ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
في البدء قرر الرئيس دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الدولي مع إيران، وهو قرار يعيد تلقائيا فرض العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي، والتي علقت في 2015 بعد التوقيع على الاتفاق. ولكن الانسحاب من الاتفاق كان الطلقة النارية الأولى على ما يبدو في حرب مالية واقتصادية بدأتها واشنطن مع حلفائها في الخليج وتحديدا دولة الإمارات العربية المتحدة والسعودية، لتضييق الخناق الاقتصادي على إيران والتنظيمات التي تستخدمها لتعزيز نفوذها الكبير في دول مثل العراق ولبنان، وفي حروب الوكالة المستمرة في سوريا واليمن. ويعتبر حزب الله اللبناني، من أبرز هذه التنظيمات التي استخدمتها إيران في السنوات الماضية للمشاركة مباشرة في القتال في سوريا، وفي تدريب الميليشيات التي تسيطر عليها طهران في العراق واليمن. وفي الأيام الماضية فرضت وزارة الخزانة الأمريكية سلسلة من العقوبات ضد مؤسسات وشركات وشخصيات إيرانية ولبنانية وعراقية، وفعلت ذلك وكأن هذه الأهداف تابعة لدولة واحدة، حيث لم تميز عقوبات الخزانة الأمريكية بين المصرف المركزي الإيراني، وقيادات حزب الله في لبنان، أو الشركات والمؤسسات التي يستخدمها حزب الله في أوروبا وأفريقيا للاتجار بالمخدرات وتبييض الأموال لتمويل العمليات العسكرية والإرهابية. وقبل البدء بفرض العقوبات الجديدة، وفي خطوة لافتة أبرزت مدى التعاون بين واشنطن وحلفاؤها في الخليج، قامت الولايات المتحدة ودولة الإمارات العربية المتحدة بعرقلة نشاط شبكة إيرانية كبيرة في الإمارات لتصريف العملات كانت تقوم بتحويل مئات الملايين من الدولارات الأمريكية إلى فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني لتمويل نشاطات تنظيمات مثل حزب الله. وتم الكشف عن أن المصرف المركزي الإيراني كان يلعب دورا هاما في هذه العملية.
عقوبات اقتصادية وتصنيفات إرهابية ورسائل لأوروبا
ويوم الثلاثاء الماضي صعدت واشنطن من ضغوطها ضد القطاع المصرفي في إيران، حين أعلنت وزارة الخزانة فرض العقوبات على رئيس المصرف المركزي الإيراني وليّ الله سيف وصنفته إرهابيا دوليا بسبب تمويله لحزب الله “بملايين الدولارات بشكل سري” عبر بنك البلاد الإسلامي في العراق. وشملت العقوبات مسؤولين آخرين في المصرف المركزي الإيراني، ورئيس بنك البلاد الإسلامي آراس حبيب كريم، الذي فاز مؤخرا بمقعد في البرلمان العراقي كعضو في الائتلاف الذي يرأسه رئيس الوزراء حيدر العبادي. وفي مؤشر لافت بعث وزير الخزانة الأمريكية ستيفن مانوشين بتحذير ضمني إلى المصارف الأوروبية لكي لا تتعامل مع القطاع المصرفي الإيراني حين قال إن “الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بأن تسيء بشكل فاضح استخدام النظام المالي العالمي. وعلى المجتمع الدولي أن يبقى متيقظا حيال ممارسات إيران الاحتيالية لتوفير الدعم المالي لعملائها الإرهابيين”. وأكثر ما تتخوف منه المصارف الأوروبية هو التعامل مع أي مؤسسات مالية في العالم تقاطعها أو تعاقبها وزارة الخزانة والمصارف الأمريكية، وهذا ما يفسر تردد المصارف الأوروبية حتى قبل انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي من الاستثمار في إيران أو تقديم القروض للشركات الأوروبية لتمويل نشاطاتها في إيران. مقاطعة واشنطن للمصرف المركزي الإيراني وتصنيف رئيسه إرهابيا، سيكون له صدى قويا في أوساط المؤسسات المالية الأوروبية، حيث تواجه المصارف والشركات الأوروبية التي عادت للنشاط في إيران بعد رفع العقوبات في 2015، قرارات صعبة في الأسابيع والأشهر المقبلة حول كيفية التعامل مع مضاعفات إعادة فرض العقوبات الأمريكية السابقة، والعقوبات التالية التي وعد بها الرئيس الأمريكي، بعد مرور فترة 120 يوما التي أعطتها الولايات المتحدة لشركاتها ولأي شركات دولية أخرى لتصريف أعمالها في إيران.
ويومي الثلاثاء والأربعاء فرضت وزارة الخزانة عقوبات جديدة أو وسعّت من عقوبات مفروضة في السابق على قيادات حزب الله، وفي طليعتهم أمين عام الحزب حسن نصرالله الذي كانت الخزانة قد صنفته إرهابيا في السابق، كما أنها أضافت للمرة الأولى نائبه نعيم قاسم ومجلس الشورى التابع للحزب إلى قائمة قيادات حزب الله المصنفين إرهابيين في السنوات الماضية. وسارعت السعودية ودولة الإمارات ودول خليجية أخرى إلى فرض عقوبات مماثلة. وقال وزير الخزانة مانوشين أن تصنيف أعضاء مجلس الشورى كإرهابيين يعني “رفض التفريق الخاطيء بين الجناح السياسي، وبين الجناح الإرهابي الدولي للحزب”. ومرة أخرى يبعث الوزير مانوشين برسالة ضمنية أخرى إلى الدول الأوروبية التي صنفت في السابق ما يسمى بالجناح العسكري لحزب الله كتنظيم إرهابي، ولكنها لا تزال ترفض تصنيف قياديي الحزب، أو ما يسمى الجناح السياسي بالإرهابيين. وعقب ذلك، فرضت وزارة الخزانة عقوبات جديدة ضد قياديين في حزب الله من بينهم محمد ابراهيم بزّي وهو ممول بارز لحزب الله، وعبدالله صفي الدين ممثل الحزب لدى إيران. كما فرضت الوزارة عقوبات على خمسة شركات تابعة للحزب تنشط في إفريقيا وأوروبا ولبنان، يملكها أو يسيطر محمد بزّي. واستخدم وزير الخزانة مانوشين لغة قاسية في وصف هذه العقوبات التي قال إنها “تبرز النشاط المخزي لحزب الله ومؤيديه الإيرانيين. وعلى الرغم من ادعاءات حزب الله، فأنه يستخدم ممولين مثل بزّي للاتجار بالمخدرات وتبييض الأموال لتمويل الإرهاب”وأضاف الوزير الأمريكي “لا يمكننا التسامح مع الأعمال الوحشية واللئيمة لأحد أبرز ممولي حزب الله. وهذه الحكومة سوف تفضح وتعرقل أعمال حزب الله وشبكات الإرهاب الإيرانية بشكل دوري، بما في ذلك علاقاتهم بالمصرف المركزي الإيراني”.
وليس من المبالغة القول إن هذه العقوبات الأمريكية والخليجية، تمثل تصعيدا نوعيا في الضغوط المالية الهادفة إلى محاصرة القطاع المصرفي الإيراني، إضافة إلى السعي لتجفيف مصادر تمويل إيران لتنظيمات مثل حزب الله، وعرقلة نشاط الشركات التي تعمل كواجهات في مختلف أنحاء العالم لتمويل نشاطات حزب الله من خلال الاتجار بالمخدرات وتبييض الأموال.
إيران : تدهور اقتصادي وأزمة معيشية ونقمة شعبية
يتحدث المسؤولون الأمريكيون عن تقاطع وتفاعل عوامل عديدة داخليا وخارجيا يمكن أن تزج النظام الإسلامي في طهران، في أسوأ أزمة يواجهها منذ التظاهرات الاحتجاجية الضخمة التي عمت البلاد في 2009 بعد تزوير الانتخابات التي أوصلت محمود أحمدي نجاد إلى الرئاسة. إقتصاد البلاد في حالة انهيار لا يُمكن تقدير مداه. قيمة الريال الإيراني تتقلص تقريبا كل يوم ما يجعل المستقبل الاقتصادي المنظور قاتما للغاية. ارتفاع أسعار المواد الأولية والغذائية هو الهم اليومي الذي يخيم على أذهان المواطنين الإيرانيين ويُثقل كاهلهم. هذه الحقائق الاقتصادية تتفاقم على خلفية قحط اجتاح الريف الإيراني منذ خمس سنوات، وحوّل مناطق واسعة منها إلى أرض يباب، ولا يبدو أن القحط سينكمش من البلاد في أي وقت قريب. في أواخر السنة الماضية تضافرت هذه العوامل لتفجير التظاهرات الاحتجاجية في جميع أنحاء البلاد وخاصة في المناطق الريفية والمدن الصغيرة التي يفترض أن يكون النظام الإسلامي قويا فيها، وأدت إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى واعتقال المئات، على خلفية هتافات ضد “الطاغية” المرشد الأعلى علي خامنئي. اللافت أن المتظاهرين وفي أكثر من مكان هتفوا ضد تورط إيران في حروب الوكالة في سوريا وغيرها وطالبوا بوقف تمويل تنظيمات مثل حزب الله وحركة حماس الفلسطينية. التظاهرات انحسرت في الأسابيع الماضية، ولكنها قطعا لم تتوقف، ويوم الخميس اندلعت تظاهرات في مدينة كازرون التاريخية، في مقاطعة فارس، نجم عن الاشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين مقتل خمسة متظاهرين وجرح واعتقال العشرات، بعد حرق مركز الشرطة في المدينة. ويرى بعض المختصين بالشؤون الإيرانية، أن العقوبات الجديدة، خلال الأشهر الستة المقبلة، وخاصة إذا تبين – كما هو متوقع – أن الدول الأوروبية لن تنجح في حماية شركاتها ومصارفها من مضاعفات العقوبات الأمريكية من الدرجة الثانية التي ستفرض على هذه الشركات إذا تعاملت مع المصارف الإيرانية، سوف تضّيق الخناق على الاقتصاد الإيراني برمته مع ما يعنيه ذلك من تضييق الحصار على النظام. وليس من الواضح ما الذي ستقوم به الولايات المتحدة إذا توسعت التظاهرات الاحتجاجية في الأشهر المقبلة وهددت بالفعل مستقبل النظام الإسلامي. وعلى الرغم من التصريحات والتهديدات الرنانة التي يطلقها الرئيس ترامب بين وآخر ضد إيران، لا أحد يتوقع أن يقوم ترامب – في غياب استفزاز إيراني كبير ومباشر لأمريكا- بالتورط في نزاع عسكري بري مكلف للغاية مع إيران، وإن كان ذلك لا يلغي إمكانية توجيه ضربات جوية ضدها، في حال استئناف برنامجها النووي. وحين سؤالهم عن مستقبل العلاقات مع إيران، يشيرالمسؤولون الأمريكيون بارتياح إلى مشاكل إيران الاقتصادية والسياسية الصعبة ومساهمة واشنطن في تضييق الخناق على النظام الإسلامي، مع تمنياتهم بأن تتضافر هذه العوامل لزعزعة النظام من الداخل، وحتى انهياره.
هذا المشهد الاقتصادي القاتم، هو بالضبط المشهد الذي سعى الرئيس حسن روحاني ومؤيدوه إلى تفاديه عندما فاوض الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وروسيا والصين للتوصل إلى الاتفاق الدولي، الذي رآه روحاني الباب الذي ستعود من خلاله الشركات الغربية إلى إيران، والذي سيفتح مرحلة جديدة في الاقتصاد الإيراني. صحيح أن عشرات المليارات من الأموال الإيرانية المجمدة منذ سنوات عديدة في المصارف الأمريكية التي أفرج عنها الرئيس السابق باراك أوباما بعد الاتفاق، قد خففت من وطأة المصاعب الاقتصادية الإيرانية، ولكنها لم تكن كافية لإنعاش الاقتصاد الذي يعاني من الترهل والمركزية والفساد. الآمال الإيرانية التي كانت معلقة على الاتفاق ليُنهي العقوبات من خلال تشجيع الشركات الأوروبية، وحتى الأمريكية، على العودة إلى الاقتصاد الإيراني الذي يحتاج إلى استثمارات عديدة في قطاعات الطاقة والمواصلات وغيرها، هذه الآمال لم تتحقق، أو على الأقل تحقق جزءا يسيرا منها. إضافة إلى الأسباب البيروقراطية الإيرانية التي لم تشجع الشركات على العودة إلى إيران، فقد بقيت شركات كبيرة وهامة مترددة في العودة بعد انتخاب الرئيس دونالد ترامب، تحسبا لتنفيذ وعده الانتخابي بالانسحاب من الاتفاق، وهذا ما حدث بالفعل.
العقوبات الأمريكية القديمة والجديدة، سوف تؤثر سلبا في المستقبل المنظور على صادرات إيران النفطية، حيث من المتوقع أن تتوقف دول حليفة لواشنطن مثل اليابان وكوريا الجنوبية عن استيراد النفط الإيراني إما كليا أو جزئيا على الأقل، لأن هاتين الدولتين المعنيتين باحتمال انعقاد القمة الأمريكية-الكورية الشمالية ليستا في وضع يسمح لهما بتحدي رغبات ومطالب واشنطن. ويتوقع المراقبون بقاء إيران في الاتفاق النووي ومحاولة اقناع الأوروبيين بابقاء أو حتى توسيع العلاقات الاقتصادية معها، ولكن مختلف المؤشرات الأولية تبين أن الدول والشركات الأوروبية ستقف وأن على مضض في المعسكر الأمريكي. تنفيذ التهديد الإيراني بالانسحاب من الاتفاق إذا لم تقدم الدول الأوروبية حوافز جذابة لطهران لا يزال في هذه المرحلة على الأقل تهديدا نظريا فقط. وإذا انسحبت إيران من الاتفاق كما يدعو المتشددون، فإنها لن تكون قادرة على استئناف وإحياء برنامجها النووي بسرعة بعد أن فككت أجزاءا كبيرة منه. كما أنه إذا تبين أن إيران بدأت بالفعل في تخصيب اليورانيوم وغيرها من النشاطات النووية، فإنها ستعرض نفسها لضربات عسكرية إسرائيلية، أو إسرائيلية-أمريكية مشتركة. خيارات إيران النووية والسياسية، على خلفية العقوبات الأمريكية والخليجية، والضغوط الداخلية المتفاقمة، سيكون أحلاها مرّا.