ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
خلال بضعة أيام في أوروبا ادعى الرئيس دونالد ترامب أن الحضارة الغربية (يقصد بشعوبها البيضاء والمسيحية) سوف تنتصر على التحديات التي تواجهها من الشرق والجنوب (يقصد بذلك المهاجرين والمسلمين)، وأحيا بذلك ضمنا مقولة صدام الحضارات، في خطاب ألقاه في بولندا كرر فيه تحذيراته “للغرب” من مخاطر عالم مظلم يعج بالأعداء. وفي ألمانيا خلال قمة الدول الصناعية العشرين، همّش ترامب الدور القيادي الأمريكي في العالم وعمّق الهوة بين أمريكا وحلفائها التقليديين، وتغاضى عمليا خلال اجتماعه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الانتهاك الروسي لسيادة الولايات المتحدة من خلال التدخل في انتخابات الرئاسة، ووافق على وقف إطلاق نار محدود في سوريا كانت روسيا القوة الرئيسية ورائه. أداء ترامب في بولندا وألمانيا، رسخ سياسته الخارجية المتناقضة مع المسلمات السياسية الخارجية الأمريكية المعهودة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والمبنية على توفير قيادة عالمية لحل النزاعات، والتصدي للإرهاب، ومعالجة الأخطار العابرة للحدود، من الأوبئة إلى مكافحة الاتجار بالمخدرات، والتركيز على صيانة قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والدفاع عنها بشكل عام، (على الرغم من الأخطاء والهفوات)، والاعتماد على الاتفاقات التجارية الدولية، وممارسة سياسات متنورة تجاه الهجرة والمهاجرين بغض النظر عن خلفياتهم الإثنية والدينية. في ألمانيا بدا ترامب مرتاحا مع بوتين، أكثر مما كان مع مستشارة ألمانيا انغيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وغيرهما من حلفاء أمريكا التقليديين.
في بولندا، التي تحكمها حكومة تمارس سياسات أوتوقراطية تهدد قيم الحرية وحقوق الإنسان والتي جلبت لها انتقادات قاسية من الاتحاد الأوروبي، أشار ترامب بشكل عابر إلى الديمقراطية وتفادى الإشارة إلى حقوق الإنسان، ووقف إلى جانب الرئيس البولندي أندري دودا الذي يهدد الصحافة الحرة في بلاده، ليكرر هجماته الممجوجة ضد الصحافة المهنية والمسؤولة في أمريكا والعالم والتي يتهمها ترامب بخلق “الأخبار الملفقة”. ترامب تحدث عن “الحضارة” و “الغرب” من منظور قومي تقليدي مبني على الروابط الاثنية والدينية الضيقة والتمييزية، وليس من منظور المبادئ والقيم والمثل العليا العالمية التي يفترض أن تكون أساس مفهوم المواطنة الأمريكية وفقا للقوانين والأعراف والتقاليد الأمريكية. في بولندا، وضع ترامب أمريكا والغرب بمفهومه الضيق والشوفيني في مواجهة العالم غير الغربي وغير المسيحي وغير الأبيض، في نقض سافر لأسلافه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
مشروع صداقة بين ترامب وبوتين
الاجتماع الذي كان مرتقبا بين الرئيسين ترامب وبوتين، لم يكن تقليديا بالشكل والمضمون. وسبق اللقاء تكهنات واسعة حول ما إذا كان ترامب سيثير – وبأي نبرة – المسألة الملحة المتعلقة بالتدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأمريكية. وكان من المفترض أن يكون الاجتماع لنصف ساعة، ولكنه استمر لأكثر من ساعتين، كما تميز بعدم وجود جدول أعمال كما هي العادة، والأهم من ذلك وانطلاقا من رغبة الطرفين بالحفاظ على سرية المضمون، فقد انحصر الاجتماع فقط بالرئيسين ترامب وبوتين، فضلا عن وزيري الخارجية ريكس تيلرسون وسيرغي لافروف (إضافة إلى مترجمين أمريكي وروسي). وفي تجاهل سافر للأعراف، لم يكن هناك كما هي العادة مسؤول من مجلس الأمن القومي لكتابة محضر الاجتماع، الأمر الذي يجعل من الصعب للغاية معرفة حقيقة تفاصيل النقاش في أي وقت قريب. وواصل ترامب تجاهله للأعراف عندما امتنع عن عقد مؤتمر صحفي بعد انتهاء قمة العشرين، كما درجت عادة الرؤساء الأمريكيين قبله، ما يعني حرمان الأمريكيين من معرفة ما جرى خلال اللقاء عبر الصحافة الأمريكية.
فور انتهاء اللقاء قال وزير الخارجية تيلرسون – ولاحقا الرئيس ترامب عبر تغريداته – بأن ترامب آثار مرتين وبحزم مسألة التدخل الروسي بالانتخابات، ولكن الرئيس بوتين “نفى ذلك بشدة” كما أفاد ترامب، الذي أضاف “وأنا قلت رأيي”، ربما في إشارة ضمنية إلى مواقفه المعروفة والمشككة بصحة التدخل الروسي. من جهته، قال وزير خارجية روسيا لافروف، إن الجانب الأمريكي قد قبل تأكيدات بوتين بأنه لم يكن هناك تدخل. ونظرا لعدم وجود محضر بمضمون الاجتماع تحفظه البيروقراطية الأمريكية في البيت الأبيض ووزارة الخارجية، سوف تبقى المسألة منحصرة بما يدعيه كل طرف. اللافت أن المسؤولين الأمريكيين (باستثناء ترامب) لم يكذبوا تصريحات لافروف بقوة وإن قالوا أنهم لم يصدقوا نفي بوتين. الأهم من ذلك، أكد ترامب أنه وضع مسألة التدخل الروسي وراءه، حين غرّد أن “الوقت قد حان للتقدم إلى الأمام بالعمل بشكل بناء مع روسيا”، متجاهلا حقيقة أن هناك أربعة لجان في مجلسي الكونغرس، إضافة إلى المحقق الخاص روبرت مولر تواصل التحقيق بالتدخل الروسي. وإذا كان ترامب يريد تخطي مضاعفات انتهاكات روسيا للسيادة الأمريكية، فإنه أخفق في ذلك، لأن الانتقادات لاجتماعه مع بوتين، حتى من الجمهوريين، تؤكد من جديد أن ولايته سوف تبقى رازحة تحت الظلال الثقيلة للانتهاكات الروسية.
ويوم الأحد أثار ترامب عاصفة من الاحتجاجات حين صدم الطبقة السياسية في واشنطن عبر تغريدة غريبة ومفاجئة قال فيها “لقد ناقشت مع بوتين انشاء وحدة تضمن الأمن السيبراني غير قابلة للاختراق للتصدي لأي انتهاك للانتخابات وغيرها من المسائل السلبية”. وسارع السياسيون الأمريكيون ومنهم أقطاب في الحزب الجمهوري إلى السخرية من كلام ترامب خاصة وأن روسيا واصلت انتهاكاتها الالكترونية لشركات الطاقة الأمريكية بما فيها المفاعلات النووية. وردّ السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام على ترامب قائلا إن كلامه “قد لا يكون أغبى اقتراح سمعته على الإطلاق، ولكنه أقرب شيء إلى ذلك”. السيناتور الجمهوري ماركو روبيو قال إن إنشاء وحدة أمنية الكترونية مع روسيا مماثل للدخول في شراكة مع (الرئيس السوري) “الأسد لإقامة وحدة بشأن الأسلحة الكيماوية”. وبعد مرور 12 ساعة على مثل هذه المواقف الساخرة و المستهجنة لفكرة ترامب (وفي أعقاب تكهنات غير مؤكدة حول تهديد بعض المسؤولين الاستخباراتيين بالاستقالة) تراجع ترامب عن الاقتراح الغريب، وقال في تغريدة اتسمت بغرابة غير معهودة حتى بمقاييس ترامب المتدنية، “حقيقة أنني ناقشت مع الرئيس بوتين انشاء وحدة أمنية سيبرانية لا يعني أن ذلك يمكن أن يحدث، هذا لن يحدث، ولكن وقف إطلاق نار يمكن أن يحدث، وحدث بالفعل” ، في إشارة ضمنية إلى وقف إطلاق النار المحدود في جنوب سوريا الذي بدأ العمل به ظهر يوم الأحد.
هل يستمر وقف إطلاق النار؟
حقيقة أن الطرفين أطلقا اسم “تخفيض التصعيد” على الاتفاق بشأن سوريا فإن ذلك يعكس اعترافا ضمنيا بمحدودية وتواضع ما تم الاتفاق عليه، على الرغم من أنه جاء نتيجة مباحثات أمريكية-روسية واتصالات مع الأردن، وهو طرف مشارك في الاتفاق، وأيضا مع إسرائيل التي تنشط عسكريا في جنوب سوريا. وتم التوصل إلى الاتفاق قبل أسبوع من لقاء ترامب وبوتين. وهو الأول من نوعه بين إدارة ترامب وروسيا، الأمر الذي دفع ببعض المراقبين إلى القول بأنه يختلف عن اتفاقات وقف إطلاق النار المحلية التي تمت خلال فترة حكم الرئيس السابق باراك أوباما التي انتهت جميعها إلى الفشل. ولكن الواقع، هو أن الرئيس ترامب قد وافق على صيغة روسية تهدف إلى تخفيض التصعيد العسكري في أكثر من منطقة في سوريا، تشارك فيها الدول الإقليمية والعالمية التي لها نفوذ على معظم الأطراف المتقاتلة، ومن هنا مشاركة الأردن في الاتفاق. وتسعى روسيا إلى اتفاق مماثل في شمال سوريا تشارك فيه تركيا.
ولكن الاتفاق لا يشمل إيران، التي لديها نفوذ في جنوب سوريا وخاصة في أعقاب التقدم الميداني الذي أحرزته قوات حزب الله، التي تمثل الذراع الضارب لإيران في سوريا (ولبنان). خلال إدارة الرئيس أوباما، كان النظام السوري بالتعاون مع إيران يقوضان أي اتفاقات تهدئة أو تخفيف للتصعيد. تفاصيل الاتفاق الأخير غير معروفة بمجملها، كما لا تزال بعض المسائل التقنية، ولكن الهامة، مثل من سيقوم بمراقبة الالتزام بالاتفاق قيد النقاش، وإن كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قد قال إن “الشرطة العسكرية الروسية، بالتنسيق مع الأمريكيين والأردنيين” ستقوم بمراقبة تطبيق الاتفاق. خلال ولاية الرئيس السابق أوباما كان المدنيون والعسكريون في وزارة الدفاع يعارضون أي تنسيق عسكري مع روسيا في سوريا. الوزير تيلرسون بدا وكأنه يؤكد ما قاله لافروف ضمنا، حين قال “لدينا صورة واضحة جدا حول من سيوفر القوات الأمنية، ولكن لا تزال هناك بعض التفاصيل التي تحتاج إلى معالجة”.
وبما أن مصالح روسيا وإيران في سوريا غير متطابقة، وبما أن إيران، عبر قوات حزب الله تريد أن يكون لها قوات عسكرية حليفة في هضبة الجولان قرب الحدود مع اسرائيل، تبقى امكانية قيام طهران وحلفائها في وقت لاحق إما بمفردها أو بالتفاهم مع النظام السوري بتقويض الاتفاق كما كان يحدث خلال ولاية أوباما. وحتى ولو تم العمل بالاتفاق، فإنه لا يعني أن اتفاقات مماثلة قابلة للتطبيق في المناطق الأخرى الساخنة في سوريا. والأهم من ذلك، هو هل يمكن للولايات المتحدة أن تثق بروسيا في سوريا، خاصة وأن لروسيا مصالح تتناقض كليا مع المصالح الروسية، الأمر الذي كان من بين العقبات الكبيرة أمام أي حل سياسي مقبول وقابل للحياة خلال سنوات النزاع الستة الماضية. اللافت، هو أن الوزير تيلرسون اتخذ موقفا متفائلا مماثلا للتفاؤل الساذج الذي كان يعكسه سلفه جون كيري حول امكانية التعاون مع روسيا في سوريا حين ادعى “أستطيع أن أقول أنه بشكل عام، أهدافنا متطابقة. كيف نصل إلى تحقيق ذلك، لكل طرف مواقفه. ولكن هناك اشياء عديدة مشتركة بيننا، والأشياء المشتركة اكثر من الخلافات، ونحن نريد البناء على الأشياء المشتركة، وأمضينا الوقت في مناقشة الخطوات المقبلة. وهناك خلافات يجب العمل عليها وفهمها. ربما كان اسلوبهم هو الأنسب، وربما كان اسلوبنا خاطيء”. ويعكس هذا الموقف ضعف واشنطن في قدراتها بالتأثير على الأوضاع الميدانية والسياسية، وتسليما أمريكيا بتفوق روسيا في سوريا، على الرغم من أن الأخيرة، خاصة بعد تدخلها العسكري في سوريا في 2015 تنفذ أهدافها من خلال الاستخدام الوحشي للقوة العسكرية ضد “الإرهابيين” وهي التسمية التي تعتمدها روسيا ضد جميع التنظيمات العسكرية المناوئة للنظام السوري، بمن فيها تلك التي دعمتها أو تدعمها واشنطن عسكريا. معركة روسيا الحقيقية ضد الإرهاب، هي المعركة ضد معارضيها المسلحين في الشيشان وداغستان، وليس إرهابيي القاعدة أو “داعش”. روسيا كانت ولا تزال تعمل على صيانة نظام الأسد، وعلى مساعدته على استعادة السيطرة على المناطق الهامة التي اضطر للانسحاب منها في السابق. دور روسيا في تدمير حلب، يتناقض كليا مع أي تمنيات أمريكية لتيلرسون أو ترامب حول وجود أهداف مشتركة مع روسيا في سوريا، الا اذا وافقت إدارة ترامب على بقاء الأسد في السلطة، وخاصة بعد تحرير مدينة الرقة من احتلال “داعش”، وإطلاق يد موسكو في سوريا، وقبول ترامب لعب دور الشريك ذو المرتبة الثانية في المستقبل المنظور لسوريا.