في الثاني والعشرين من شباط/ فبراير، سيطرت جيبوتي على محطة حاويات دوراليه من مالكها والمشغل المشترك لها وهي شركة موانئ دبي العالمية (DP World) ومقرها دبي. لم تكن عملية الاستيلاء غير متوقعة على الإطلاق، بل كانت تتويجًا لتدهور العلاقات الثنائية بين جيبوتي ودولة الإمارات العربية المتحدة، وخسارة المعركة القانونية مع شركة موانئ دبي العالمية لإعادة التفاوض على شروط امتياز الميناء الذي منحها حصة بقيمة 33٪ في عام 2006. حكمت هيئة التحكيم الدولي بمحكمة لندن ضد ادعاءات جيبوتي التي تقدمت بها في عام 2014، والتي تفيد بأن شركة موانئ دبي العالمية قد دفعت رشاوى لتضمن امتيازها لمدة 30 عامًا. قالت حكومة دبي إنها رفعت دعاوى قضائية لهيئة المحكمة بخصوص الاستيلاء. تدّعي حكومة جيبوتي في بيان لها أنها استولت على الميناء بسبب سوء الأداء -رغم أن حجمه قد اتسع إلى حوالي مليون وحدة من فئة العشرين قدمًا، وهي السعة القياسية لحمولة السفينة سنويًّا– وهناك بنود إضافية أضافتها موانئ دبي العالمية واعتبرتها جيبوتي انتهاكًا لسيادتها.
تم افتتاح دوراليه في عام 2009، وهي محطة الحاويات الوحيدة في القرن الأفريقي القادرة على التعامل مع سفن الحاويات التي يبلغ وزنها 15 ألف طن. وسرعان ما أصبح هذا المشروع هو المستودع الأكبر أهمية لأكبر دولة وأهم اقتصاد في المنطقة، وهي إثيوبيا، التي أصبحت بلادًا من دون منفذ مائي بعد استقلال إريتريا عام 1993. تتلقى إثيوبيا حوالي 97٪ من وارداتها عبر دوراليه –وهو ما يشكل حوالي 70٪ من نشاط الميناء- ما أصبح اعتمادًا استراتيجيًّا غير مقبول على إحدى الدول المجاورة في منطقة عرفت تاريخيًّا بتغيير تحالفاتها والتدخل الداخلي المستمر وتوازن للقوى لم يمكّن أي طرف من الحصول على اليد العليا.
كما تم الكشف مؤخرًا عن تطور آخر ذا علاقة بهذا الأمر. بعد عام من انتهاء موانئ دبي العالمية من إبرام اتفاقية مع جمهورية أرض الصومال (صوماليلاند) وهي منطقة تنعم بما يشبه الحكم الذاتي الجزئي لتطوير ميناء تجاري في بربرة بقيمة 442 مليون دولار، وقعت إثيوبيا على صفقة مع مشغل الميناء وحكومة صوماليلاند للحصول على حصة 19 في المئة من الميناء. وأوردت التقارير أن ثمة خططًا لقيام موانئ دبي العالمية بتحديث البنية التحتية التي تربط بين بربرة والحدود الإثيوبية وهو ما سيسمح لأديس أبابا وربما شرق أفريقيا على النطاق الأوسع بتقليل اعتمادها على جيبوتي وحدها، الأمر الذي سيكون له تداعيات إستراتيجية هامة على الجغرافيا السياسية في المنطقة. ويتكهن الكثير من المحللين بأن هذا الاتفاق لبناء منافس مباشر لميناء دوراليه هو السبب المباشر لقيام جيبوتي بالاستيلاء على المحطة من موانئ دبي العالمية.
جيبوتي: محطة حاويات دورالي (التي كانت تُديرها سابقًا موانئ دبي العالمية)؛ ميناء دورالي متعدد الأغراض (الصين)؛ قواعد عسكرية وبحرية أمريكية وفرنسية ويابانية وصينية وسعودية.
عصب. إريتريا: قواعد عسكرية وبحرية للإمارات العربية المتحدة.
بربرة، صوماليلاند: مشروع لموانئ دبي العالمية؛ قاعدة بحرية قيد الإنشاء للإمارات العربية المتحدة.
بونتلاند (أرض البنط)، الصومال: حصلت شركة موانئ (P & O Ports)، وهي شركة تشغيل موانئ تملكها دبي ضمان بحقها في تطوير ميناء بوصاصو؛ عملت دولة الإمارات العربية المتحدة على تدريب وتجهيز قوة شرطة بونتلاند البحرية.
مقاديشو، الصومال: قاعدة عسكرية تركية؛ تمول الإمارات العربية المتحدة مركز تدريب القوات الخاصة؛ تعمل شركة البيرق التركية على تشغيل ميناء مقاديشو.
براوي، الصومال: هناك مباحثات بين شركة موانئ دبي العالمية والحكومة المحلية حول تأهيل ميناء براوي البحري.
سواكن، السودان: ستقوم تركيا ببناء رصيف بحري للحفاظ على السفن المدنية والعسكرية.
تكشف حكاية هذين الميناءين عن ديناميكيات معقدة بشكل متزايد تحفز الجغرافيا السياسية، والسياسة المحلية، التي تشكلت بفعل المنافسة بين القوى الإقليمية الطامحة في الشرق الأوسط -وخاصة دول الخليج العربية وتركيا- والصين على النفوذ في القرن الأفريقي. يتوقع بعض المحللين وكبار الضباط العسكريين الأمريكيين أن جيبوتي قد تحاول تحويل محطة حاويات دوراليه إلى مستثمرين صينيين. تم بناء مشروع جديد بقيمة 600 مليون دولار، هو ميناء دوراليه المتعدد الأغراض، من قبل شركة مخازن موانئ تجار الصين، التي اشترت في عام 2013 حصة 23.5 في المئة من مالك معظم محطة حاويات دوراليه، في ميناء جيبوتي. كما ساعد بنك الصين للاستيراد والتصدير في تمويل خط سكة الحديد الممتد على مسافة 470 ميلاً وبتكلفة 4 مليارات دولار أميركي لربط دوراليه بأديس أبابا.
لقد أضافت أزمة مجلس التعاون الخليجي الداخلية متغيرًا آخر من شأنه زعزعة الاستقرار، حيث اضطرت الدول والأحزاب والنخب في شرق أفريقيا إلى اختيار حلفاء لها. ففي الصومال، أدى هذا إلى تفاقم التوترات داخل الفصائل السياسية في مقاديشو، وكذلك بين الحكومة الاتحادية والمناطق الانفصالية ومناطق الحكم الذاتي الجزئي في البلاد. وقد تضافرت هذه الديناميكيات مع المزيد من التداعيات المباشرة للأزمة، مثل التحرك الإماراتي والسعودي لتجميد الدعم المالي للحكومة الاتحادية الذي كان يساهم في دفع رواتب قوات الأمن، من أجل خلق بيئة سياسية وأمنية منقسمة ومُشتتة، فسعت حركة الشباب إلى استغلال ذلك بزيادة الهجمات.
في انتخابات الصومال الرئاسية عام 2017، خسر المرشح الذي يزعم أنه مدعوم من قبل الإمارات لصالح منافسه، محمد عبد الله محمد، المعروف باسم فرماجو، الذي يزعم انه مدعوم من قطر وتركيا. لم تقف الحكومة الاتحادية إلى جانب أي طرف في نزاع دول مجلس التعاون الخليجي، على الرغم من أن فرماجو ووزراء الحكومة قد سافروا مرارًا إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وفي الوقت الذي سعى فيه فرماجو للحصول على دور للحكومة الاتحادية في صفقات الموانئ والقواعد العسكرية، إلا أن هذه المطالب لم تتحقق حتى الآن، وقد أضاف التدخل المباشر للحكومات الانفصالية الإقليمية ديناميكية مركزية جديدة إلى العلاقات الهشة أصلاً بين مقاديشو وحكومات ولايات الحكم الذاتي الجزئي.
تظهر التطورات الأخيرة أن المنافسة على بسط النفوذ هي في الواقع طريق ذو اتجاهين. إلى جانب المنافسة من قبل الأطراف الخارجية، فقد أصبح هناك نفوذ أكبر لبلدان القرن الأفريقي، التي طالما برعت نُخبها في لعب دور العرّاب للجهات الخارجية ضد بعضها بعضًا. فقد نجحت إثيوبيا إلى حد ما في تخفيف اعتماد أبو ظبي على عدوتها إريتريا، من خلال دعم خططها في ميناء بربرة. في عام 2015، بعدما لم تتمكن من الوصول إلى جيبوتي بسبب العمليات العسكرية، أنشأت الإمارات العربية المتحدة قاعدة في مدينة عصب الإريترية الساحلية، والتي كانت حيوية لعملياتها في جنوب اليمن. لقد ساهمت إثيوبيا كذلك، وهي أكبر وأقوى دولة في القرن الأفريقي، في تقسيم الصومال من خلال تشجيع استقلال صوماليلاند وتوطيده بحكم الأمر الواقع، وذلك عن طريق دعم خطط البنية التحتية العسكرية والتجارية لدولة الإمارات العربية المتحدة في صوماليلاند. تقوم السياسة الإقليمية لأديس أبابا على أساس أن الصومال كدولة ضعيفة لا تقوى على تحدي الهيمنة الإثيوبية في دعمها للمتمردين الصوماليين العرقيين. ووافقت صوماليلاند على تأجير القاعدة العسكرية السوفييتية القديمة في بربرة إلى الإمارات العربية المتحدة، بالقرب من مشروع شركة موانئ دبي العالمية، الذي تخطط أبو ظبي لتوسيعه، مقابل استثمار بقيمة مليار دولار في البنية التحتية والتدريب وإيجاد فرص العمل في المنطقة الصومالية المنفصلة. لكن هذه الخطة تعقدت، مؤقتًا على الأقل، بسبب الديناميكيات السياسية المحلية. ويذكر أن صوماليلاند قد أوقفت بناء القاعدة بسبب المزاعم المتناقضة للقبائل المحلية بشأن التعويض عن الأراضي التي يجري تطويرها. في السودان، قادت الإمارات والسعودية الجهود لإعادة تأهيل الرئيس عمر البشير في المجتمع الدولي من خلال الضغط من أجل رفع العقوبات الأمريكية عن السودان. ووافق البشير على قطع العلاقات مع إيران وإرسال قوات للقتال مع التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن. في كانون الأول/ ديسمبر 2017، وافق البشير أيضًا على تأجير جزيرة سواكن على البحر الأحمر لتركيا من أجل التنمية. وبالرغم من أن تركيا قد نفت ذلك، إلا أنه سرعان ما برزت المخاوف من أن أنقرة تعتزم بناء قاعدة عسكرية جديدة على الجزيرة، ستكون هي الثانية في القرن الأفريقي مع وجود الأولى في العاصمة الصومالية مقاديشو. وجاءت الاتفاقية في الوقت الذي وصلت فيه علاقات أنقرة مع الرياض وأبو ظبي إلى الحضيض. إن القوة الناعمة لتركيا وشعبيتها في مقاديشو وأجزاء أخرى من الصومال قوة لا يُستهان بها، وقد قامت مبكرًا على أُسس التنمية الاقتصادية والدبلوماسية والبنية التحتية والمعونات والتعليم مع الدولة. وعندما ارتفعت درجة التنافس مع الرياض وأبو ظبي، استفادت أنقرة من هذه الميزة.
إن الثقة التي تسعى إليها النُخَب في القرن الأفريقي مراعاة لمصالحها الخاصة في ظل وجود خطر إثارة غضب العرابين الجدد، توضح المخاطر الكبيرة للمشاركين في ما يسمى “الاندفاع الجديد إلى أفريقيا“، وكذلك نواياهم على المدى الطويل. ظهرت جيبوتي بشكل خاص خلال العقد الماضي كمركز تنسيق استراتيجي بالقرب من ممر باب المندب للشحن، وهو أمر وجودي لتدفق الطاقة الخليجية إلى أوروبا والبضائع بين آسيا وأوروبا. لقد استغلت جيبوتي موقعها في صفقات أساسية مربحة لقوى العالم الحالية والناشئة على حد سواء. الولايات المتحدة، والصين، واليابان، والمملكة العربية السعودية، والحكم الفرنسي الاستعماري السابق، وجميعها لها قواعد في جيبوتي.
لكن بالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة، التي اضطرت للبحث عن أماكن أخرى بعد خلافها الكبير مع جيبوتي، فإن بناء القواعد العسكرية على طول جانبي ساحل البحر الأحمر هو أمر أساسي، أولاً لضمان المصالح الأمنية مثل عملياتها في اليمن، وعمليات مكافحة الإرهاب ومكافحة القرصنة، وهو عمق استراتيجي لمواجهة إيران. ومع ذلك، فإن مصالح الإمارات على المدى الطويل -وكذلك مصالح منافسيها- هي اقتصادية وإستراتيجية. تعمل البلاد على جعل نفسها مكونًا أساسيًّا في مبادرة الحزام والطريق الصينية، وتأمين جبل علي في دبي كمركز رئيسي للخدمات اللوجستية والتجارية ليربط آسيا بأفريقيا عبر البنية التحتية لشركة موانئ دبي العالمية، لمواجهة المنافسة من خلال فائض من الموانئ الجديدة التي بناها منافسون لديهم طموحات مماثلة في إيران وباكستان وعُمان وأماكن أخرى على طول القرن الأفريقي. وتشارك موانئ دبي العالمية في مشروعين آخرين للموانئ في الدول الصومالية الانفصالية، بالإضافة إلى مشاريع البنية التحتية اللوجستية ومشاريع الموانئ في رواندا وموزامبيق والجزائر ومالي.
يمتلك القرن الأفريقي ومنطقة شرق أفريقيا على نطاق أوسع بعضًا من أسرع الأنظمة الاقتصادية نموًّا في القارة، مع ظهور للطبقات الوسطى، لكن الأسواق غير المستغلة نسبيًّا في حاجة ماسة إلى استثمارات في البنية التحتية ومجموعة من القطاعات لتلبية احتياجات هؤلاء المستهلكين الجدد. لقد استثمر عدد من المستثمرين المدعومين من الدولة والقطاع الخاص من الإمارات في مجموعة واسعة من القطاعات غير المتعلقة بالطاقة، من التمويل والبنوك إلى قطاعات البناء والسياحة والغذاء والترفيه والأعمال التجارية الزراعية.
كما تحاول دولة الإمارات العربية المتحدة أن تجعل طبيعة مشاركتها أكثر جاذبية للحكومات الأفريقية والشركاء من القطاع الخاص: فبدلاً من اتباع المسار الصيني، الذي كان يُنظر إليه سلبًا على أنه نمط استعماري زائف في أفريقيا، فهي معجبة أكثر بالنموذج التركي. وتأتي الاستثمارات، مثل “موانئ دبي العالمية” في الصومال أو القواعد العسكرية، مزودة بباقات من الاستثمار في البنية التحتية والتدريب والتعليم للعاملين وقوات الأمن، عدا عن الإغراءات مثل زيادة عدد التأشيرات إلى الإمارات العربية المتحدة. ولا يزال الأمن الغذائي والمائي يمثل مصلحة مهمة لدولة الإمارات العربية المتحدة ودول الخليج الأخرى في شرق أفريقيا. تسعى الشركات الإماراتية إلى تجنب أمثال المأزق السياسي الذي تسبب في فشل الاستثمارات السابقة في الأرض لإنتاج الغذاء. وتزعم شركة الظاهرة القابضة الخاصة، والتي تمتلك أراضي زراعية في أفريقيا، أنها تستخدم صيغة تقاسم النصف بالنصف (50-50) من الإنتاج مع الشركات المحلية وتشغل العمال المحليين.
من المحتمل أن تؤدي المصالح المتنافسة للوافدين الأجانب الجدد إلى الاقتصاد السياسي في القرن الأفريقي إلى شروط أفضل وصفقات أكثر إنصافًا للحكومات والاقتصادات النامية المتعطشة للاستثمار. لكن الإلغاء المفاجئ لامتياز شركة موانئ دبي العالمية في دوراليه يكشف أيضًا المخاطر المتزايدة على القوى الإقليمية الطموحة. إن الثغرات العميقة للسياسات الصومالية، والتي تُعزى إلى حد كبير لمحاولات قوى الشرق الأوسط بسط نفوذها، توضح أيضًا المخاطر على مجتمعات القرن الأفريقي، التي قد يؤدي موقعها الاستراتيجي وإمكانياتها الاقتصادية المتناقضة إلى مسار أكثر تعقيدًا، وربما يكون محفوفًا بالمخاطر.