منذ تأسيسها، تمتعت دولة الإمارات العربية المتحدة بعلاقة قوية مع الولايات المتحدة، ولا يزال هذا هو الحال، بغض النظر عن التوترات الحالية مع إدارة الرئيس جوزيف بايدن في البيت الأبيض.
كانت الولايات المتحدة من أوائل الدول التي اعترفت بالإمارات فور إنشائها في ديسمبر/كانون الأول 1971. وتم إرسال السفير ويليام ستولتزفوس (William Stoltzfus) كسفير فوق العادة ومفوض إلى دولة الإمارات بعد ثلاثة أشهر للتحضير لافتتاح سفارة الولايات المتحدة في عام 1974.
منذ ذلك الحين حافظت الإمارات والولايات المتحدة على علاقة ثابتة وقوية، حيث بلغ حجم التجارة الثنائية 23 مليار دولار. والأهم من ذلك، شاركت الإمارات في العمليات العسكرية بقيادة الولايات المتحدة في الكويت وأفغانستان وصربيا والعراق، وكذلك في مهمة الناتو التي تقودها الولايات المتحدة في ليبيا. يضاف إلى ذلك تعاون أمني عميق في مجال مكافحة الإرهاب يتراوح من تبادل المعلومات الاستخبارية إلى جهود مكافحة التطرف.
يتناقض هذا التاريخ من العلاقات القوية مع الخطاب الحالي المنتشر في وسائل الإعلام الأمريكية بشأن العلاقة مع الإمارات – بأن العلاقات وصلت إلى قاع جديدة أو حتى أن هناك أزمة بسبب تجاهل الإمارات لبايدن، وإبداء التضامن مع روسيا علي حساب التحالف مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن قوة تلك العلاقة تم اختبارها أكثر من مرة.
كيف وصلت العلاقة إلى هذا المستوى؟
شهدت العلاقة صعودًا وهبوطًا، لكن التوترات الحالية، في معظمها، متجذرة في التحول الاستراتيجي للولايات المتحدة مع سياسة “الشرق المحوري” الخارجية، التي اتبعتها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. هذا المحور لمواجهة الصعود المحتمل للصين لتصبح أكبر اقتصاد في العالم أمرًا مطلوبًا – بالنسبة للعديد من المسؤولين الأمريكيين ومحللي السياسة – بعيدًا عن الشرق الأوسط، جنبًا إلى جنب مع الجهود المبذولة لتقليل التكاليف والأعباء الأمريكية المتصورة المرتبطة بهذا الوجود الأمني الكبير.
وسرعان ما تُرجم ذلك التحول شرقًا إلى سياسات أمريكية عامة وسياسات خارجية، بما في ذلك السماح بالتكسير الهيدروليكي [لاستخراج النفط الصخري]، وذلك لتحقيق الاستقلال في مجال الطاقة، وإدخال تدابير تقشفية لميزانيات وزارة الدفاع لدرجة أن مقالًا في مجلة ذا اتلانتيك وصف الرئيس أوباما بأنه “رئيس التقشف“.
فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فقد رأت دول الخليج العربية الانتهاء من وضع الصيغة النهائية لخطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران (الاتفاق النووي) دون التشاور مع دول مجلس التعاون الخليجي، على أنه محاولة لتقليل التدخل الأمني للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. كانت وجهة النظر العامة في هذه الدول هو أن حصر مفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة على البرنامج النووي الإيراني كان بمثابة فرصة ضائعة لتقييد الأنشطة المزعزعة للاستقرار التي تقوم بها الميليشيات المدعومة من إيران. وقد فاقم ذلك قبول الولايات المتحدة قيام وكلاء إيران بمحاربة تنظيم داعش، بما في ذلك قوات الحشد الشعبي في العراق، وغض الطرف عن تعبئة إيران للحركات الشيعية، مثل لواء الزينبيون من باكستان وفرقة فاطميون من أفغانستان، لمحاربة داعش في سوريا. وقد كان ذلك التقبل الأمريكي علامة على تحول في الهيكل الأمني يعكس حرية أكبر في الحركة لنشاط الميليشيات المدعومة من إيران. لكن توجهات التقشف الأمريكي امتد إلى أبعد من ذلك. فإعطاء روسيا قيادة الملف السوري، بدلاً من فرض منطقة حظر طيران، لم يكن مجرد وسيلة لتقليص فاتورة الأمن الأمريكية – والمشاركة العسكرية الأمريكية المفتوحة المحتملة – في الشرق الأوسط، بل كان بمثابة إعادة هيكلة كبيرة للمسؤولية الأمنية التي انتهت بإعطاء كل من روسيا وإيران دورًا جديدًا في المنطقة.
وربما كانت الضربة الأكبر هي الموقف الأمريكي من انقلاب جماعة الحوثي، المدعومة من إيران، على السلطة في اليمن. فقد تحرك الحوثيون بسرعة من احتلال صنعاء إلى مهاجمة عدن وتهديد السعودية، وفي غضون ذلك استمرت السفارة الأمريكية في العمل في صنعاء حتى منتصف فبراير/شباط 2015 قبل إغلاقها. بقاء السفارة مفتوحة لمدة شهر بعد استيلاء الحوثيين على العاصمة اعتبره البعض بمثابة توفير غطاء شرعية للحوثيين. كان هذا بمثابة خروج كبير عن عقيدة كارتر والتزام الولايات المتحدة نحو دول مجلس التعاون الخليجي، الذي تم الاتفاق عليه بين الرئيس فرانكلين روزفلت والملك عبد العزيز آل سعود على متن السفينة يو إس إس كوينسي في عام 1945. ولا شك أن إدارة أوباما دعمت التحالف الذي تقوده السعودية لمقاومة الحوثيين، لكن ذلك كان وسيلة لترسيخ مبدأ “تقاسم الأعباء” أو “حك ظهرك بنفسك” فيما يخص الأمن الإقليمي. ويكاد يكون تحرك إدارة بايدن في يونيو/حزيران 2021 لسحب صواريخ باتريوت من السعودية، في الوقت الذي كانت تواجه فيه هجمات الطائرات بدون طيار والصواريخ، آخر مسمار في نعش عقيدة كارتر.
ربما كان تعامل إدارة بايدن مع العلاقات مع السعودية هو الجانب الأكثر إرباكًا وإضرارًا في علاقات دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة. فبينما شعرت الإدارة بأنها مضطرة لتقديم ردها الخاص على مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، بدا أن الإدارة تسمح لوسائل الإعلام والكونجرس برد فعل ساهم في منع أي جهد جاد لإعادة بناء العلاقة. عزز هذا الشعور بالانحراف في العلاقات الأمريكية-السعودية من فكرة أن الولايات المتحدة لم تعد تأخذ علاقتها مع السعودية – أو التزاماتها الأمنية الخليجية – على محمل الجد.
حتى بدأت أسعار النفط في الارتفاع، لم تكن دول مجلس التعاون الخليجي من أولويات بايدن، الذي كانت سياسته في الشرق الأوسط تتمحور حول عودة الولايات المتحدة لخطة العمل المشتركة الشاملة. وقد نظر إلى بحث الإدارة رفع الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية على أنه يمثل حافزاً لتسريع عودة النفط الإيراني إلى السوق في ظل التزام السعودية والإمارات باتفاقية أوبك بلس لسقف الإنتاج بين أوبك والدول من خارج أوبك المنتجة للنفط.
صراع النظم العالمية
ومع ذلك، لا تقتصر التغييرات على سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بل تتجاوزها للطريقة التي ترى بها النظام العالمي. لقد فتح النظام العالمي أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، الباب أمام العولمة، التي تبنتها روسيا والصين. لقد استثمرت دول مجلس التعاون الخليجي بشكل كبير في العولمة، بل إن جميع خطط التنمية لعصر ما بعد النفط في المنطقة ترتكز على مفهوم الترابط الاقتصادي العالمي. ومع ذلك، فإن هذا النظام العالمي، المترابط عالميًا، مهدد بشكل خطير. إن رد إدارة بايدن على الغزو الروسي لأوكرانيا يستعيد، عن غير قصد أو بقصد، النظام العالمي ثنائي القطب الذي انتهى في التسعينيات. إن الاستخدام الحالي للعقوبات ومصادرة الأصول وتجميد ممتلكات الشركات والأفراد وأقاربهم يرسل إشارات تنذر بالسوء لكل من يؤمن بالاستثمار الأجنبي والاقتصاد العالمي المترابط. بالنسبة للكثيرين، يبدو أن إدارة واحدة ستعيد عقارب الساعة للاقتصاد المعولم إلى الوراء 35 عامًا، وجميع الاستثمارات في الاقتصاد العالمي المتشابك ستتبخر في لحظة.
لقد آمنت الإمارات، مثل العديد من البلدان الأخرى، بالعولمة، وصاغت هيكلها الاقتصادي والدبلوماسي بالكامل على أساس المسارات المفتوحة للتجارة والتمويل وحركة الأفراد وتبادل البيانات. فمن طيران الإمارات إلى موانئ دبي العالمية إلى اتفاقات ابراهام، اعتمدت السياسات الإماراتية العامة والخارجية على النظام العالمي الذي أنشأته الولايات المتحدة. وعليه تمثل العودة إلى حقبة الحرب الباردة تخريبا لكل ذلك. هذا جزء من سبب تجميد الإمارات لمناقشاتها بشأن شراء طائرات مقاتلة من طراز F-35 لأنه أصبح من الواضح أن جزءًا من الثمن كان العودة إلى نظام ثنائي من الأصدقاء والأعداء، وهو ما يتعارض مع الكيفية التي يرى بها بقية العالم العلاقات الاقتصادية. على الرغم من أن المواجهة الحالية مع روسيا، فإن تداعيات مد تلك المواجهة الاقتصادية لتضم الصين، كما حدث مع استخدام شبكة الجيل الخامس من شركة هاواي (Huawei)، تمثل خطرًا واضحًا وقائمًا على الترابط العالمي.
هل يمكن أن تتغير الأشياء؟
كانت إحدى النتائج الرئيسية لاتفاقات ابراهام هي إعادة تقييم مصفوفة التهديد. فتح تحول إسرائيل من “عدو” إلى “صديق” آفاقًا جديدة في العلاقة بين إسرائيل ودول الخليج الرئيسية، حتى تلك التي لم توقع على الاتفاقات، وزيادة التعاون في استخدام المجال الجوي والتدريبات العسكرية والمشاركة الثقافية. من بين أشياء أخرى، تعد الاتفاقات بالفعل علامة على أن الأشياء يمكن أن تتغير، وأن الخيارات التي كان يعتقد سابقًا أنها مستحيلة أو صعبة للغاية يمكن أن تصبح حقيقية مع القيادة والرؤية.
يمكن لإدارة بايدن أن تجد فرصة في الأزمة بين الولايات المتحدة وبعض دول مجلس التعاون الخليجي لإعادة تقييم العلاقة وقيمتها لكلا الطرفين في صيغة اتفاق “كوينسي 2″، على غرار الاتفاقية بين روزفلت والملك عبد العزيز، والتي تتطلب الأخذ في الاعتبار التغيرات في مصالحهم الوطنية وتوجهات التنمية والمشهد العالمي. قد يؤدي ذلك لإعادة تعريف العلاقة بين الولايات المتحدة ودول المجلس لتحديد ما إذا كانوا حلفاء أم مجرد شركاء. حاليًا، لا يوجد هيكل تحالف أمني حقيقي للولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي على الرغم من وجود كل من القيادة المركزية الأمريكية والأسطول الخامس في دول المجلس.
يجب أن يأخذ هذا التحالف، أو الشراكة، بعين الاعتبار التخطيط المستقبلي لكل من الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي. في حالة الإمارات، فقد بدأت في وضع أجندة الخمسين عامًا، والتي تتضمن قضايا تتعلق بالذكاء الاصطناعي وجدول أعمال للترابط العالمي والحياة في العالم الرقمي. هذه تطلعات مشتركة بين جميع دول مجلس التعاون الخليجي، على الرغم من الاختلافات في الأولويات وسرعة التنفيذ. من أجل علاقة مستدامة بين الولايات المتحدة ودول المجلس يجب أن تكون مبنية على تخيل مشترك للمستقبل.
لتسهيل إعادة تعريف العلاقات هذه، يمكن للولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي استخدام نموذج عملية “T-20“، التي جمعت بين مراكز الأبحاث والمؤسسات البحثية الرائدة من دول مجموعة العشرين لصياغة توصيات السياسات. يمكن للمؤسسات الفكرية في كل من الولايات المتحدة ودول المجلس أن تجتمع بانتظام لتطوير أجندة مشتركة للسنوات الخمسين القادمة، والتي يمكن أن تصبح أساسًا لتطوير إما تحالف أو شراكة مع توقعات والتزامات واضحة في الجهود المبذولة لإضافة المزيد من العمق الاستراتيجي والوضوح إلى العلاقة.
لقد تم استثمار الكثير في علاقة عميقة الجذور بين دول الخليج العربية والولايات المتحدة. سيكون من المكلف لكلا الطرفين رؤيتها تتلاشى.