شهد الأسبوع الماضي تصعيدا غير مسبوق في التوتر بين دول مجلس التعاون الخليجي، وصل إلى حد قيام السعودية والإمارات والبحرين بقطع علاقاتها مع قطر. وبهذه المرحلة يقدم معهد دول الخليج العربية في واشنطن رؤى وتحليلات في التوتر المستمر ويسعى إلى توضيح التداعيات بالنسبة لدولة قطر ودول مجلس التعاون الخليجي المجاورة لها.
لا بد من الاطلاع على السياق التاريخي لفهم الأسباب المؤدية إلى هذا الانشقاق المتزايد داخل دول مجلس التعاون الخليجي. لقد سبق للمملكة العربية السعودية وللإمارات العربية المتحدة وللبحرين أن قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع قطر في العام 2014. وتمكنت هذه الدول آنذاك من التوصل إلى حل لفضّ النزاع في غضون أسابيع. أما هذه المرة، لم تعمد هذه الدول الثلاث، التي باتت اليوم تتلقى الدعم من مصر واليمن وغيرها من الدول، إلى قطع علاقاتها مع الدوحة فحسب، بل قطعت كافة علاقاتها وروابطها بها على صعيدي التجارة والسفر، وأمرت مواطنيها بالعودة إلى ديارهم، وأنذرت الدبلوماسيين القطريين بمغادرة أراضيها في خلال مهلة 48 ساعة في حين أعطت المواطنين القطريين مهلة 14 يومًا للرحيل، وغيرها من التدابير الاستثنائية. وتجدر الإشارة إلى أن الأزمة هذه المرة أكثر عمقا، حيث قادت إلى فرض عقوبات أشمل وعلى نطاق أوسع بكثير، كونها جاءت بمشاركة دول إضافية. وتكمن أسباب النزاع الحالي في ما تسميها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة الوعود غير الموفى بها التي قُطعت عام 2014، وفي المطالب الإضافية بشأن إيران.
في شهر آذار/مارس من العام 2014، قطعت الدول الثلاث علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، متهمة الدوحة بالتدخل في شؤونها الداخلية، وبالترويج للتطرف عبر قناة الجزيرة وغيرها من الوسائل الإعلامية القطرية، فضلًا عن دعم جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة كلّها. فإن كانت هذه القوى الثلاث الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي غاضبة آنذاك، فلقد باتت تستشيط غضبًا هذه المرة، ويعود السبب في ذلك، من جهة، إلى أنها تعتقد أن قطر لم تلتزم بشروط الصفقة التي قامت هذه الدول بموجبها بإعادة سفرائها إلى الدوحة، ومن جهة أخرى، إلى أنها تعتقد أن القطريين ينتهكون مبدأ التكاتف الخليجي في وجه إيران في وقت يزداد فيه هول الخطر.
وفي شهر كانون الثاني/يناير من العام 2014، حاولت دول الخليج العربية الأخرى أن تحثّ قطر على التوقيع على اتفاق شامل على عدم تدخل هذه الدول في شؤون بعضها البعض، والتعاون لحل المسائل الإقليمية، وعلى رفض دعم الجماعات المتطرفة. وكان هذا هو السبب المباشر وراء الانشقاق المفاجئ، أما الوضع الحالي فمختلف، إذ كانت التوترات الكامنة بين هذه الدول تتفاقم لسنوات. وفي شهر نيسان/أبريل، وقّع القطريون، في خلال لقاء في المملكة العربية السعودية، على اتفاق الرياض، وهو عبارة عن وثيقة بقي محتواها في طي الكتمان. ويبدو أنها مماثلة للوثيقة التي رفضوا التوقيع عليها قبل أشهر قليلة أو مطابقة عمليًا لها.
وثمة روايات متضاربة حول ما تحتويه هذه الوثيقة بالفعل. إلا أنه من الواضح أن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين قد أخذت فكرة مغايرة تمامًا عمّا قبلت به قطر عن تلك المطبوعة في عقول القطريين. فقد انتظرت هذه الدول من الدوحة أن تخفف من دعمها للإسلاميين، ولاسيما للفعاليات في جماعة الإخوان المسلمين، في المنطقة. وتعتقد هذه الدول أن قطر قد وافقت على كمّ أفواه الإسلاميين الذين يظهرون على قناة الجزيرة وغيرها من وسائل الإعلام القطرية أو على تقليص دعمها لهم إلى أقصى حد، والتخفيف من حدة النقد اللاذع الذي تتبعه هذه الوسائل اعتمادا على خط جماعة الإخوان المسلمين فضلا عن الطرق الأخرى، الموجه إلى الحكومة المصرية والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. كما كانت تنتظر من قطر أن تطرد، أو أن تسكت على الأقل، مجموعة من الأصوات الإسلامية المحرّضة وأخرى ذات نهج عربي قومي، التي تعلو وتحتلّ وسائلها الإعلامية التي تحظى بشعبية واسعة، بما في ذلك الخطيب التابع لجماعة الإخوان المسلمين يوسف القرضاوي والقومي العربي الفلسطيني المثير للقلاقل عزمي بشارة.
إلا أن شيئًا من هذه الأمور لم يحدث. لا بل نال بشارة واجندته اليسارية القومية المزيد من التمويل والاهتمام في الفترة الانتقالية، ولا يزال القرضاوي وغيره من الإسلاميين البارزين يشكّلون الركائز الأساسية التي تقوم عليها قناة الجزيرة وغيرها من وسائل الإعلام التي تدعمها قطر. لقد حثّت قطر بعض عناصر حركة حماس على مغادرة الدوحة مؤخرًا، إلا أن الحركة قد أعلنت عن ميثاقها الجديد في احتفال مهيب في العاصمة القطرية، التي لا تزال تعتبر مقرًا بحكم الأمر الواقع لحركة حماس خارج قطاع غزّة. ومهما كانت تصورات شركاء الدوحة في مجلس التعاون الخليجي عمّا قد وافقت عليه عند توقيعها على الاتفاق، فإن القطريين إما قد كوّنوا انطباعًا مغايرًا تمامًا عن مغزى اتفاق 2014 وتداعياته، أو أنهم لم يعتزموا يومًا الإيفاء بوعودهم بشكلٍ يرضي حلفاءهم.
وأضف إلى هذا النزاع الإيديولوجي المستمر، توجّه هذه الدول اتهامًا مريرًا جدًا وشديد اللهجة لقطر إذ تتهمها بأنها تعمل على إفشال الجهود التي تبذلها دول الخليج العربية بهدف احتواء إيران ومواجهتها وإجبارها على العودة أدراجها. وثمة عامل لا يستهان به يحفّز قطر على المحافظة على علاقة عمل لائقة مع إيران. إذ يعتمد اقتصادها على حقل غاز الشمال التي تتقاسمه مع إيران. وبالتالي، ليس من الصعب فهم لم قد ترغب الدوحة في تفادي أي عداء لا مبرر له لطهران.
لقد اعتاد مجلس التعاون الخليجي أن يعتمد أعضاؤه المختلفون توجهات سياسية فردية ومتنوعة تجاه إيران، وإن لم يكن هذا الأمر مستحبًا في بعض الأحيان. فحتى الإمارات العربية المتحدة لم تتخذ موقفًا قاطعا من إيران كذاك الذي اتخذته البحرين والمملكة العربية السعودية. تحافظ الكويت، وسلطنة عمان بدرجة أكبر، على علاقات وديّة أفضل بكثير مع طهران. ومع ذلك، لا ينظر إلى أي من الكويت أو سلطنة عُمان، في سعيهما إلى تجنب التورط إلى حد كبير في النزاعات الدائرة بين إيران وبعض حلفائهما في مجلس التعاون الخليجي، على أنهما تقوّضان المخاوف الأمنية القومية الأساسية لشركائهما. ولأسباب شتى، بما في ذلك توجّه ترسانة قطر الإعلامية الرئيسية الإيديولوجي المؤيد للإسلاميين، لا ينظر إلى قطر على أنها تحافظ على سياساتها الخاصة فحسب، بل تعتبر أنها تخلّ بأجندة حلفائها المتعلقة بالأمن القومي. وإن استعر هذا النزاع أكثر، فقد يُطلب من الكويت وسلطنة عُمان، في نهاية المطاف، أن تحددا موقفيهما باختيار أحد الفريقين. إلا أنهما ستظلان تنأيا بنفسيهما، في الوقت الراهن، عن الجدال وستمضيان في سياستيهما الخاصتين تجاه إيران.
وليست مصادفة أن يأتي هذا الجهد الرامي مجددًا إلى محاولة حث قطر على تغيير سلوكها المرفوض في سياق قمة الرياض الأخيرة التي شارك فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. شدد ترامب على أهمية الوحدة في مكافحة الإرهاب والتطرف وفي التصدي للعداء الإيراني الإقليمي. وتسارع الدول الخليجية التي قطعت علاقاتها بإيران إلى اتهام قطر، على وجه التحديد، بالترويج للتطرف، وبالتقرب من الإرهاب، ومن إيران، وبتقويض الوحدة في ما يتعلق بهذه المسائل. فما هذا الانشقاق بين الطرفين إلا زيادة في وتيرة الخلاف بينهما. ولكن، من منظار المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ما تطلبانه من قطر يُعدّ محاولة لخلق وحدة حقيقية، أو على الأقل عدم التدخل في هذه الحملات.
ولا شك في أن حقيقة أن واشنطن قد بذلت جهودًا لتضغط على الدوحة لتعدّل سياساتها قد شجّعت المملكة العربية المتحدة والإمارات العربية المتحدة والبحرين وغيرها من الدول على حذو حذوها. وقد ذكرت صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية أن ما زاد غضب هذه الدول المتعاظم بلّة كان المبلغ الذي دفعته قطر والذي يصل إلى 1 مليار دولار فدية عن 26 فردا من العائلة الملكية القطرية تعرضوا للاختطاف في العراق و50 متمردًا تم اعتقالهم في سوريا. وتشير التقارير إلى أن 700 مليون دولار من المبلغ قد ذهبوا إلى إيران أو ميليشيات موالية لإيران في العراق، أما باقي المبلغ فأعطي للجماعات الإسلامية في سوريا، بما في ذلك جماعة تابعة لتنظيم القاعدة. وقد تكون التقارير حول هذه المدفوعات هي القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وغيرها من الدول. وإذ التمست هذه الدول حاجة ملحّة وفرصة سانحة لمعاودة الكرّة، بدأت تطالب الأسبوع الفائت بأن تفي الدوحة بالالتزامات التي تعهدت بها عام 2014، كما تفهمها هذه الدول على طريقتها، في ما يتعلق بالمتطرفين وبإيران.
ومع ذلك، من المحتمل أن تكون مخاطر الحملة مرعبة، وهذا الأمر بمثابة مقياس لمدى جديّة هذه الدول وعزمها على تغيير سلوك قطر. وستتكبّد كافة الأطراف أثمانًا مادية لا يستهان بها. وقد ترسم وسائل الإعلام القطرية النافذة وإمبراطوريتها ذات القوة الناعمة تصورات العديد من العرب وغيرهم حول العالم بشكل يتلاءم مع مصلحتها. وقد تستغل إيران ووكلاؤها هذا النزاع لتحقيق مصالحها. وقد باتت قابلية مجلس التعاون الخليجي على الاستمرار على المدى البعيد موضع شك. وعلاوة على ذلك، قد يتدهور الوضع كثيرًا. فإن لم تتنازل الدوحة، أو حتى إن زادت وتيرة المخاطر، فهل ستضطر الدول المجاورة لقطر وحلفاؤها المزعومون إلى النظر في محاولة تغيير النظام؟ هل من الممكن أن تواجه قطر فترة طويلة من العزلة؟ فمن شبه المؤكد أن قطر ستستسلم لمطالب هذه الدول في نهاية المطاف وإن لم تكن طريقة القيام بذلك واضحة المعالم حتى هذه الساعة، وقد تترتب عن هذا الأمر أثمان تفوق تصور أيّ من الأطراف.
إلا أن هذه المرة، لن تكون عملية التخلص من هذا الانشقاق بسيطة إلى حد توقيع إعلان غير معلن كما حصل في العام 2014. وقد أدّت زيارة ترامب إلى الرياض، واجتماع القمة المثمر، ودعم ترامب الملحوظ للمملكة العربية السعودية وللإمارات العربية المتحدة، ولاسيما إيلاء الإدارة الأمريكية الأولوية لمكافحة الإرهاب ومواجهة إيران، وهذان هما موضوعا الشكوتان الأساسيتان ضد قطر، مجتمعة دورًا هامًا في استنهاض الجهود الرامية إلى استئناف ممارسة الضغط على الدوحة لتغيّر سلوكها. شدد ترامب على الوحدة في الرياض ومن المرجح أن يشكل هذا الانشقاق مصدر قلق بالنسبة إلى واشنطن حتى وإن كانت قد أعربت عن أنها تشاطر هذه الدول بعضًا من مخاوفها إزاء سلوك قطر.
وبدا أن تغريدات ترامب في السادس من حزيران/يونيو قد بدّدت أي آمال كانت قد علّقتها الدوحة على احتمالية أن تسعى واشنطن إلى تأدية دور الوسيط في النزاع بطريقة تسمح لقطر أن تتفادى تقديم تنازلات هامّة. لقد بدا أن ترامب قد نسب لنفسه الفضل في شنّ هذه الحملة لممارسة الضغوطات على قطر، وكتب أنه يبدو أنه بدأ يجني “ثمار” رحلته، واتّهم قطر بتمويل الإرهاب، وحتى أنه تكهّن أنه “من الممكن أن تكون هذه هي بداية اندثار شبح الإرهاب.”
وفي ظل هذه الظروف، وأمام هذه الجبهة المتّحدة، يبدو أن لا مفر لقطر من اتخاذ تدابير حاسمة لتغيير نهج القوة الناعمة التي تُظهرها، وتدخلاتها الإيديولوجية، وهويتها الإعلامية بالإضافة إلى طرد أو على الأقل كمّ أفواه بعض كبار المحرّضين وعدد من المنظمات الراديكالية. لا يمكن لقطر أن تتحمل هذا المستوى من العزلة ولا تمتلك خيارات وفيرة خارج نطاق دول مجلس التعاون الخليجي وهي بحاجة لدعم واشنطن، إذ لم يساهم اقتراح إيران بشحن المواد الغذائية إلى قطر في الحالات الطارئة، في مواجهة الاتهامات أو احتواء الأزمة. ليس أمام الدوحة إلا أن تتزحزح تحت تأثير الضغوطات وتغيّر سلوكها. أما الأسئلة الفعلية الوحيدة التي تطرح نفسها هي إلى أي مدى ستغيّر قطر سلوكها وإلى متى وبأي ثمن؟