إن الفوز الانتخابي الكاسح الذي حققه دونالد ترامب قد أعاده لسدة الحكم في 20 يناير/كانون الثاني، ولكن هذه المرة في وضع أقوى بكثير من إدارته الأولى. هذا لأنه الآن بات مسيطراً على الحزب الجمهوري بشكل كامل، والذي يتمتع الآن بأغلبية ضئيلة في كلا مجلسي الكونجرس. ويمتلك ترامب تفوقاً أيديولوجيا، ولديه مناصرين في المحكمة العليا، التي باتت محافظة في تفسيرها لقوانين الدستور الأمريكي. وهكذا، أصبحت فروع الحكومة الثلاثة في قبضة ترامب، وهو إنجاز مذهل في سياق سياسة الولايات المتحدة التي طالما تتسم بالانقسام.
يقابل هذا التفوق المؤسسي الساحق تفويض ودعم شعبي واسع. فقد أظهرت الانتخابات تحولاً نحو اليمين عبر جميع الشرائح الاجتماعية والكتل الديمغرافية. لم يقتصر فوز ترامب على المجمع الانتخابي، بل فاز أيضاً بالتصويت الشعبي. وقد أصبح تحالفه السياسي أكثر قوة، وربما أكثر ديمومة، بسبب طبيعته المتنوعة، فلم يقتصر ترشيحه على اجتذاب غالبية الأمريكيين البيض، وإنما اجتذب أيضاً دعماً لا يستهان به من الأقليات. فقد حصل على أصوات من اللاتينيين أكثر من أي مرشح رئاسي جمهوري آخر، كما حصل على دعم متزايد من اليهود والعرب على حد سواء.
لعل الولايات المتحدة لم تر في تاريخها المعاصر رئيساً يمتلك كلا من السلطة الشعبية والمؤسسية في آن واحد، ربما أكثر من أي رئيس أمريكي آخر، ولن يتردد في استخدامهما لتحقيق طموحه ورؤيته. لقد خاض ترامب، وهو شعبوي بارع، الانتخابات الرئاسية ضد الحكومة الفيدرالية، متعهداً بإجراء تغييرات جذرية في ثقافة وتنظيم جهاز الخدمة المدنية والقوات المسلحة. إن تعيين أشخاص من خارج الوسط السياسي في الحكومة، وبعضهم يفتقر للخبرة في السياسة العامة، ولديهم أجندات شخصية وأيديولوجية قوية، يزيد من احتمالية حدوث تغيير جذري. على سبيل المثال، يتولى الميلياردير إيلون ماسك إدارة وكالة الكفاءة الحكومية، ويطمح لتقليص القوى العاملة الفيدرالية، وتوظيف أصحاب المصالح من القطاع الخاص لإدارة السياسة العامة. كما يقوم شعبويون، مثل روبرت كينيدي الابن، الذي تم تعيينه لإدارة وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، والشخصية التلفزيونية ومذيع قناة فوكس نيوز السابق بيت هيجسيث، الذي تم للتو تأكيد تعيينه وزيراً للدفاع، بالترويج لحملات ثقافية من شأنها أن تؤثر على استقرار وأداء الخدمات الاجتماعية والجيش.
وفي حين أنه من غير المرجح أن تتحقق الأهداف القصوى لهذا التمرد الشعبوي في الحكم، إلا أن نطاق وسلطة التدخل قد توسعتا بسبب التفويض الانتخابي الممنوح لترامب، على الرغم من نيته الواضحة لتقليص دور وسلطة المؤسسة السياسية التقليدية [The establishment]، ومجاهرته بتجاهل حتى دستور الجمهورية الأمريكية. وقد تضاءلت اليوم بشكل كبير الضمانات التي يوفرها نظام الحكم المنقسم، والمقاومة المحدودة من جانب الحزب الجمهوري، والضوابط المؤسساتية التي ميزت فترته الرئاسية الأولى.
لقد تغيرت أمريكا-وكذلك العالم
يأتي هذا الوعد بالتغيير الجذري وسط توجهات محلية ودولية تفسر فاعليته وتعززه. فعلى الصعيد المحلي، برز هذا المسار القومي والشعبوي جزئياً نتيجة لاثنين من الإخفاقات السياسية الجسيمة: حرب العراق عام 2003، والأزمة المالية العالمية عام 2008. وقد ساهم كلا الحدثين في تشكيل السياسة الخارجية للولايات المتحدة بطرق جوهرية، الأمر الذي قلل من الرغبة في الانخراط في مزيد من الالتزامات الخارجية، وقلل من مكانة الولايات المتحدة في الخارج. ويفيد كلا الإخفاقين بانعدام الثقة الشعبية العميقة في المؤسسة السياسية والمالية – أي انعدام الثقة في النخب التي ظهرت في الانتخابات منذ ذلك الحين. وفي الآونة الأخيرة، لم يؤدِ عجز التدخل العسكري الأمريكي لعقود من الزمن، والانسحاب الفوضوي من أفغانستان، وصدمة جائحة فيروس كورونا، إلا لتسريع هذه التوجهات القومية والشعبوية وترسيخها. يعِد تحالف “أميركا أولاً” [ماجا] الجديد في عهد ترامب باعتماد قيود أكثر صرامة على الهجرة والتجارة الخارجية، ويُظهر شكوكاً عميقة في التدخلات العسكرية الخارجية والالتزامات متعددة الأطراف.
ولعل ما يعزز هذه التجارب والتحولات في الولايات المتحدة هو السياق العالمي المحيط بها. ففي هذه المرحلة المتأخرة من العولمة، والتفاوت المتزايد في الدخل، يتحدى القوميون السلطة القائمة أو يصلون إليها في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا، والكثير منهم من خلال موجات شعبوية زعزعت من استقرار الحكم الديمقراطي. وفي غضون ذلك، يعمل التغيير التكنولوجي على إحداث اضطرابات في مجالات المعلومات والإعلام والاتصالات، كما يُحدث تحولات في أسواق الطاقة، التي تغذي مختلف اقتصادات العالم. ويبدو أن الحكم في مثل هذه الظروف يميل نحو المزيد من المركزية في السلطة وصنع القرار. ويمكن ملاحظة ذلك، حتى داخل الولايات المتحدة، التي تتسم عادةً باللامركزية، حيث تمنح الأحكام القانونية صلاحيات أوسع للرئاسة، ويطالب كل من اليمين واليسار على حد سواء بإجراءات تصحيحية أقوى من الدولة، في الوقت الذي تزداد فيه جرأة المصالح الخاصة على التدخل بشكل رسمي وعلني في صنع السياسات.
في ظل إدارة الرئيس السابق جوزيف بايدن، كان ثمة محاولات جديدة في السياسة الصناعية، والتدخل في أسواق الطاقة من خلال احتياطي البترول الاستراتيجي، وتشجيع استثمارات الطاقة الخضراء، والعودة للصناعات التكنولوجية المحلية الجديدة من خلال قانون خفض التضخم وقانون الرقائق الإلكترونية والعلوم (CHIPS). في حين تعد إدارة ترامب بتقليص حجم الحكومة الفيدرالية، فإنها في الوقت نفسه تمنح مكانة بارزة لطبقة رجال الصناعة المفضلين لها، مع احتمال دعمهم بتعريفات جمركية جديدة صارمة ضد المنافسين. من المرجح أن تكون النتيجة سياسات تجارية أكثر حمائية تُضعف النظام الدولي للتجارة العالمية، الذي اعتمد لفترة طويلة على الاتفاقيات متعددة الأطراف. كما أن النهج نفسه في تجاهل المؤسسات الأمنية متعددة الأطراف سيشكل اختباراً لمنظمات مثل الأمم المتحدة وتحالفات أمنية مثل حلف الناتو.
في هذا السياق، من المرجح أن يزداد ميل القوى الكبرى والمتوسطة لاختبار القواعد العالمية التي حالت دون التوسع الإقليمي، وهو تحدٍّ تطرحه بالفعل كل من روسيا وإسرائيل. بالتزامن مع ذلك، قد تؤثر المنافسة على الابتكارات التكنولوجية وإقامة ممرات جديدة للتجارة والتكنولوجيا على استقرار سلاسل التوريد، مما قد يؤدي إلى تفتيت الأسواق المفتوحة، لا سيما في ظل الصراع بين الولايات المتحدة والصين.
الشركاء الخليجيون وإعادة تشكيل الاصطفاف القومي
هذه التغييرات – المتمثلة في مركزية السلطة، والتحول نحو السياسات القومية من خلال النزعات الأحادية أو الحمائية، وحالة عدم اليقين التي يفرضها الشعبويون، والبيئة المعلوماتية الجديدة على الحوكمة – تبدو واضحة في إدارة ترامب الجديدة. لكن هذه التغيرات تستمد قوتها من ديناميكيات اقتصادية واجتماعية سياسية أكثر تنظيماً وأوسع انتشاراً وديمومة. ربما تجلب الانتخابات المستقبلية للسلطة ائتلافًا سياسيا مختلفاً بمفاهيم ثقافية مختلفة. ولكن من غير المرجح أن تعود الأممية الليبرالية التي حكمت السياسة الأمريكية حتى الآن وشكلت النظام العالمي. فقد وصلت النزعة القومية إلى الولايات المتحدة بشكل أو بآخر.
تداعيات ذلك على دول الخليج كبيرة. فمن بعض النواحي، قد يكون توجه تركيز صنع القرار والسلطة في صالح الأنظمة الملكية، التي تتميز أساساً بمركزية الحكم، وقد تفضل وساطة وإدارة أكثر شخصنة. سيكون هناك أمل في التوصل لصفقات فعالة يمكن تحقيقها من قبل محاورين متفانين ومتمكنين ذوي أهداف وطنية واضحة، ولا تثقل كاهلهم الالتزامات المثالية ومتعددة الأطراف. بالفعل، ساعد تهديد ترامب باستخدام القوة الأميركية بطرق حازمة في توحيد الخصوم المترددين إلى حد ما في إسرائيل وغزة ولبنان. وقد يفضي الطموح المفتوح لتوسيع العقوبات الاقتصادية ضد إيران إلى حل غير عسكري للحد من طموحات إيران النووية والإقليمية.
وفي الوقت نفسه، قد يكون صعود جماعات المصالح القوية في قطاع التكنولوجيا، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي والعملات المشفرة، موضع ترحيب في دول الخليج التي تؤيد هذه الصناعات الجديدة. كما أن الأهداف التجارية والقومية الجديدة قد تخفف من بعض القيود المفروضة على المبيعات العسكرية، وتسهل دخول السعودية في مجال تطوير الطاقة النووية لأغراض مدنية. في المقابل، قد تُعرّض النزعة التجارية الحمائية المتنامية في الولايات المتحدة مصالح الخليج للخطر. إن فرض التعريفات الجمركية الموحدة قد يضر بدول الخليج أقل من غيرها، ولكن هناك صناعات محددة، مثل الألمنيوم في البحرين، عانت بالفعل في ظل سياسة التعريفات الجمركية. كما أن طموحات إدارة ترامب الرامية لتوسيع صادرات النفط الأميركية ربما تهدد المحاولات الخليجية الرامية لتحقيق الاستقرار في أسعار النفط المرتفعة نسبياً – وهو المتغير الحاسم في عملية التحول الاقتصادي في هذه الدول – على الرغم من أن ترامب قد يجد صعوبة في دفع استثمارات أكبر نحو قطاع النفط.
كيف سيؤثر التراجع المستمر في نظام التجارة العالمية المفتوح، إلى جانب تصعيد العقوبات الأميركية ضد منافسين استراتيجيين كالصين، على دول الخليج، لا سيما الإمارات العربية المتحدة، التي تعتمد في نموها الاقتصادي على دورها كمركز تجاري عالمي؟ من المرجح أن يؤدي توجه الولايات المتحدة نحو شراكات ثنائية أكثر تحديداً أو شراكات مستهدفة، بدلاً من الأنظمة العالمية الموحدة القائمة على قواعد متعارف عليها، إلى تسريع نهج دول الخليج في بناء شراكات استراتيجية والاعتماد على التكنولوجيا الحديثة وممرات التجارة والاتصالات.
قد يكون لهيمنة القوى العظمى الناشئة، وما يقابلها من إضعاف للنظام العالمي القائم على القواعد القانونية، بما في ذلك حصانة الحدود، تداعيات على أمن الدول الصغيرة في الخليج. من المرجح أن يكون إضعاف نفوذ إيران موضع ترحيب لدى دول الخليج العربية، لكن إسرائيل، وإلى حد ما تركيا، برزتا كلاعبين قويين قد تتسبب طموحاتهما الإقليمية في إثارة التنافس على النفوذ مع دول الخليج. وفي سياق الولايات المتحدة الأكثر مزاجيةً واهتماماً بمصالحها الأنانية، تتعاظم المخاوف الأمنية الناجمة عن إضعاف حصانة الحدود، وما يرتبط به من إضعاف للنظام العالمي القائم على القانون.
هناك أمر واضح: في ظل نظام عالمي تُشكّله دول قوية ومتنافسة، ومع قيادة أميركية أكثر مركزية، ستصبح العلاقات الشخصية ذات أهمية قصوى. وقد يكون التواصل الواضح، وعرض السياسات والممارسات ذات المنفعة المتبادلة، عاملين حاسمين في إنجاح المفاوضات، وتحقيق نتائج إيجابية لهذه الشراكات العالمية طويلة الأمد.