هذا المقال جزء من سلسلة من المقالات الصادرة عن معهد دول الخليج العربية في واشنطن حول “رؤية السعودية 2030” التي تشتمل مجموعة واسعة من البرامج والإصلاحات التي اعتمدتها الحكومة السعودية بهدف تنفيذها بحلول عام 2030.
هل تضمّن إعلان رؤية 2030 مفاجآت؟
في الحقيقة، كلّا، لم يتضّمن الإعلان عن خطة رؤية 2030 في نيسان/أبريل إلا القليل من المعلومات الجديدة، فهو يتماشى مع التعليقات السابقة التي أدلى بها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في مقابلاته مع وكالة بلومبيرغ ومجلة ذي إيكونوميست في خلال الأشهر القليلة المنصرمة. وكان هذا الإعلان بمثابة كشف عن استراتيجية، وليس وثيقة مالية أو مخططًا للتنفيذ بما للكلمة من معنى. وفي الواقع، يُعتبَر استخدام وسائل الإعلام لتمرير الخطط بأسلوب المحادثات تغيير أول مهمّ في عادات الحوكمة السعودية. وأثبت الأمير محمد بن سلمان مهارته في إفساح المجال لاستباق إعلاناته، وخاصّةً في مقابلته التلفزيونية الأخيرة على قناة العربيّة عندما دافع عن الخطة بعبارات قومية، على أنّها استرداد لاستقلال السعودية وقوتها في عصر ما قبل النفط.
من المهم أيضًا وضع خطة رؤية 2030 في سياق أصولها التي هي عبارة عن دراسة توجيهية أجراها معهد ماكينزي العالمي في كانون الأول/ديسمبر 2015. ولم يتم الإفصاح بشكلٍ كامل عن تفاصيل جدول الأعمال الخاص بهذا الإصلاح الطموح: فكيف ستتوزع أولويات الاستثمار في القطاعات الأساسية؟ وهل ستكون الخصخصة والعروض الأولية العامة خطوة أولى ضرورية لتمويل جهود الإصلاح؟ في الحقيقة، لم يقدم إعلان رؤية 2030 تفاصيل كثيرة، لكنه لم يقدم أيضًا إلا القليل من المفاجآت والانحرافات عن الإعلانات السابقة حول التحول الاقتصادي الذي خطط له الأمير محمد بن سلمان. وقد توقعت الأسواق جدول أعمال إصلاحيًا يقوم على الخطط والإجراءات السابقة التي تتمثل في تخفيف الإعانات الحكومية والسعي إلى التمويل بالاقتراض.
لكن يمكن ملاحظة منطق غير متوقع في خطة رؤية 2030 وسلفها، أي تقرير معهد ماكينزي العالمي. فالتوجيه الأساسي الذي ركز عليه التقرير هو إنفاق المزيد، وليس الأقل، من المال – 4 تريليون دولار على وجه التحديد – للابتعاد عن اعتماد المملكة العربية السعودية على الموارد الهيدروكربونية في إيرادها الضريبي ونموّها الاقتصادي المحلي. وتتطرق الخطة إلى الاستثمار أكثر منها إلى الادخار؛ فإزاء كل الصخب الناتج عن العجز الضريبي بسبب تراجع عائدات النفط، والاحتياطات الأجنبية المتدنية، والحاجة إلى خفض التكاليف عبر المعالجة بالصدمات على طريقة مارجريت تاتشر، تتخذ النصيحة الموجَّهة منحًى كينزيًّا إلى حدٍ كبير. فهي تقضي بإنعاش النشاط الصناعي، لا سيما عبر الاستثمار الذي يستهدف ثمانية قطاعات هي: التعدين والبتروكيماويات والبيع بالتجزئة والتعليم والرعاية الصحية والخدمة المالية والبناء بالإضافة إلى قطاعيْ التصنيع والسياحة الواعديْن.
ستُؤمن بعض الأموال المخصصة لاستثمارات الدولة الضخمة من خلال عرض عام محدود لأسهم أرامكو في سوق الأسهم المحلي السعودي، لكن معظم الاستثمار سيكون بحاجة إلى شراكات بين الحكومة والمستثمرين في القطاع الخاص، وإلى الإنفاق الحكومي التقليدي. وفيما أيّد الأمير محمد بن سلمان إعادة هيكلة بعض الهيئات الحكومية وأشرف عليها من أجل توفير المدخرات لهذا الإنفاق المنشود، يبرز سبب آخر يدفع إلى الاعتبار أن رؤية 2030 بحاجة إلى التمويل عبر الدين السيادي وديون الشركات للهيئات المرتبطة بالدولة أو المنبثقة منها.
لماذا تُعتبر هذه الخطة ضرورية حاليًّا؟ وهل يحتاج تراجع أسعار النفط وحده إلى الإصلاح الاقتصادي؟
أصبح التنويع الاقتصادي معقولًا ومقبولًا سياسيًّا إلى درجة متقدمة مع تراجع أسعار النفط منذ أوائل سنة 2014، لكن الحاجة إلى الإصلاح في أسواق العمل وإنفاقات القطاع العام وتوسع الخدمات المالية قائمة منذ أكثر من عقدين من الزّمن. وما غير مسار التوجه نحو الإصلاح الاقتصادي الكبير أو أرجأه هو الخلل في النموّ الاقتصادي في العقد الأخير.
أنتجت الطفرة النفطية التي شهدتها الأعوام الممتدّة من 2003 إلى 2014 ثروة غير متوقعة سمحت بالتطور والتحول الاجتماعي داخل المملكة. ولم توزَّع الثروة الناتجة بشكلٍ عادل على المواطنين، لكنّها زادت التوقعات في ما يتعلق بالخدمات التي تقدّمها الحكومة. وتضاعف الناتج المحلي الإجمالي في المملكة العربية السعودية في غضون هذه الفترة، وازداد دخل الأسرة المعيشي بنسبة 75%، وتمّ إنشاء حوالى مليونيْ فرصة عمل للمواطنين السعوديين، منها للنساء (ومؤخرًا في قطاع البيع بالتجزئة)، وتمكّنت الدولة من الإنفاق على نطاق واسع (وربما بشكلٍ غير فعّال) في بناء المستشفيات (81 مستشفًى جديدًا في العقد الأخير)، والجامعات (ازداد عدد الجامعات في السعودية من سبعة في سنة 2007 إلى 28 في سنة 2015)، والمدارس الابتدائية، والبنى التحتية، بما فيها الطرقات الجديدة ومحطات توليد الطاقة. وقد اعتمد هذا التوسّع، الذي يُقدَّر بـ450 مليار دولار في استثمار رؤوس الأموال العامة، على الحكومة وليس على الاجتهاد أو الابتكار. في الواقع، نتج نموّ دخل الأسرة في السعودية بشكلٍ أساسي عن رواتب القطاع العام والمعونات الاجتماعية، التي تشمل إعانات المياه والكهرباء والبنزين بالإضافة إلى إعانات البطالة والصحة السخية. واللافت للنظر أنّه على الرّغم من توسّع إنفاق الدولة، استطاعت الحكومة جمع قدر هائل من أصول الاحتياط الأجنبي، أي ما يقارب 100% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2014. وتوسّعت الدولة لتلبية الحاجات الضرورية لتطوّر مجتمع شاب في طور النموّ. وتكمن الفرصة الآن في تقييم الاستثمار السابق طوال السنوات العشر الماضية كما ينطبق على حاجات المجتمع الرّاهنة. فالآن، يحتاج المجتمع السعودي إلى فرص العمل، لذلك تركز السياسات على زيادة الاستثمار في القطاعات الأساسية التي تستطيع أن تمتص العمال السعوديين وتولد الطلب المحلي.
ما هي المخاطر الجوهرية في رؤية 2030؟
يبرز احتمال الفشل والتشبث ببيروقراطية الدولة السعودية ومصالحها، بما فيها حوالى 15000 فرد على الأقل من الأسرة الحاكمة ممن قد يقفون بوجه إعادة توجيه إنفاق الدولة. كما قد تتعرض مصالح القطاع الخاص للخطر، بما أنّ طرق التعاقد الحكومي ستخضع للفحص الدقيق. ويُضاف خطر عدم الاستقرار السياسي، لكن على صعيد النخب أكثر منه على صعيد الشارع. وقد يسبب تركّز مهمة اتخاذ القرارات على الأمير محمد بن سلمان بنشوء عداوات، كما قد يضغط على مجموعة صغيرة من الإصلاحيين للانتشار على نطاق ضيق في مجموعة واسعة من مؤسسات الدولة وشركاتها. ويشدّد الأمير محمد بن سلمان على تقييم أداء الحكومة وعلى وجود مستشار مندفع يُعنى بتقنيات إدارة المشاريع وتحقيق الإنجازات في وقت قصير. لكن ما الذي يحدث عندما لا تقدر الوكالات الحكومية على تحقيق الأهداف؟ وإذا تم إقصاء الوزراء والمدراء بانتظام في خلال عملية الإصلاح، فهل سيعيق ذلك تطبيق مشروع الإصلاحات على النطاق الأوسع، بسبب تخفيض المعنويات والحدّ من دعم موظفي القطاع العام ومدرائه المعنيين لهذه الإصلاحات؟
أما الخطر الثاني فهو أن النموذج نفسه قد يكون متقادمًا ولا يمكن إعادة تطبيقه في مجلس التعاون الخليجي. فتتضمّن زيادة الاستثمار الذي تعِد به رؤية 2030 وجهًا عقاريًا ترافقه إعادة ترتيب أصول الدولة في هيئات مرتبطة بالدولة يمكن أن تؤدي دور الشركات، من خلال تحمّل دينها الخاص والانفصال عن سجلات ميزانية الحكومة. وهذا هو نموذج دبي فعليًا. فتشبه رؤية 2030 كثيرًا استراتيجية التنويع التي بدأت بها دبي منذ أكثر من عقد. وقد لمّح الأمير محمد بن سلمان إلى استراتيجية الاستثمار هذه القائمة على العقارات أو المتعددة الاستخدامات في مقابلته مع العربية. وسيتطلب تطوير “الأراضي” أو العقارات الحكومية للنموّ الصناعي، لا سيما في مجال التعدين، استثمارًا خاصًّا، لكنّه سيتطلب أيضًا تنمية الأراضي وتشجيع الإسكان وتنمية العمران.
للاهتمام بالسياحة الداخلية أهداف جمّة، منها سياسية ومنها اقتصادية. فمن الناحية الاقتصادية، يُعتبَر هذا الاهتمام جهدًا يهدف إلى الاستحواذ على الدخل المتاح الخاص بالمواطنين السعوديين الذين يختارون حاليًّا قضاء عطلاتهم في الخارج. ويقدّر معهد ماكينزي العالمي أنّه بين عاميْ 2004 و2012، عانى القطاع السياحي في المملكة العربية السعودية من تراجع بنسبة 30 في المئة، ويمكن التعويض عن ذلك من خلال تشجيع المواطنين على اكتشاف بلدهم الخاص في جهدٍ للاحتفاء بالإرث الثقافي والهوية الوطنية. وستحقق السياحة أيضًا نموًّا في العمران والعقارات والمدن أو المواقع الجديدة ذات الأهمية التاريخية، ما يوجّه الاستثمار نحو مناطق جديدة بدلًا من التركيز على المراكز المدنية المكتظة.
فيتطلب كلٌّ من قطاعيْ السياحة والتعدين، وهما قطاعيْن أساسييْن في التحول الاقتصادي، أن يتمّ نقل ملكية العقارات أو تأجيرها أو بيعها. وستلزم تنمية هذيْن القطاعيْن استثمارًا أجنبيًا وقوى عاملة مدرَّبة خصيصًا على الأعمال اليدوية. فالكثير من أعمال قطاع التعدين ستكون تقنية، وسيحتاج المواطنون إلى الاستثمار في التعليم والتدريب للاستفادة من النموّ المستهدَف في القطاع.
الخطر الأخير النادر ذكره والمترتب عن خطة رؤية 2030 هو تأثيرها البيئي واستدامتها. فالقطاعات الثمانية التي تستهدفها الاستثمارات العامة والخاصة هي قطاعات كثيفة الاستهلاك للطاقة. وتستخدم السعودية حاليًا البترول لتغذية معظم محطّات توليد الطّاقة، كما تزداد حاجاتها الضرورية لتوليد الكهرباء. وسيؤدي الاستثمار في الطاقة المتجددة، وخاصة إذا طال استهلاك الطاقة في الصناعات الثقيلة والتصنيع والتعدين، إلى إنشاء مدخرات (ما يسمح للنفط بالتوجه نحو أسواق الصادرات)، كما سيساعد هذا الاستثمار في تقليص الأثر البيئي للتنمية الاقتصادية. ويتمتع القطاع الخاص السعودي بخبرة كبيرة في إنتاج الطاقة الشمسية وتركيب ألواحها. لذلك، يغدو احتمال التعاون بين الدولة وقطاع الطاقة المتوسّع، لا سيما الطاقة المتجددة، واردًا جدًّا.
تشكل رؤية 2030 خطوة أولى للمحاولة الجذرية التي تهدف إلى تغيير اعتماد المملكة العربية السعودية على النفط، إنما أيضًا تغيير اقتصادها السياسي الأساسي، الذي يشكل الطريقة التي تتفاعل بها الدولة مع الاقتصاد. فالتفاعل بين الدولة والمجتمع والأعمال التجارية في الأشهر القادمة سيحدد مكان المملكة في المنطقة والنظام الدولي على مدى العقود القادمة.