مع اقتراب نهاية أول مئة يوم له في الحكم، يجد الرئيس دونالد ترامب نفسه في مواجهة أزمتين متزامنتين مع خصمين خارجيين هما كوريا الشمالية وإيران، لم يستطع أسلافه خلال العقود الماضية احتوائهما أو التخلص منهما، أو وقف برامجهما التسليحية، على الرغم من فرض العقوبات الاقتصادية عليهما، واستخدام القوة العسكرية ضد إيران، والهجمات الالكترونية ضد البرامج النووية والصاروخية في البلدين. ويستخدم المسؤولون الأمريكيون في تعاملهما مع بيونغ يانغ وطهران عبارة “حقبة الصبر الاستراتيجي قد انتهت”، وهي إشارة تعني أن سياسة التحلي بالصبر والاعتماد فقط على الضغوط السياسية والاقتصادية لوقف البرامج النووية والصاروخية في كوريا الشمالية، والحد من التجارب الصاروخية الإيرانية، ووقف تصرفات طهران العدائية في عدد من الدول العربية، لم تعد تكفي. ويصاحب هذه العبارة تذكير الجميع من أن لدى الولايات المتحدة خيارات عسكرية، وأنها مستعدة لاستخدامها إذا دعت الضرورة. ويعتقد أن قرار الرئيس ترامب شن غارة صاروخية ضد قاعدة جوية سورية، واستخدام “أم القنابل” غير النووية ضد موقع لتنظيم داعش في أفغانستان، كانت تهدف من جملة ما تهدف إليه إقناع العالم أنه قادر، لا بل مستعد لاستخدام القوة العسكرية، إذا ما استنزفت كل الخيارات الأخرى.
بدأت كوريا الشمالية الأزمة الأخيرة عبر سلسلة من التجارب الصاروخية الاستفزازية، والتلميح بأنها ستجري تجربة نووية سادسة، وصاحب هذه التجارب التهديدات المعهودة من بيونغ يانغ ضد الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية. ولكن الأزمة مع إيران جاءت في أعقاب الانتقادات القوية التي وجهها وزير الخارجية ريكس تيلرسون للسلوك التخريبي الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن والتذكير بدعمها للإرهاب في العالم، واتهام الرئيس ترامب لإيران بأنها لم تلتزم “بروح” الاتفاق النووي الذي وقعته مع مجموع الخمسة زائد واحد في 2015، ودون أن يوضح ما يعنيه بذلك. المفارقة هي أن الهجوم اللاذع الذي شنه تيلرسون ضد طهران بسبب تصرفاتها الإقليمية، جاء بعد ساعات قليلة من تسليمه للكونغرس رسالة تؤكد التزام طهران بالتزاماتها التقنية الواردة في الاتفاق النووي. التصعيد الأمريكي ضد إيران اكتسب أهمية خاصة لأنه تزامن مع جولة وزير الدفاع جيمس ماتيس الشرق أوسطية حيث كانت مسألة ردع إيران وتكثيف العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش في طليعة القضايا التي بحثها ماتيس مع المسؤولين في إسرائيل والسعودية وقطر ومصر.
أين كارل فينسن؟
وخلال أيام قليلة، بدا الرئيس ترامب من خلال بعض تصريحاته وكأنه يقرع طبول الحرب وخاصة ضد كوريا الشمالية حيث كان يستحضر خلال تصريحاته ومقابلاته حول تفاقم الأوضاع في شبه الجزيرة الكورية، الخيارات العسكرية، ومن بينها اعلانه في مقابلة تلفزيونية في 12 من الشهر الجاري “لقد أرسلنا أسطولا بحريا قويا للغاية، يشمل الغواصات القوية، وهي حتى أقوى من حاملة الطائرات”. جاء هذا التصريح بعد إعلان البحرية الأمريكية في الثامن من نيسان/إبريل أنها أرسلت حاملة الطائرات “كارل فينسن ” مع السفن المرافقة لها من سنغافورة (يتم عادة الإعلان عن أسماء هذه السفن، ولكن البحرية لا تشير إلى الغواصات التي ترافق عادة كل حاملة طائرات، ومن هنا استغراب المراقبين لإشارة ترامب للغواصات القوية) إلى “الشمال” أي إلى المنطقة القريبة من شبه الجزيرة الكورية. ولكن بعد أسبوع من هذا الإعلان كشفت صور نشرتها البحرية الأمريكية أن “كارل فينسن” والسفن المرافقة لها في الواقع كانت تبحر بالاتجاه المعاكس قرب اندونيسيا، ما يعني أنها كانت تبعد 3 آلاف ميل عن شبه الجزيرة الكورية، في طريقها إلى أستراليا للمشاركة في مناورات بحرية مقررة من قبل مع البحرية الأسترالية. وبعد ثلاثة أيام من التصريحات والتوضيحات والتبريرات بأن ما حدث هو غموض وتناقض غير مقصودين في البيانات الأولية حول الجهة التي يفترض أن تتوجه إليها “كارل فينسن”، حسمت البحرية الأمريكية الأمر عندما أعلنت الخميس أن “كارل فينسن” سوف تطيل مهمتها لشهر إضافي حيث ستبحر في المياه القريبة من شبه الجزيرة الكورية في تأكيد واضح لحضور القوات الأمريكية في المنطقة.
اللغط الذي صاحب مهمة القوة البحرية، أدى إلى انتقادات قاسية من السياسيين في كوريا الجنوبية حيث اتهم بعضهم الولايات المتحدة “بالبلف” والتضليل والتلفيق وبالتصرف كما تتصرف كوريا الشمالية التي تضلل العالم في استعراضاتها العسكرية التي تشمل صواريخ مزورة. المحللون والمراقبون في كوريا الجنوبية، كما في واشنطن، تساءلوا بمزيج من الجدية والسخرية خلال بضعة أيام “أين كارل فينسن”. وساهمت تهديدات ترامب العسكرية في تعميق مشاعر القلق في كوريا الجنوبية التي تقع عاصمتها سيئول في مدى المدفعية الكورية الشمالية الثقيلة، حيث اتهم بعض المحللين ترامب أنه يقرع طبول الحرب قبل استنزاف الجهود السياسية. ولكن موقف ترامب لا يعكس بالضرورة مواقف كبار مساعديه للشؤون الأمنية ومن بينهم وزير الدفاع ماتيس، ومستشار الأمن القومي إتش آر ماكماستر الذي شدد علنا على أن بلاده تسعى إلى حل سياسي للأزمة.
وساهم عدم إلمام الرئيس ترامب بتاريخ شبه الجزيرة الكورية وحتى باسماء قادة كوريا الشمالية حين أوحى بأنه لا يعرف اسم الرئيس الحالي وعندما خلط بينه وبين والده، خلال مقابلة تلفزيونية ساهم في تعميق قلق المسؤولين والمحللين في كوريا الجنوبية بأن تهور رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون، وميل ترامب للتلويح بالخيار العسكري يمكن أن يؤديا إلى زج شبه الجزيرة الكورية في حرب مدمرة أكثر بكثير من الحرب التي شهدتها في خمسينات القرن الماضي. ولكن أكثر ما أغضب المسؤولين الكوريين الجنوبيين، كان ادعاء الرئيس ترامب أن شبه الجزيرة الكورية “كانت في الواقع جزءا من الصين ” (وهو يبدو ما قاله له الرئيس الصيني شي جين بينغ عندما التقاه مؤخرا في فلوريدا). وسارعت وزارة الخارجية في سيئول إلى القول إنها تجري الاتصالات بهذا الشأن مع واشنطن وبكين بشأن هذا الادعاء، وأكدت “أن المجتمع الدولي يؤكد بشكل لا لبس فيه أن كوريا لم تكن أبدا جزءا من الصين خلال تاريخها الذي يمتد إلى آلاف السنين، ولا أحد يستطيع نفي هذا الواقع”.
يبقى أن أي مفتاح عملي لتفادي مواجهة عسكرية كارثية مع كوريا الشمالية هو في يد الصين. وتبين بعض المؤشرات العسكرية والسياسية أن الحكومة الصينية بدأت تتحرك بالفعل في اتجاه استخدام نفوذها الكبير للتأثير على كوريا الشمالية. ولا أحد يعرف في هذا الوقت المبكر ما إذا كانت ضغوط الصين كافية، أو إذا كانت بالفعل مستعدة للضغط على القيادة في بيونغ يانغ بشكل موجع، أم أنها ستتراجع لتفادي مواجهة نظام قد يقدم على مجازفات غير عقلانية.
ترامب والخيارات الصعبة ضد إيران
وصف وزير الخارجية ريكس تيلرسون يوم الأربعاء الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد بأنه اتفاق فاشل، وذلك بعد ساعات من تصديقه رسميا في رسالة إلى الكونغرس أن إيران تنفذ التزاماتها الواردة في الاتفاق. ولكن تيلرسون لم يقل ما إذا كانت حكومته سوف تنسحب من الاتفاق، أو ما إذا كانت ستسعى، كما يقترح بعض الجمهوريين في الكونغرس إلى فرض عقوبات إضافية ضد طهران لمعاقبتها على سلوكها الإقليمي السلبي. ورأى تيلرسون في مؤتمر صحفي عقد بسرعة لتفادي أي تفسيرات محرجة لرسالة الخارجية إلى الكونغرس أن الاتفاق “أخفق في تحقيق هدف جعل إيران دولة غير نووية. الاتفاق يؤخر فقط هدفهم لأن يصبحوا دولة نووية”. واتهم تيلرسون إيران بتهديد أمن الولايات المتحدة والعالم، مشيرا إلى أن حكومته تواصل مراجعتها لكيفية مواجهة التحديات التي تمثلها طهران، مشددا على أنه بغض النظر عن الالتزام التقني لإيران بالاتفاق النووي فإن هذا لا يعني أن الخطر الإيراني ليس جديا وأن حكومته سوف تتعاون مع الكونغرس للرد على تحديات إيران. وعندما تنتهي فترة التسعين يوما المحددة لمراجعة الخيارات بشأن إيران في منتصف الشهر المقبل، سوف تضطر إدارة الرئيس ترامب إلى اتخاذ بعض القرارات الصعبة من بينها: ما هو الموقف النهائي من الاتفاق النووي، وهل ستواصل واشنطن الالتزام بالعقوبات ضد إيران أم تعليقها وخاصة إذا استمرت إيران بالالتزام “التقني” بالاتفاق. وإذا قرر ترامب الانسحاب من الاتفاق – وهو أمر يستبعده معظم المحللين، خاصة وأن مسؤولين بارزين في الحكومة ومن بينهم وزير الدفاع ماتيس يريدون الإبقاء على الاتفاق- فإن ترامب سيجازف بخلق أزمات مع الدول الأخرى الموقعة على الاتفاق وهي فرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا والصين .
وللمرة الأولى يتطرق مسؤول بارز في إدارة ترامب وبالتفصيل إلى طبيعة الخطر الذي تمثله إيران للمنطقة وللعالم، مثل رعايتها للإرهاب ومسؤوليتها عن تأزيم النزاعات في سوريا واليمن والعراق ولبنان، ورأى أنه إذا لم يتم ردع إيران فإنها سوف تسير على الطريق ذاته الذي تسير عليه كوريا الشمالية “وسوف تأخذ العالم معها” وأضاف في هذا السياق أن “الصبر الاستراتيجي” مع إيران قد أخفق.
وأشار تيلرسون إلى دعم إيران “لنظام الأسد الوحشي” حتى عندما يرتكب المجازر ضد شعبه بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيماوية، كما أن إيران توفر التدريب والتسليح والتمويل للمحاربين الأجانب وإرسالهم إلى سوريا، إضافة إلى نشرها لعناصر الحرس الثوري الإيراني في سوريا التي تشارك العمليات القتالية. وأضاف أن النشاطات الايرانية العسكرية في اليمن تهدد الحدود الجنوبية للسعودية، مشيرا في هذا السياق إلى عمليات تهريب الأسلحة عبر السفن الإيرانية إلى الثوار الحوثيين في اليمن. وشدد تيلرسون على ضرورة التعامل مع إيران بطريقة شمولية، وخاصة الخطر الذي تشكله على المنطقة، وليس النظر إليها فقط من منظور الاتفاق النووي.
وجدد الرئيس ترامب انتقاداته المعهودة ضد الاتفاق النووي مع إيران “وهو اتفاق رهيب كان يجب ألا يوقّع” ، وأضاف في إشارة لافتة إلى أن إيران لا تحترم “روح الاتفاق” وتابع “ونحن ندرس ذلك بدقة بالغة، وسوف يكون لدينا ما نقوله في المستقبل القريب”، وتابع ترامب “ولكن إيران لم تحترم روح الاتفاق، وعلينا أن نفعل ذلك، وهي لم تفعل ذلك”، ولكن ترامب لم يشرح ما يعنيه بذلك. وقال مصدر مطلع إن تصديق وزارة الخارجية وفقا للقانون على أن إيران ملتزمة بتعهداتها الواردة في الاتفاق النووي، يفسر التصريحات القوية لتيلرسون وترامب، والتي تهدف من جملة ما تهدف إليه طمأنة أنصار ترامب المتشددين في الكونغرس بأن موقفه تجاه إيران لم يتغير، وطمأنة أصدقاء واشنطن في الشرق الأوسط، وللمساهمة مع الوزير ماتيس في تأكيد الالتزامات الأمنية الأمريكية في المنطقة وأبرزها كما قال ماتيس ردع إيران إقليميا.
وحرص ماتيس في محادثاته على وضع مسألة “صد” إيران في طليعة أولوياته. وخلال وجوده في السعودية قال إن دول المنطقة وغيرها تحاول “التصدي لإيران للاضطرابات التي تخلقها” في المنطقة بما في ذلك الحرب في اليمن، التي كرر ماتيس القول إنه يجب أن تنتهي بالسبل السياسية. وشدد ماتيس على أن الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة سوف تنجح في منع إيران من تخريب دولة أخرى (اليمن) وأن تخلق فيها تنظيما مشابها لحزب الله اللبناني. وفي مؤتمره الصحفي المشترك مع نظيره السعودي الأمير محمد بن سلمان قال ماتيس إن حكومته “ستعزز من قدرة السعودية على مقاومة إيران ونشاطها التخريبي”.
ويقول مسؤولون أمريكيون وخليجيون إن العلاقات العسكرية والتعاون الأمني بين واشنطن والسعودية ودولة الإمارات العربية قد تحسنت بشكل ملحوظ وعملي وميداني منذ وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض وتحديدا منذ تعيين ماتيس وزيرا للدفاع. وعادت واشنطن لتزويد السعودية ببعض الأسلحة والذخائر التي كانت إدارة الرئيس باراك أوباما قد علقت تسليمها لأن استخدامها أدى في بعض الحالات إلى إلحاق خسائر بالمدنيين اليمنيين. ولوحظ أن مستوى التنسيق والتعاون الاستشاري والاستخباراتي قد تحسن نوعيا، حيث توفر الولايات المتحدة الآن للقوات السعودية والإماراتية معلومات استخباراتية آنية وسريعة بحيث يمكن الاستفادة منها في العمليات العسكرية الجارية. المسؤولون قالوا إن ماتيس يعتقد إن الحل السياسي في اليمن سيأتي بعد إرغام إيران على دفع ثمن لتدخلها العسكري في تلك البلاد، وأن من بين المقترحات التي تدرسها وزارة الدفاع الأمريكية الآن تشمل ليس فقط الاكتفاء باعتراض السفن الإيرانية وغير الإيرانية التي تنقل السلاح والعتاد إلى اليمن، بل تصوير الأسلحة التي تكتشف، وإرسالها إلى الأمم المتحدة لاستخدامها في دعم مشاريع قرارات في مجلس الأمن لمعاقبة إيران. أحد المقترحات الجذرية والخطيرة المطروحة هو نسف السفن المحملة بالسلاح بعد أسر طواقمها، لبعث رسالة مدوية إلى طهران. لكن حتى الآن لم يصّدق البيت الأبيض على مثل هذا التصعيد.