ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
تقف إيران أمام منعطف تاريخي سيفرض على قادتها خيارات أحلاها مرّ. عقوبات أمريكية خانقة تهدد بانهيار الاقتصاد. أخطر انتفاضة شعبية عارمة منذ إنشاء الجمهورية الإسلامية تهدد النظام في الداخل، وتتقدم على خط متواز مع انتفاضات في العراق ولبنان تهدد وكلاء وأدوات الجمهورية الإسلامية “ومكتسباتها” الهامة في البلدين. الرد الدموي الشامل للسلطات الإيرانية ضد المتظاهرين العزلّ، والذي اكتشف العالم فظاعته في الأيام الماضية بعد اعادة فتح شبكة الانترنيت التي اغلقتها السلطات لخمسة أيام، أظهر بوضوح أن النظام الإيراني يرى في الانتفاضة الراهنة تحديا أكبر بكثير من التحدي الذي واجهته الطبقة الدينية والسياسية الحاكمة في 2009 عقب تزوير الانتخابات الرئاسية. في 2009، كان رد إدارة الرئيس السابق باراك أوباما فاترا، ولم يكن الاقتصاد الإيراني محاصرا كما هو اليوم. المعضلة الكبيرة التي تواجهها القيادة الإيرانية الآن في غياب عائدات النفط هي أنها عاجزة حتى عن تخفيف معاناة الإيرانيين الاقتصادية والمعيشية ولو بشكل هامشي، الأمر الذي يبقى أمامها الخيار العسكري والأمني للتعامل مع احتجاجات فجرتها زيادة كبيرة في أسعار المحروقات، وتطورت بسرعة إلى طرح مطالب سياسية إصلاحية جذرية. النظام الإيراني الذي يتهم الغرب واعداء إيران في الخارج بالتآمر عليها، يفتقر بشكل صارخ إلى أفق سياسي لمعالجة أزمة ليس من المبالغة وصفها بأنها وجودية.
انهيار اقتصادي يؤدي إلى تصعيد عسكري
يقول المسؤولون الأمريكيون إن سياسة “الضغوط القصوى” التي فرضتها إدارة الرئيس ترامب بعد انسحابها من الاتفاق النووي الدولي مع إيران، ساهمت في انفجار الانتفاضة الشعبية التي عمت المدن والبلدات الإيرانية منذ منتصف الشهر الماضي. هذه السياسة التي شملت عقوبات غير مباشرة فرضتها واشنطن على الدول التي تتعامل تجاريا مع إيران، ساهمت عمليا في وقف تصدير النفط الإيراني ومحاصرة نظامها المصرفي وحرمانها من أسواقها الخارجية، وإرغام الدول التي كانت تتعامل معها تجاريا واقتصاديا في السابق على المشاركة في الحصار الأمريكي المفروض على إيران. وقبل أيام قال وزير الخارجية مايك بومبيو في مقابلة مع شبكة فوكس التلفزيونية “هذه الاحتجاجات هي نتيجة مباشرة للانهيار الاقتصادي، وغياب الحريات السياسية، وبسبب سياسة نظام يرسل شبابه للقتال في الخارج والعودة كموتى، نظام لم يستخدم أمواله لتحسين نوعية حياة الشعب الإيراني. التظاهرات التي ترونها هي نتيجة هذه السياسات”.
شهدت إيران في السنتين الماضيتين تظاهرات احتجاجية، ولكنها لم تصل إلى مستوى ما حدث في الأسابيع الماضية. ويرى بعض المحللين أن الوضع الاقتصادي الذي ازداد سوءا في أعقاب العقوبات الأمريكية الأخيرة، والانتفاضتين العراقية واللبنانية هي من الأسباب التي ساهمت في تشجيع الإيرانيين على النزول إلى الشوارع والساحات بحماس وتصميم غير معهودين. ولكن رد الفعل العنيف للنظام الإيراني، يبين أن الأفق السياسي سوف يبقى مغلقا إلا إذا أدى استمرار الانتفاضة ونموها مع استمرار النزيف الاقتصادي إلى بروز تناقضات أو شروخ داخل التركيبة الدينية-السياسية الحاكمة في طهران، أو داخل الأجهزة العسكرية والأمنية في حال امتناع القوى الأمنية عن استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين، وخاصة إذا بقيت الحركة الاحتجاجية سلمية.
النجاح النسبي الاقتصادي لسياسة الضغوط القصوى الأمريكية، لم يصاحبه نجاح “سياسي” أمريكي، بمعنى ارغام طهران على تعديل أو تغيير سياستها التخريبية في المنطقة، لا بل تبين مختلف المؤشرات والنشاطات الإيرانية في الأشهر الماضية أن إيران ردت على الضغوط الأمريكية، بتصعيد ضغوطها العسكرية والتخريبية ضد الولايات المتحدة مباشرة، كما يتبين من إسقاط طائرة استطلاع أمريكية دون طيار في حزيران –يونيو الماضي، وضد أصدقاء واشنطن في المنطقة، بما في ذلك تفجير ناقلات نفط سعودية وإماراتية، إضافة إلى الهجوم النوعي الذي شنته طائرات إيرانية مسيرة ضد أهم منشآت النفط السعودية في أيلول- سبتمبر الماضي. امتناع الولايات المتحدة والسعودية عن الرد العسكري المباشر – الولايات المتحدة ردت بشن هجمات الكترونية لم تعلن عنها رسميا- ربما شجّع إيران على التمادي أكثر من تصعيدها العسكري.
وللتدليل على إخفاق الضغوط الأمريكية في تغيير سياسات إيران السلبية والتخريبية الإقليمية، استغلت طهران الفوضى السياسية التي شهدها العراق منذ بداية الانتفاضة الشعبية قبل أكثر من شهرين، وانشغال القيادة السياسية في بغداد بقمعها دمويا، وكثفت من تعزيز وجودها العسكري في العراق من خلال نشر المزيد من الصواريخ الباليستية ذات المدى المتوسط (600 ميل) التي يمكن أن تستخدمها إيران في أي مواجهة مع الولايات المتحدة، بحيث تستخدم الأراضي العراقية أما لشن هجمات ضد القوات الأمريكية في المنطقة أو لضرب أو تهديد أصدقاء أمريكا في المنطقة مثل السعودية وإسرائيل. وكانت إسرائيل قد شنت هذه السنة غارات لم تعلن عنها رسميا لقصف مرابط هذه الصواريخ داخل العراق. وقبل أيام اعترضت سفينة حربية أمريكية زورقا إيرانيا في بحر العرب محملا بقطع غيار لصواريخ موجهة لتسليمها إلى الثوار الحوثيين في اليمن. وفي مطلع الأسبوع نسبت شبكة سي أن أن إلى مسؤولين عسكريين قولهم إن لديهم أدلة استخباراتية جديدة حول تهديدات إيرانية ضد القوات الأمريكية المنتشرة في الشرق الأوسط.
ضغوط اقتصادية تبحث عن حلول سياسية
قبل أشهر، وحتى خلال فترة التوتر التي عقبت إسقاط طائرة الاستطلاع الأمريكية، أبقى الرئيس ترامب الباب مفتوحا أمام احتمال حدوث اختراق سياسي مع إيران. وطرح ترامب خيار عقد اجتماع مع الرئيس الإيراني حسن روحاني خلال زيارته إلى الأمم المتحدة في أيلول- سبتمبر للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وعلى خط متواز طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إمكانية توسطه لجمع ترامب وروحاني بشكل غير رسمي خلال وجودهم في الأمم المتحدة. ولكن هذه الطروحات وصلت إلى طريق مسدود لأكثر من سبب من بينها معارضة المرشد الإيراني علي خامنئي، وإصرار إيران على تراجع واشنطن عن بعض العقوبات، وهو ما رفضته إدارة ترامب.
مع اقتراب بداية موسم الانتخابات الأمريكية الطويل، وبعد نشر المزيد من القوات الأمريكية البحرية والجوية في المنطقة، ومع استمرار التصعيد العسكري الإيراني، ليس من المتوقع حدوث أي تغيير نوعي في مواقف واشنطن أو طهران قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين الثاني – نوفمبر المقبل. ويبدو أن القيادة الإيرانية سوف تنتظر الانتخابات بأمل انتخاب رئيس ديمقراطي يمكن أن يبدأ صفحة جديدة معها، على الرغم من عدم وجود مؤشرات مشجعة لإيران من معظم المرشحين الديمقراطيين. كما لا يوجد أي ضمانات لإيران أن أي رئيس أمريكي ديمقراطي لن يطلب تنازلات جديدة منها لإحياء المفاوضات النووية، أو لفرض قيود على الترسانة الصاروخية الإيرانية.
ولكن كما أن طهران تفتقر إلى أفق سياسي يمكن أن تطرحه لمعالجة الانتفاضة الداخلية، أو للدخول في عملية سياسية جديدة مع الولايات المتحدة، فإن إدارة الرئيس ترامب تفتقر أيضا إلى أفق سياسي أو طروحات سياسية يمكن أن تلوح بها لإيران سعيا لتغييرات في سياساتها مقابل إجراءات أمريكية تخفف من وقع العقوبات الاقتصادية. المسؤولون الأمريكيون، خلال تأكيداتهم العلنية يقولون إنهم لا يعملون على تغيير النظام السياسي في طهران، يشيرون إلى دعمهم السياسي والمعنوي للمتظاهرين الإيرانيين، وكذلك إلى مساعدتهم الالكترونية للمتظاهرين التي تسهل عليهم الاتصال ببعضهم البعض والالتفاف على الاجراءات الالكترونية الإيرانية المضادة. المسؤولون في واشنطن يتمنون أن تؤدي الانتفاضة إلى تغيير النظام الحاكم، ولكن هذه التمنيات لا ترقى إلى مستوى رؤية سياسية قابلة للتطبيق وإلى دفع القيادة الإيرانية إلى تعديل بعض سياساتها على الأقل. يجب على الولايات المتحدة أن تواصل دعمها الحقيقي بالقول والفعل للشعب الإيراني لتمكين نفسه وتقرير مصيره، ولكنها قادرة في الوقت ذاته على التقدم بطروحات لمساعدة الشعب الإيراني، حتى ولو بقي النظام الديني في طهران في المستقبل المنظور. وليس صحيحا أن هذا النظام لديه مناعة ضد التغيير أو غير مستعد للدخول في “مساومات”. هذا هو النظام ذاته الذي اضطر قبل خمسة سنوات بسبب الضغوط السياسية الدولية للدخول في مفاوضات سرية مع واشنطن، جرت في عمان، وتبعتها مفاوضات علنية بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحدة وأدت إلى الاتفاق النووي الدولي في 2015.
تفتقر السياسة الأمريكية إلى أي طروحات عملية يمكن أن تخفف من معاناة الشعب الإيراني مثل القول إنه إذا قبل النظام الإيراني ببعض المطالب الأمريكية فإن ذلك سيؤدي إلى إلغاء بعض العقوبات. وعلى سبيل المثال يمكن أن تلغي الولايات المتحدة قرار حظر السفر على الإيرانيين الراغبين بزيارة الولايات المتحدة لأسباب عائلية أو للتحصيل الدراسي، أو العناية الصحية. رسميا قرار حظر السفر يستثني الطلاب والتأشيرات السياحية، ولكن معظم هذه الطلبات لا تحظى بالقبول. تعديل أو إلغاء قرار حظر السفر هو من القرارات التي تمس مباشرة بمصالح الإيرانيين العاديين، وسوف يبعث برسالة إيجابية للشعب الإيراني.
كما يمكن للولايات المتحدة أن تطلب من إيران علنا وقف بعض سياساتها السلبية، مقابل اتخاذ إجراءات تخفف من المضاعفات السلبية للعقوبات الاقتصادية على وصول الإمدادات الإنسانية إلى الإيرانيين. كما يمكن لواشنطن أن تنسق مع حلفائها في أوروبا واليابان، وتخفف من مقاطعتها لشركات هذه الدول لتعود إلى تعاملها التجاري مع إيران، إذا قبلت إيران بتنازلات محددة. ولو كانت هناك سياسة أمريكية واضحة أكثر وقابلة للتنفيذ لكان بالإمكان مناقشتها على سبيل المثال على هامش قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) التي عقدت في لندن قبل أيام، وإنشاء “جبهة” من واشنطن وحلفائها الأوروبيين (واليابان) وتتوجه مباشرة إلى الشعب الإيراني لإحراج نظامه المتشدد، من خلال وعد الإيرانيين بأن أي تنازلات من النظام سوف ترد عليها واشنطن وحلفائها بإجراءات إيجابية. العقوبات الاقتصادية المفروضة على أي دولة تؤدي في النهاية إلى معاقبة مواطني الدولة المعاقبة، حتى عندما لا يكون هذا هو الهدف الحقيقي للعقوبات. قد لا تنجح مثل هذه الطروحات والاجتهادات، ولكن مما لا شك فيه هو أنها ستزيد من الضغوط السياسية على النظام في طهران، وتفتح الجسور مع الإيرانيين العاديين وتعطيهم الأمل بتخفيف أو إنهاء معاناتهم الاقتصادية. الضغوط الاقتصادية القصوى ليست هدفا بحد ذاته، بل هي وسيلة لخدمة أهداف سياسية معينة. لقد حان الوقت لواشنطن، بالتنسيق مع حلفائها في الغرب واليابان والشرق الأوسط، لتطوير أفق سياسي بعيد المدى لتحويل النجاح النسبي للعقوبات الاقتصادية القصوى ضد النظام الإيراني، إلى حلول وأهداف سياسية واقعية وقابلة للتطبيق تؤدي إلى احتواء النظام الإيراني واضراره، وتخفيف معاناة الشعب الإيراني والشعوب الأخرى في المنطقة واستعادة استقرارها المفقود.