطن، انفجرت الأزمة بين السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة من جهة وقطر من جهة أخرى والتي لا تزال مستمرة، ومرشحة للاستمرار لوقت طويل، والتي شكلت أخطر أزمة شهدها مجلس التعاون الخليجي منذ تأسيسه في 1981. هذه الهيمنة (والغطرسة) الإيرانية عبر عنها الرئيس حسن روحاني في الشهر الماضي حين تباهى بأنه “لا يمكن اتخاذ قرارات حاسمة في العراق وسوريا ولبنان وشمال أفريقيا ومنطقة الخليج دون موافقة إيران”. المعضلة الاستراتيجية والسياسية التي تواجهها الدول التي تهددها الهيمنة الإيرانية، هي أن المخاوف التي عبر عنها سياسيون ومحللون عرب وأجانب حول ما سمي “بالهلال الشيعي” من إيران عبر العراق إلى شرق المتوسط، أو “الجسر الإيراني” البري الذي حوّل إيران إلى لاعب في شرق المتوسط، هذه المخاوف قد تحققت عمليا، ولا تستطيع أي دولة واحدة التصدي لهذا الواقع الاستراتيجي الجديد، وأن هذه المهمة تتطلب ائتلافا تقوده الولايات المتحدة ويعتمد سياسية بعيدة المدى مبنية على عناصر ديبلوماسية واقتصادية وأمنية.
من إيران إلى كوريا الشمالية
بعد عودته من جولته الأخيرة والأطول في الشرق الأقصى حيث زار خمس دول محورية في هذه المنطقة الأكثر أهمية في العالم لاقتصاد الولايات المتحدة ومصالحها الإستراتيجية، تحدث ترامب عن الانجازات السياسية والاتفاقات الاقتصادية والتجارية التي حققها والتي لم يتردد في استخدام كلمة “ملحمية” لوصف أهميتها. وكما تحدث بعد عودته من الشرق الأوسط عن إقامة ائتلاف مناهض لإيران وطموحاتها في المنطقة بما فيها طموحاتها النووية، تحدث الرئيس ترامب عن جهوده لإنشاء ائتلاف مماثل في شرق آسيا يضم اليابان وكوريا الجنوبية ويكون مدعوما من الصين للتصدي للبرامج النووية والصاروخية لكوريا الشمالية وخطرها ليس فقط على الولايات المتحدة ولكن على الدول المحيطة بشبه الجزيرة الكورية، بما في ذلك الصين التي تعتبر – بسبب علاقاتها التجارية والاقتصادية مع كوريا الشمالية- الدولة الأكثر تأثيرا على كيم جونغ أون الزعيم الشاب لكوريا الشمالية.
وكان واضحا من تقييم ترامب لجولته الآسيوية أنه كان منتشيا لطقوس ومراسم إستقباله والسجادات الحمر التي فرشت أمامه، والمآدب الفخمة التي أقيمت على شرفه واعتبر هذا التكريم الشخصي له –والذي تباهى خطأ بأنه تكريم لم يحظ به رئيس أمريكي سابق) بمثابة احترام جديد من قبل هذه الدول وخاصة الصين للولايات المتحدة بعد وصوله إلى البيت الأبيض. ولا حاجة للانتظار لبضعة أشهر للخروج بتقييم موضوعي للجولة، لأنه حتى في هذا الوقت المبكر يمكن القول إن جولة ترامب في الشرق الأقصى كانت طنانة بطقوسها واحتفالاتها ولكن ليس بانجازاتها العملية. الرئيس ترامب لم يتوصل إلى أي اتفاقيات تجارية ثنائية كما أعلن قبل جولته. لا بل أنه عزز من عزلة الولايات المتحدة في تلك المنطقة، وهذه العزلة بدت سافرة، لأنه خلال وجوده في المنطقة، قررت الدول الإحدى عشرة التي شكلت اتفاق الشراكة التجارية لدول المحيط الهادئ البدء بتطبيق اتفاق التجارة الحرة التي يجمعها. وكان الرئيس ترامب قد انسحب من هذه المجموعة التجارية التي انضم إليها الرئيس السابق باراك أوباما، بسبب رفضه لاتفاقيات التجارة الحرة الدولية، واستبدالها باتفاقيات ثنائية تكون منصفة اكثر للولايات المتحدة على حد زعمه.
خلال وجوده في كوريا الجنوبية ألقى ترامب، أفضل خطاب له خلال الجولة، تحدث فيه بجدية عن الخطر النووي الذي تشكله كوريا الشمالية. ولكن لم يرشح عن محادثاته، وخاصة في الصين أي مؤشرات توحي بأنه قد توصل إلى تفاهم مع الصين حول كيفية معالجة تحدي كوريا الشمالية. جدية ترامب التي عكسها خطابه، سرعان ما تبخرت حين عاد إلى أسلوب التغريد في التعامل مع كوريا الشمالية. وعندما وصفت الأبواق الإعلامية لكوريا الشمالية ترامب بأنه “عجوز”، رد مغردا ومعاتبا بغضب ومتسائلا “لماذا يهينني كيم يونغ أون ويسميني عجوزا، بينما أنا لا يمكن أن اسميه قصيرا وسمينا…”.
ومرة أخرى أثار ترامب جدلا حادا، حين أعطى صك البراءة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين من تهمة التدخل في انتخابات الرئاسة الأمريكية، ودافع عنه بحرارة، لأن بوتين كما ادعى ترامب “يقول لي كلما التقى بي: أنا لم أفعل ذلك. وأنا أعتقد أنه يعني ما يقول.. “. وكعادته، تخطى ترامب الحدود والأعراف المتعلقة بما يمكن أو لا يمكن أن يقوله رئيس أمريكي حين شن هجوما نابيا لا داعي له على الإطلاق ضد القادة السابقين لأهم ثلاثة أجهزة استخبارات أمريكية، لأنهم أكدوا التدخل الروسي في الانتخابات، واعتبرت هذه الإهانة محاولة أخرى من ترامب لتقويض شرعية تقييم أجهزة الاستخبارات الأمريكية للتدخل الروسي في الانتخابات لصالح ترامب. وخالف ترامب الأعراف الأمريكية المعمول بها حين يقوم الرئيس الأمريكي خلال محادثاته مع أي نظير له ينتهك حقوق الإنسان، بإثارة هذه المسألة في الاجتماعات المغلقة وأحيانا بشكل علني، ولكن ترامب لم يتناول هذه المسألة مع الرئيس الصيني شي جينغ بينغ، كما لم يتطرق لها مع الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي المتهم بقتل عدد كبير من تجار المخدرات وبانتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان في الفيليبين. وكان من اللافت أيضا أن ترامب لم يطالب الصين بوقف نشاطاتها الاستفزازية المتمثلة بالاستيلاء على بعض الجزر المتنازع عليها وتوسيعها وتحويلها إلى قواعد ومنصات عسكرية، وهي مسألة كان الرئيس السابق أوباما قد أثارها مع الصينيين في السابق.
جولتا ترامب في الشرق الأوسط والشرق الأقصى، على الرغم من خطبه الرنانة، وتهديداته لإيران وكوريا الشمالية، لا تخفي حقيقة أن الولايات المتحدة لا تتصرف عمليا على أنها القوة الخارجية القائدة في أي من المنطقتين والباقية فيهما بغض النظر عن التحديات. التصدي لإيران في الشرق الأوسط يتطلب جهود أمريكية قيادية ثابتة تؤكد للإصدقاء والأعداء على حد سواء أن أمريكا باقية في المنطقة، وأنها مستعدة لبذل الجهود والطاقات، وعلى أعلى المستويات لتحقيق أهدافها والدفاع عن مصالحها ومصالح أصدقائها. ويمكن قول الشيء ذاته في ما يتعلق بتحدي كوريا الشمالية. وهذا التصدي لإيران، وكذلك تهديدات تنظيم “القاعدة” و “الدولة الإسلامية” بعد انهيار خلافتها الهشة، حيث ستتحول إلى تنظيم إرهابي تحت-أرضي مماثل للقاعدة، يتطلب حل المشاكل والعقبات التي تمنع بروز مثل هذا الائتلاف الواضح. وفي الخليج، هذا التوجه يقتضي حل ما يسمى “الأزمة القطرية” لاستعادة صدقية مجلس التعاون الخليجي واقناع المنطقة والعالم بأن المجلس لا يزال على قيد الحياة. المشكلة الأخرى والملحة للغاية، هي إيجاد تسوية سياسية للحرب في اليمن، أولا لمعالجة الكارثة الإنسانية هناك والمتمثلة بتفشي الأمراض وسوء التغذية، وثانيا لإعادة هيكلة الدولة اليمنية وما تبقى من مؤسساتها، إضافة إلى مشاكل أخرى قديمة وحديثة تمنع بناء أي ائتلاف فعال. حتى الآن، لا تزال إدارة الرئيس ترامب،التي شهدنا في سنتها الأولى تقليصا خطيرا لدور وزارة الخارجية في قيادة الدبلوماسية الأمريكية، عاجزة أو غير قادرة، على توفير القيادة القوية والفعالة الضرورية لمواجهة التحديات الآنية والملحة لأمريكا وأصدقائها في الشرق الأوسط والشرق الأقصى.