كانت مناسبة مرور مئة يوم على الغزو الروسي لأوكرانيا، فرصة للمحللين والسياسيين لإعادة النظر ببعض المسلمات السياسية والعسكرية، وتقويم خيارات روسيا وأوكرانيا مع انتقال القتال إلى شرق البلاد، وتحليل قيمة الدعم العسكري الأميركي – والغربي عمومًا – لأوكرانيا، وما إذا كان هذا الدعم مُصمَما فقط لمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها، أم يجب أن يكون هدفه هزيمة روسيا بشكل حاسم، حتى ولو اقتضى ذلك قيام أوكرانيا باستخدام بعض هذه الأسلحة في العمق الروسي.
تزامنت هذه المناسبة مع احتدام الجدل والاتهامات المتبادلة بين أوكرانيا والغرب من جهة وروسيا من جهة أخرى حول مسؤولية “عسكرة” الأغذية، وخاصة المخزون الأوكراني الاستراتيجي من القمح، والمقدر بعشرين مليون طن، والتي تقول أوكرانيا، ومعها الدول الغربية، أن روسيا تمنع تصديرها إلى الأسواق العالمية بسبب حصارها للموانئ الأوكرانية. وتعتبر روسيا وأوكرانيا أكبر بلدين مصدرين للقمح في العالم. وإذا ظل القمح الأوكراني تحت الحصار، وإذا استمرت العقوبات الاقتصادية، كما هو متوقع، بمنع روسيا من تصدير قمحها، فإن عشرات الملايين في أفريقيا وآسيا سوف يعانون من نقص حاد في امدادات القمح الضرورية لغذائهم اليومي. ومنذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، ارتفعت أسعار القمح بنسبة 45 بالمئة، وفقًا لبنك التنمية الافريقي.
الاجتماع الأخير بين الرئيس السنغالي ماكي سال (Macky Sall)، الذي يرأس أيضا منظمة الاتحاد الافريقي، مع الرئيس الروسي بوتين في منتجع سوتشي على البحر الأسود، أبرز إلى العلن معضلة الدول الأفريقية البعيدة عن مسرح النزاع الدموي في أوكرانيا “التي هي أيضًا من ضحايا هذه الأزمة على المستوى الاقتصادي”، كما قال الرئيس السنغالي، الذي دعا أيضًا الدول الغربية، بحضور بوتين، إلى السماح لأوكرانيا وروسيا بتصدير إنتاجهما من القمح إلى العالم.
وتشكك أوكرانيا والولايات المتحدة بتصريحات المسؤولين الروس بأنهم لن يمنعوا تصدير القمح الأوكراني من مرفأ أوديسا، ويتهمون موسكو بسرقة شحنات من القمح الأوكراني وسفن أوكرانية، ويبحثون مع دول أخرى في سبل تنظيم حماية لسفن الشحن الأوكرانية من قبل سفن حربية غربية لحمايتها من أي اعتداء روسي. وهناك جهود تبذلها تركيا للعب دور في إزالة الألغام المحيطة بمرفأ أوديسا للتعجيل بتصدير القمح الأوكراني.
وفي هذا السياق اتهم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن روسيا بمحاولة “ابتزاز” أوكرانيا بعد سرقة شحنات من قمحها، وأنه على موسكو أن تدرك أنها بذلك “تصّدر المجاعة والمعاناة أبعد من الحدود الأوكرانية”، مشددا على أن الدول الأفريقية تعاني أكثر بكثير من غيرها من دول العالم بسبب اعتمادها على القمح الأوكراني.
وجاء قرار الاتحاد الأوروبي الأخير بتخفيض حجم استيراد النفط الروسي بحوالي 90 بالمئة مع حلول نهاية السنة الحالية، والارتفاع الحاد لأسعار المحروقات في العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة، أكبر دولة منتجة للنفط والغاز في العالم، ليؤكد من جديد أن الحرب الأوكرانية لم تؤثر فقط على إمدادات الأغذية في العالم، بل أيضًا إمدادات الطاقة مع ما يعنيه ذلك من تضخم في الأسعار وتراجع النمو الاقتصادي في العالم.
وخرج البنك الدولي قبل أيام بتقويم قاتم للنمو الاقتصادي في العالم في السنوات القليلة المقبلة بسبب الحرب الأوكرانية، والمضاعفات المستمرة لجائحة Covid-19. وتوقع البنك الدولي انحسار النمو الاقتصادي في 2022 إلى 2.9% بعد أن وصل إلى 5.7% في 2021، وتوقع البنك الدولي استمرار هذه المعدلات المتدنية من النمو الاقتصادي العالمي خلال 2023 و2024.
الارتفاع المستمر في أسعار المحروقات في الولايات المتحدة، على الرغم من الإفراج عن مليون برميل من النفط يوميًا من الاحتياط الاستراتيجي، أرغم الرئيس بايدن على إعادة النظر في علاقاته الفاترة مع السعودية، والتي كانت مضطربة في بداية ولايته بسبب انتقاداته للقيادة السعودية جراء حرب اليمن، واغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في تركيا، وهو الحائز على الاقامة الدائمة في الولايات المتحدة، وسجل المملكة في مجال حقوق الانسان. وبعد أن رفضت السعودية ومعها دولة الإمارات طلبات الرئيس بايدن المتكررة زيادة انتاجها من النفط لتعويض خسارة النفط الروسي ولضبط ارتفاع الأسعار، قرر الرئيس بايدن في خطوة لافتة، عرضته لانتقادات من أعضاء حزبه الديموقراطي، التوقف في السعودية خلال جولته المقبلة في المنطقة، في الشهر المقبل.
ويرى بعض الخبراء والمحللين أنه حتى ولو قررت السعودية ودولة الإمارات زيادة انتاجهما من النفط بمليون برميل من النفط في اليوم أو أكثر، فإن ذلك لن يؤدي إلى تغيير هام في أسواق النفط العالمية، ولن يساهم بشكل ملحوظ في تقليص أسعار المحروقات في الولايات المتحدة، ما يمكن أن يصب في مصلحة الرئيس بايدن وحزبه الديموقراطي في الانتخابات النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وقبل أيام انتقد النائب الديموقراطي آدم شيف (Adam Schiff)، رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، زيارة بايدن إلى السعودية، وعقب ذلك بإرسال رسالة إلى الرئيس بايدن وقعها معه رؤساء لجان الشؤون الخارجية والقوات المسلحة والأمن الوطني وغيرها، وحضوا بايدن على مطالبة الرياض بالتخلي عن اتفاقها النفطي مع روسيا، وبتعديل سياستها تجاه حقوق الانسان، وعدم التعاون مع الصين في مجال تطوير قدراتها الصاروخية.
المشهد النفطي في العالم ليس مرشحًا لتغييرات كثيرة أو جذرية خلال الأشهر الستة المقبلة، ما يعني أن أسعار المحروقات في العالم وفي الولايات المتحدة سوف تبقى مرتفعة إضافة إلى أسعار المواد الغذائية، وتحديدا القمح الضروري لإنتاج الخبز، الذي يعتبر مصدر الغذاء الرئيسي في دول أفريقية هامة من أبرزها مصر. وتقول مصادر أميركية معنية بارتفاع أسعار المواد الغذائية أن واشنطن تراقب عن كثب الاجراءات الاحترازية التي تتخذها الحكومة المصرية تحسبًا لأي “انتفاضات خبز” محتملة.
ويتخوف المسؤولون في الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية المعنية بتوزيع المساعدات الغذائية من معاناة حوالي 20 مليون نسمة في منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا من المجاعة بسبب القحط والجفاف التي تعاني منه هذه المنطقة، وهو تحد سوف يتضاعف مع تفاقم أزمة الأغذية التي جلبتها الحرب الأوكرانية.
الرأي السائد في أوساط المحللين العسكريين، هو أن القتال بين القوات الروسية الغازية والقوات الأوكرانية في شرق البلاد، على الرغم من التقدم البطيء الذي أحرزته مؤخرًا القوات الروسية، سوف يستمر لأسابيع وأشهر، وأن القوات الروسية ليست قادرة على حسم القتال لصالحها بشكل نهائي وقاطع أو في أي وقت قريب. ويتوقع المسؤولون في واشنطن أن تواصل القوات الأوكرانية أدائها الجيد، وخاصة بعد استلامها لقطع المدفعية المتطورة التي زودتها بها الولايات المتحدة وبريطانيا، الأمر الذي يعني أن القتال في شرق أوكرانيا سوف يتحول إلى حرب استنزاف طويلة المدى تصاحبها عمليات مقاومة تقوم بها عناصر أوكرانية غير نظامية، إضافة إلى متطوعين أجانب.
حتى الآن، لا تزال إدارة الرئيس بايدن مترددة في تقديم أسلحة متطورة أكثر إلى أوكرانيا، أو تزويدها بصواريخ أو مدفعية بعيدة المدى قادرة على الوصول إلى العمق الروسي، والسماح لها باستخدام هذه الأسلحة، لأنها لا تزال تصر على تفادي مواجهة مباشرة مع روسيا. وهناك جدل حاد في أوساط الحكومة الأميركية، كما في مراكز الأبحاث، بين دعاة العمل على احتواء القتال وإبقائه داخل الأراضي الأوكرانية، وبين من يقول أن أوكرانيا قد استحقت وبامتياز حقها في نقل المعركة إلى العمق الروسي إذا استطاعت ذلك، وقررت أنه يخدم مصلحة الأمن القومي الأوكراني.
الخبراء في الشؤون الروسية يقولون أن الرئيس بوتين، قادر، على تعبئة عشرات الآلاف من المقاتلين، ولكنه يدرك أيضا أن مثل هذه التعبئة العامة سوف تكون مكلفة ماليًا، ولكن ربما الأهم، فإنها سوف تهز الوضع القائم و”العادي” الذي تعود عليه الشعب الروسي خلال حقبة بوتين، وهذا ما يريد بوتين تفاديه. الرئيس الروسي، وفقا لهؤلاء الخبراء يعتقد أنه قادر على الانتصار في حرب استنزاف طويلة الأمد، ولكن أي نزاع مفتوح من هذا النوع سوف يخلق معطيات جديدة وغير متوقعة، من بينها التحسن الإضافي في نوعية الخبرات القتالية للقوات الأوكرانية، التي يمكن أن ترغم القوات الروسية على الانسحاب، على الأقل من المناطق التي احتلتها في غزوها الثاني لأوكرانيا، وأن تلحق بموسكو هزيمة مماثلة لتلك التي تعرضت لها في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، والتي ساهمت في التعجيل بانهيار الاتحاد السوفياتي.