قبل أقل من شهر من وصول الرئيس جوزيف بايدن إلى البيت الأبيض، أعلنت الولايات المتحدة أنها ستقبل دعوة من الممثل الأعلى للاتحاد الاوروبي للمشاركة في اجتماع لمجموعة الخمسة زائد واحد مع إيران، “لمناقشة السبل الديبلوماسية لتحقيق التقدم بشأن البرنامج النووي الإيراني”. هذا ما أعلنه الناطق باسم وزارة الخارجية نيد برايس في إشارة إلى الأطراف التي وقعت على الاتفاق النووي مع إيران في 2015، وهي الدول ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي إضافة إلى ألمانيا. ويمثل هذا الإعلان خطوة نوعية تعكس الأهمية الكبيرة التي يعلقها الرئيس بايدن على استئناف المفاوضات النووية مع إيران، والبدء بتقويض سياسة “الضغوط القصوى”، التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب بعد انسحابه من الاتفاق في 2018، واستئناف العقوبات السابقة التي فرضت على إيران قبل اتفاق 2015، إضافة إلى فرض عقوبات جديدة.
وفي مؤشر وفاقي آخر تجاه إيران، تراجعت إدارة الرئيس بايدن يوم الخميس عن قرار الرئيس السابق دونالد ترامب إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران. وجاء في رسالة بعثها المندوب الأميركي المؤقت في الأمم المتحدة إلى مجلس الأمن، باسم الرئيس بايدن، أن الولايات المتحدة ” بموجب هذه الرسالة تسحب” ثلاثة رسائل تقدمت بها إدارة الرئيس السابق ترامب، من بينها إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة ضد إيران. تزامن ذلك مع خطوة إيجابية أخرى تجاه إيران، تمثلت بإعلان وزارة الخارجية عن إلغاء بعض القيود المتشددة، التي فرضها الرئيس السابق ترامب، على تحركات المسؤولين الإيرانيين العاملين في الأمم المتحدة، أو المسؤولين الإيرانيين الذين يزورون المنظمة الدولية. وقال مسؤول في الوزارة “الهدف هو إلغاء بعض العقبات غير الضرورية المفروضة على الديبلوماسية المتعددة الأطراف، من خلال تعديل القيود المفروضة على سفر (الديبلوماسيين الإيرانيين) داخل البلاد”. وكانت إدارة ترامب قد منعت الديبلوماسيين الإيرانيين من التحرك خارج منطقة ضيقة تحيط بمبنى الامم المتحدة.
جاء الإعلان الأميركي بعد ساعات من اجتماع افتراضي (عبر شبكة الانترنت) لوزير الخارجية انطوني بلينكن مع نظرائه في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، لمناقشة سبل أحياء الاتفاق النووي. وأكد الوزراء الأربعة في بيان مشترك أهمية الاتفاق المعروف رسمياً بخطة العمل الشاملة المشتركة بصفته “انجازاً مهما للديبلوماسية المتعددة الأطراف”، كما أكدوا عزمهم للعودة لاستئناف المسار الديبلوماسي في التعامل مع إيران.
وجدد الوزراء الأربعة التزامهم “بضمان عدم قيام إيران بتطوير الأسلحة النووية”، كما رحبوا برغبة الولايات المتحدة بالعودة إلى السبل الديبلوماسية في التعامل مع إيران، وجددوا رغبتهم القوية بالتشاور والتنسيق مع روسيا والصين بهذا الشأن. ونبه الوزراء الأربعة إيران من خطر تنفيذ تهديدها بمنع الوكالة الدولية للطاقة النووية من إجراء عمليات التفتيش المفاجئة في المنشآت النووية الإيرانية، وفقا لقرار البرلمان الإيراني، وهو قرار يفترض أن يُنفذ خلال أيام.
المسؤولون الأميركيون رفضوا طلب إيران الغاء العقوبات قبل عودة طهران للالتزام ببنود الاتفاق، وتعهدوا بإبقاء العقوبات الاقتصادية حتى تتوقف إيران عن انتهاك الاتفاق. وبدا الخلاف وكأنه اجرائي، بمعنى أي طرف سوف يتخذ الخطوة الأولى: أن تعلن واشنطن عودتها إلى الاتفاق قبل إيران، أم على طهران أن تعود أولاً إلى الاتفاق لكي تتبعها واشنطن. ولكن الولايات المتحدة كانت تكرر في كل مناسبة رغبتها بالعودة إلى المسار الديبلوماسي مع إيران، وهذا ما عبّر عنه الوزير بلينكن قبل أيام في مقابلة إذاعية حين قال “طريق الديبلوماسية مفتوح الآن” مع إيران، وإن امتنع عن القول عما إذا كانت هناك اتصالات ديبلوماسية مع الإيرانيين، موضحاً إن “إيران لا تزال بعيدة عن الالتزام ” ببنود الاتفاق.
خلال الأسابيع الماضية أوحت الولايات المتحدة، بإجراءاتها ومواقفها المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط، إن استئناف المفاوضات مع إيران لإحياء الاتفاق النووي والسعي إلى تطويره هو أبرز أولوياتها في المنطقة. وأظهرت تعيينات الرئيس بايدن أنه أعاد، إلى حد كبير، تشكيل الفريق السياسي والأمني، الذي توصل إلى الاتفاق النووي مع إيران خلال الولاية الثانية للرئيس الأسبق باراك أوباما. وهذا يفسر تعيين الديبلوماسي المخضرم وليام بيرنز مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية (السي آي أيه)، وهو الذي قام بإجراء المفاوضات السرية مع إيران في عمان، والتي سبقت المفاوضات العلنية التي أوصلت إلى الاتفاق مع إيران. كما عّين بايدن، ويندي شيرمان نائبة للوزير بلينكن، وهي التي أشرفت على المفاوضات السابقة مع إيران، مع زميلها روبرت مالي، الذي عينه بايدن مبعوثاً خاصا لإيران. اختيار هذا الفريق، الملّم بكل نواحي العلاقات مع إيران، كان بمثابة تأكيد ورسالة من الرئيس بايدن للكونغرس ولحلفاء واشنطن في أوروبا ولإيران، ودول المنطقة التي تحفظت وعارضت الاتفاق الأول، إنه سيعمل على إحيائه وسيحاول تطويره.
وفي هذا السياق يؤكد المسؤولون الأميركيون إنهم يريدون إحياء الاتفاق كخطوة أولى لتطويره لجهة إطالة أمد الفترات التي ستحد من قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم بدرجة 3% المنخفضة، وتقليص انتاجها من أجهزة الطرد المركزي، إضافة إلى وضع قيود على برنامجها الصاروخي، والحد من نشاطاتها السلبية والتخريبية في المنطقة. وكان معارضو اتفاق 2015 في المنطقة، من دول الخليج العربية إضافة لإسرائيل وكذلك في الكونغرس، قد ركزوا انتقاداتهم على اخفاق إدارة الرئيس أوباما آنذاك من الحد من خطر الصواريخ الإيرانية، وامتناعها عن التصدي الفعال لتدخل إيران السافر في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
وفي هذا السياق، أكد بيان الوزراء الأربعة “تصميمهم على تعزيز خطة العمل الشاملة المشتركة، والعمل مع الشركاء الاقليميين والمجتمع الدولي الأوسع لمعالجة المشاكل الأمنية المرتبطة ببرامج إيران الصاروخية ونشاطاتها الإقليمية، ونحن ملتزمون بالعمل المشترك لتحقيق هذه الاهداف”.
كانت إيران الموضوع الرئيسي في أول مكالمة أجراها الرئيس بايدن قبل يومين مع رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو، واستمرت لساعة، حيث ناقشا “أهمية مواصلة المشاورات الوثيقة حول القضايا الأمنية الإقليمية، بما فيها إيران”. ويعارض نتنياهو بشدة إحياء الاتفاق النووي. ويوم أمس، وخلال أول اتصال بين وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن مع نظيره السعودي الأمير محمد بن سلمان، أشار أوستن إلى الالتزام المشترك بين الطرفين “لمواجهة النشاطات التخريبية لإيران، وهزيمة التنظيمات المتطرفة والعنيفة في المنطقة”.
وخلال الأسابيع الماضية، أجرى المسؤولون المعنيون بالمفاوضات مع إيران، مشاورات مع قيادات الكونغرس لاطلاعهم على ما يعتزمون القيام به، وللاستماع إلى آرائهم، خاصة وأن هناك تحفظات في الكونغرس على الاسراع في استئناف المفاوضات، وعدم التفريط بورقة العقوبات التي فرضها ترامب على إيران. وهذا ما عكسه النائب مايك ماكفال، العضو الجمهوري الأبرز في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، الذي أعرب عن قلقه لأن إدارة الرئيس بايدن “بدأت بتقديم التنازلات في محاولة واضحة للعودة من جديد إلى الاتفاق الإيراني السيء”. وأضاف ماكفال إن عقوبات ترامب عززت من مكانة بايدن في التعامل مع إيران ” ويجب علينا ألا نفرّط بهذا التقدم. وعلينا أن نضمن اتفاقاً أفضل يحمي الشعب الاميركي من مختلف التهديدات الإيرانية الخبيثة”.
وعلى الرغم من الإشارات الايجابية الصادرة عن واشنطن بشأن تخليها عن سياسة الضغوط القصوى، وسعيها لاستئناف المسار الديبلوماسي مع إيران، إلا أن إيران لا تزال تصر – علنا على الأقل- على أن تقوم واشنطن باتخاذ الخطوة الأولى لإحياء الاتفاق النووي. كما قامت طهران بامتحان الولايات المتحدة في العراق، من خلال قيام حلفائها بقصف منشأة أميركية في مدينة أربيل، في إقليم كردستان العراق، ما أدى إلى قتل متعاقد غير أميركي، وجرح 5 أميركيين. البيان الأميركي الذي استنكر الهجوم لم يتطرق إلى إيران أو التنظيمات الموالية لها في العراق، على الرغم من أن المسؤولين الأميركيين والأكراد مقتنعون أن إيران كانت وراء القصف، وفقا لتقارير صحفية. ويمكن اعتبار الهجمات الحوثية ضد أهداف سعودية، واغتيال المثقف والناشر اللبناني لقمان سليم، المعروف بانتقاداته القوية لحزب الله وإيران، بمثابة امتحانات للإدارة الأميركية الجديدة. بيانات الإدانة الاميركية لهذه الامتحانات الدموية اتسمت بالفتور والضعف.
الإيرانيون يصرون على أنهم لن يعدلوا اتفاق 2015، بل يريدون عودة واشنطن إليه دون أي تغيير. وليس من الواضح كيف سيسعى بايدن إلى ادراج برامج إيران الصاروخية في إطار اتفاق جديد، أو إذا كان مستعداً للتصدي لإيران وسياساتها العدائية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. ردود فعل إدارة بايدن على امتحانات إيران، حتى الآن، غير مشجعة.
القرارات الايجابية والوفاقية تجاه إيران، التي اتخذتها واشنطن يوم الخميس، أي الإعلان عن استعدادها لاستئناف المفاوضات النووية، والتراجع عن قرار إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة القديمة ضدها، وإلغاء القيود السابقة المفروضة على تحركات ديبلوماسييها في الولايات المتحدة، تؤكد بشكل لا لبس فيه ما هي أولويات بايدن في الشرق الأوسط. ويجب وضع قرارات الإدارة الجديدة مثل تجميد صفقات الأسلحة للسعودية ودولة الإمارات كخطوة أولية لإنهاء الحرب في اليمن، ومراجعة السياسة الأميركية تجاه السعودية، وإلغاء تصنيف حركة الحوثيين كتنظيم ارهابي، يجب وضع كل هذه الخطوات في سياق السياسة العامة تجاه إيران. هل سترد إيران بخطوات وفاقية تسهل استئناف المفاوضات؟ أم سترى في مبادرات بايدن الايجابية عودة إلى “الاعتدال”، الذي ميّز سياسة الرئيس الأسبق باراك أوباما، والذي رفض التصدي بشدة لسياسات إيران التخريبية في المنطقة؟ أي الاعتدال الذي فسره الإيرانيون ضعفاً أميركياً.