يقول المسؤولون الأميركيون، وفي طليعتهم الرئيس بايدن، إنهم لا يريدون التورط في حرب جديدة في الشرق الأوسط، هذه المرة ضد إيران من خلال ردهم العسكري المتوقع على مقتل ثلاثة جنود أميركيين في الأردن الأسبوع الماضي على يد تنظيمات عراقية تدعمها إيران. المسؤولون الإيرانيون، وفي طليعتهم الجنرال حسين سلامي رئيس الحرس الثوري، يقولون إنهم لا يريدون حرباً مع الولايات المتحدة، ولكن سيردون على أي ضربة أميركية. وحتى تنظيم “كتائب حزب الله” العراقي، الذي يُعتقد أنه أطلق المسيرة التي قتلت العسكريين الأميركيين في قاعدة “البرج 22” الأردنية، أعلن رسمياً انه سيعلق هجماته ضد القوات الأميركية في المنطقة. ولكن “الخط الأحمر” الذي انتهكته القوى المؤيدة لإيران، حين قتلت العسكريين الأميركيين – وهو انتهاك لتفاهم غير مكتوب بين واشنطن وطهران، لم تخترقه إيران حتى بعد قرار الرئيس السابق ترامب اغتيال الجنرال قاسم سليماني قبل أربع سنوات – جعل الولايات المتحدة طرفاً في نزاع إقليمي واسع على الرغم من محاولاتها العديدة توفير الدعم غير المشروط تقريبًا لإسرائيل، وفي الوقت ذاته البقاء خارج الصراع.
المخططون العسكريون الأميركيون يقولون إن الرد الأميركي هذه المرة سوف يكون مختلف نوعياً عن الضربات العقابية السابقة التي شنتها القوات الأميركية ردًا على أكثر من 170 هجوما بالصواريخ والمسيرات التي أطلقتها القوى المؤيدة لإيران في العراق وسوريا واليمن ضد أهداف أميركية ودولية في أراضي ومياه وأجواء المنطقة منذ بداية حرب غزة. الضربات هذه المرة سوف تكون متنوعة ومتدرجة وتشمل أنظمة عسكرية عديدة، وعبر الأساليب السيبرانية، وستستمر لأيام وحتى أسابيع، وستشمل أهداف إيرانية (تحديدًا قوات الحرس الثوري) المنتشرة خارج إيران، كما أن الهجمات قد تستهدف قيادات عسكرية إيرانية في الخارج.
التحدي الذي ستواجهه الولايات المتحدة هو كيفية الموازنة بين ضربات عسكرية قوية تعيد للولايات المتحدة قوة الردع التي فقدتها، ولكن دون الانزلاق إلى حرب مع إيران، حتى خلال الحرب العراقية-الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي، والتي شاركت فيها الولايات المتحدة عسكرياً إلى جانب العراق، قصفت البحرية الأميركية سفن الحربية الإيرانية، كما دمرت منصات النفط الإيرانية في مياه الخليج، ولكن القوات الأميركية آنذاك تفادت ضرب الأراضي الإيرانية.
حتى الآن، أخفقت الضربات الأميركية في ردع الميليشيات المتحالفة مع إيران في العراق وسوريا واليمن، وهذا ما يفسر جزئياً، على الأقل، الانتقادات اللاذعة التي وجهها الرئيس السابق والمرشح الرئاسي دونالد ترامب، والمرشحة الجمهورية نيكي هايلي، وغيرهم من القادة الجمهوريين في مجلسي الكونغرس لما يصفونه “ضعف” الرئيس بايدن، ولدعوات بعض المشرعين الجمهوريين المتشددين “لقصف طهران” أو ضرب إيران بالعمق، وعدم الاكتفاء بضرب وكلائها العرب.
الغطاء السياسي والعسكري القوي الذي وفره الرئيس بايدن للغزو الإسرائيلي المدمر لغزة، والذي أدى إلى مقتل أكثر من 26 ألف فلسطيني، ووضع أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع على حافة الجوع، وتحويل معظم القطاع إلى أرض يباب، عرّض بايدن لانتقادات قوية حتى من الشرائح الاجتماعية التي صوتت له في انتخابات 2020، والتي لا يستطيع أن يجدد لنفسه لولاية ثانية دون الحصول على دعمها القوي. الناخبون الشباب، والأميركيين من أصل افريقي، والعرب الأميركيين والمسلمين، الذين يواجه بايدن احتجاجاتهم العلنية والصاخبة تقريباً في كل نشاط انتخابي يقوم به، يطالبونه بوقف إطلاق نار شامل وفوري، ومحاسبة إسرائيل على عمليات القتل الجماعي وانتهاكاتها لقوانين الحرب، ولرفضها أو عرقلتها لوصول الإمدادات الغذائية والطبية للفلسطينيين. الناخبون الديموقراطيون الذين يحتجون على سياسة بايدن تجاه حرب غزة، قد يقبلون بضربات عقابية لمقتل جنود أميركيين، نشروا في المنطقة لمحاربة تنظيم إرهابي (داعش)، ولكنهم قطعاً لا يريدون أن تتورط الولايات المتحدة في حرب إقليمية في الشرق الأوسط.
ما لا يناقشه المسؤولون الأميركيون علناً خلال دراسة خياراتهم العسكرية ضد القوى المتحالفة مع إيران، هو احتمال استغلال إسرائيل للضربات الأميركية، وتفجير الجبهة اللبنانية-الإسرائيلية واستفزاز حزب الله، على أمل جر القوات الأميركية لضرب قوات الحزب في لبنان، ومحاولة توريطها في مواجهة عسكرية ضد إيران.
يرى بعض المحللين أن تأكيدات القيادات الإيرانية أنها لا تريد التورط في حرب مع الولايات المتحدة تعكس بالفعل الموقف الحقيقي للمرشد الأعلى علي خامنئي وغيره من القادة الإيرانيين، لأن الظروف الموضوعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحالية لإيران غير ملائمة لأي مواجهة عسكرية بين إيران وحلفائها ضد الولايات المتحدة وإسرائيل.
في الشهرين الماضيين، تعرضت إيران لنكسات أظهرت أنها لا تتمتع بمناعة قوية. الغارة الإسرائيلية في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي التي أدت إلى مقتل الجنرال السيد راضي موسوي المسؤول عن تنسيق العلاقات بين الحرس الثوري وسوريا، في قلب دمشق، والهجوم الأميركي في مطلع يناير/كانون الثاني، الذي أدى إلى قتل مشتاق جواد كاظم الجواري قائد حركة النجباء، وهو تنظيم موال لطهران في قلب بغداد، واغتيال إسرائيل لصالح العاروري، أحد قادة حماس في بيروت، أظهرت أن طهران غير قادرة على حماية هذه القيادات الهامة. هذه النكسات، إضافة إلى تفجيرات مدينة كرمان الإيرانية في الذكرى الرابعة لإغتيال قاسم سليماني في بداية يناير/كانون الثاني، والتي أدت إلى مقتل أكثر من 95 مدني إيراني، والتي جاءت بعد سنة حافلة بالاضطرابات السياسية والتحديات الإقليمية والاقتصادية دفعت بالقيادة الإيرانية إلى عرض عضلاتها الصاروخية، حين قصفت خلال 48 ساعة ما وصفته بمحطة تجسس إسرائيلية في أربيل بالعراق، إضافة إلى معسكر تابع لحركة جيش العدل في منطقة بلوشستان داخل باكستان. استخدام هذه الترسانة العسكرية ضد دولتين مجاورتين، إحداهما نووية، فسره البعض على أنه يعكس قوة الردع الإيرانية، كما فسره آخرون على أنه يعكس تهور وقلق القيادة الإيرانية، التي أرادت إقناع شعبها وجيرانها أنها قوية بالفعل، بينما الواقع معقد أكثر مما يبدو.
استخدام القوة العسكرية لدحر التحديات الخارجية، صاحبه تصعيد في القمع الداخلي، وكل ذلك يأتي على خلفية تفاقم المشاكل الاقتصادية. بدأت السنة الجديدة في إيران بإعدامات لسجناء سياسيين، ما أثار استياء واحباط الكثير من الإيرانيين. المفارقة أن القيادة الإيرانية زادت من قمعها وهي مقبلة على انتخابات نيابية وانتخاب أعضاء مجلس الخبراء (الذي سيختار المرشد الأعلى بعد وفاة خامنئي) في مارس/آذار المقبل، وانعكس تشددها حتى على شروط اختيار أعضاء مجلس الخبراء. وكان من المفاجئ والغريب على سبيل المثال استبعاد حسن روحاني وهو عضو حالي في المجلس ورئيس الجمهورية السابق من الترشح مرة ثانية لعضوية المجلس، كما تم استبعاد وزير استخبارات سابق. هذه ليست أجواء سياسية واجتماعية واقتصادية تشجع على حرب مع قوة عسكرية كبيرة مثل الولايات المتحدة.
ويأمل النظام الإيراني من هذه الانتخابات أن تضفي عليه بعض الشرعية، وأن تخرجه من عزلته الداخلية، وذلك في الوقت الذي ترتفع فيه أصوات نقدية كانت في السابق جزءاً عضوياً من النظام. وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف قال علناً قبل شهرين، إن الإيرانيين “قد تعبوا من دفع ثمن” مواجهات النظام مع إسرائيل. وشكى السفير الإيراني السابق في سوريا ولبنان محمد علي صبحاني من أن “السياسية الإيرانية العدائية” قد منعت إيران من “لعب دور ايجابي في التطورات الاقليمية”، وانتقد صبحاني، تبني القيادة الإيرانية لسياسات حماس، وهو موقف تتفاداه الدول العربية. الانتقادات طالت أيضا دعم طهران للغزو الروسي لأوكرانيا، لأنه يتعارض مع سياسية إيران التقليدية بعدم الانحياز تجاه مثل هذه النزاعات، كما أعرب آخرون عن قلقهم لاحتمال تدهور العلاقات مع باكستان في أعقاب الاشتباكات الأخيرة.
هذه المعطيات الموضوعية، إضافة إلى تقدم المرشد الأعلى خامنئي في السن (85 سنة) وصحته الواهية، كلها تعطي صدقية لتعهدات القيادة الإيرانية بأنها لا تسعى للتورط في حرب مع الولايات المتحدة. ولكن طبيعة العلاقات المعقدة بين طهران وحلفائها ووكلائها في المنطقة، وعدم انضباط بعض هذه التنظيمات والميليشيات، وغياب منسق إيراني له معرفة وثيقة بقادة هذه التنظيمات، وخبرة واسعة بشؤون العالم العربي، وملم باللغة العربية مثل الجنرال قاسم سليماني، واحتمال حدوث تطورات ميدانية غير محسوبة أو مقصودة خلال العمليات العسكرية الأميركية المتوقعة، كل هذه العوامل تعني أن احتمال حدوث مواجهة مباشرة بين القوات الأميركية والقوات الإيرانية لم يعد مستبعد كلياً.