ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
تشهد العلاقات الأمريكية-التركية توترا سياسيا واستراتيجيا وقيميا لم تشهد مثله منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من الاتصالات المستمرة بين المسؤولين من البلدين لحل أو أحتواء التحديات الآنية، مثل قرار الرئيس رجب طيب أردوغان شراء منظومة صواريخ S-400 من روسيا، أو اقامة المنطقة الأمنية في شمال سوريا، إلا أن الأسس والمفاهيم والمصالح التي قامت عليها العلاقة المتميزة بين البلدين واستمرت لعقود خلال الحرب الباردة، لم تعد موجودة أو انحسرت اهميتها بشكل جذري، ما يعني أن تمنيات بعض المسؤولين والمحللين في واشنطن وربما في أنقرة حول إمكانية إعادة الحياة للتحالف القديم، هي بمعظمها تمنيات وحتى أضغاث أحلام.
خلال السنوات الماضية نجح أردوغان باقامة علاقات شخصية وحتى حميمة بعض الشيء مع الرئيس السابق باراك أوباما الذي كان يجري مكالمات هاتفية دورية معه. ولكن العلاقة بينهما تدهورت لأسباب عديدة أبرزها رغبة الرئيس التركي بدور أمريكي أقوى ضد نظام الأسد في سوريا، وبسبب ازدياد اوتوقراطية أردوغان ضد معارضيه في الداخل. كما أقام أردوغان علاقات إيجابية مع الرئيس ترامب، وإن أصابها الفتور مؤخرا. وخلال الحرب الباردة، حين كان الاتحاد السوفياتي العدو الذي عزز الروابط بين الحلفاء، والذي كانت له حدود برية مع تركيا، كانت العلاقات بين واشنطن وأنقرة وثيقة للغاية، وإن تعرضت لنكسة هامة في 1974 حين غزت تركيا شمال جزيرة قبرص، ما أدى إلى فرض الكونغرس الأمريكي لعقوبات عسكرية كانت الأولى من نوعها آنذاك. ولكن انهيار الاتحاد السوفياتي، وبروز ظاهرة أردوغان بأبعادها الإسلامية وممارساتها الاوتوقراطية وخاصة في السنوات القليلة الماضية، وضع البلدين على مسارين متناقضين. وفي السنوات الماضية تعرضت تركيا الحليف القديم لأمريكا إلى انتقادات قوية في الكونغرس من الحزبين ومن الصحافة، وفي المجتمع ككل، بسبب سياستها في سوريا، وقمعها المتزايد للمعارضة السياسية ولحريات التعبير والصحافة. وللمرة الأولى منذ عقود تجد تركيا نفسها، وإلى حد ما أيضا مصر والسعودية، تفتقر إلى أصدقاء حقيقيين في واشنطن، باستثناء شركات اللوبي والعلاقات العامة. ونادرا ما نرى مشرعا في مجلسي النواب والشيوخ يتبرع بالدفاع عن العلاقات، التي لم تعد ودية وحميمة أو قطعا خاصة بين الولايات المتحدة وهذه الدول. وللمرة الاولى يتحدث محللون وخبراء ومسؤولون سابقون في واشنطن انسحاب تركيا من حلف الناتو، أو حتى إلى طردها منه. وإذا أصر أردوغان على صفقة الصواريخ الروسية، عندها لن تبقى مسألة عضوية تركيا في الناتو مسألة نظرية فحسب.
ترامب وأردوغان: نظرة، فإعجاب، فثناء، فخيبة، ففراق؟
في بداية ولايته، طور الرئيس ترامب علاقات ودية مع نظيره التركي، عكست إعجابه بالقادة الاوتوقراطيين والأقوياء. وكان ترامب سخيا في ثنائه على أردوغان، مثل سخائه على الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وغيرهما من “الرجال الأقوياء” في العالم. ولكن الخلافات بين البلدين حول سوريا والسلاح الروسي، وإيران وأيضا الجدال الحاد حول مصير الداعية الإسلامي فتح الله غولن المقيم في ولاية بنسلفانيا منذ سنوات والذي يطالب أردوغان بإعادته إلى تركيا لمحاكمته، واعتقال المبشر الأمريكي أندرو برانسون، في 2016 في أعقاب الانقلاب العسكري الفاشل، كلها تضافرت لتعكير العلاقات الشخصية بين ترامب وأردوغان. وبما أن مصير المبشر برانسون كان يهم قاعدة الرئيس ترامب المسيحية المحافظة، فرضت وزارة الخزانة عقوبات ضد وزيري العدل والداخلية التركيين في أغسطس – آب 2018، وبعد أشهر صعدت واشنطن من ضغوطها وفرضت عقوبات اقتصادية ورسوم حماية ضد البضائع التركية. ونجحت هذه الضغوط في ارغام تركيا على الإفراج عن المبشّر برانسون في أكتوبر –تشرين الأول 2018. وسارع ترامب إلى تنقية الأجواء وصدح بتغريدة أعرب فيها عن تطلعه “لعلاقات جيدة، وربما عظيمة بين الولايات المتحدة وتركيا”. ووفقا لتسريبات من مصادر حكومية ناقش ترامب مع مساعديه إمكانية تسليم الداعية غولن لتركيا على الرغم من عدم وجود أدلة جرمية ضده. ويبدو أن تحفظات وزارة العدل على تسليم غولن دفعت ترامب للعدول عن رغبته. وإذا لم تكن هذه الخلافات كافية لوضع العلاقات بين البلدين على حافة الهاوية، جاءت جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية المملكة في اسطنبول لتضفي على العلاقة مستوى جديدا من التوتر. وبينما استخدمت تركيا أسلوب التسريبات التدريجية حول اغتيال خاشقجي وتوجيه أصابع الاتهام إلى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، واصل الرئيس ترامب تجاهله لتقييم الاستخبارات الأمريكية حول المسؤول الأول عن مصير خاشقجي المروعّ والذي لم يتناقض مع التقييم التركي. اغتيال خاشقجي، كان آخر مؤشر على أن العلاقات الشخصية بين ترامب وأردوغان، ورغبة ترامب القوية بالحفاظ عليها، لن تكون قادرة على اختراق أو تخطي العقبات البنيوية والموضوعية التي هي في صلب التحول السلبي التاريخي الذي طرأ على العلاقات الثنائية في السنوات الأخيرة.
من المنحى الغربي إلى المنحى الإسلامي
وبغض النظر عن مستقبل ومصير أردوغان، إلا أنه نجح خلال حكمه الطويل بأن يصبح الزعيم التركي الأبرز والأهم منذ وفاة مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال (أتاتورك) في 1938. وبينما فرض مصطفى كمال على تركيا الجديدة ذات الأكثرية المسلمة وذات الجذور العميقة في الشرق الأوسط، والتي خرجت منهكة ومفككة من أتون الحرب العالمية، على منحى غربي Western orientation ودفع بقوة لاعتماد مفهوم متشدد للعلمانية كان أقرب منه للعداء ضد الدين (مثل مفهوم العلمنة التقليدي في فرنسا) مما هو مفترض أن يكون فصلا واضحا بين الدين والدولة (كما هو الحال في النظام السياسي الأمريكي)، جاء أردوغان لينقض، لا ليكمل. ومنذ بداية ولايته الأولى كرئيس للوزراء في 2003، وأردوغان يعمل ببطء وبشكل تدريجي ولكن لا مواربة فيه، في تقويض الإرث العلماني لمصطفى كمال، ووضع تركيا على منحى إسلامي تقليدي على مختلف المستويات الاجتماعية والثقافية والسياسية. وخلال حكمه عادت تركيا إلى اكتشاف الشرق الأوسط وجيرانها العرب والإيرانيين وفي القوقاز. ومع أن الاستقطاب الإسلامي-العلماني كان تحت السطح خلال الفترة التي سبقت أردوغان في السلطة، إلا أن هذا الشرخ ازداد عمقا واتساعا في المجتمع التركي خلال حقبة أردوغان الطويلة.
في بداية ولايته، نجح أردوغان في تحسين علاقاته مع جيرانه بمن فيهم سوريا وإسرائيل والعراق، كما طور علاقة صداقة مع بشار الأسد في سوريا، أدت في العقد الأول من القرن إلى قيام تركيا بوساطة جدية بين سوريا وإسرائيل حققت بعض التقدم. ولكن علاقة أردوغان برئيس وزراء إسرائيل إيهود أولمرت تدهورت في أعقاب الهجوم الذي شنته إسرائيل ضد قطاع غزة في نهاية 2008. وأكثر ما أثار سخط أردوغان هو أن أولمرت كان في تركيا حيث شارك في المفاوضات مع سوريا التي كان يديرها أردوغان شخصيا، قبل يومين من الهجوم ضد غزة الذي فاجأ وأحرج أردوغان. وكان أردوغان يتحدث مع أولمرت وجها لوجه، ثم يقوم بالاتصال هاتفيا بالرئيس الأسد لنقل المواقف. بعد اجتياح غزة الذي أدانه أردوغان بعنف، توقفت الوساطة التركية. ومن الصعب في 2019 تخيل العلاقة الودية بين أردوغان والأسد قبل الانتفاضة الشعبية السورية في 2011، والعداء النافر بينهما خلال سنوات الحرب في سوريا. المقارنة أيضا بين علاقات تركيا الودية مع جيرانها في العقد الأول من القرن، والخلافات الحادة الراهنة بين تركيا من جهة وسوريا وإسرائيل والسعودية من جهة أخرى، يبين مدى عزلة تركيا عن محيطها الإقليمي. وعند النظر إلى هذه العزلة من منظور استياء الدول الأوروبية من ازدياد تسلط أردوغان وقمعه للحريات السياسية والصحفية في البلاد وخاصة في أعقاب الانقلاب العسكري الفاشل في 2016، نرى أن عزلة تركيا قد وصلت إلى مستويات غير معهودة. هذه التطورات علقت، وربما قوضت نهائيا فرص قبول الأوروبيين لعضوية تركيا في الإتحاد الأوروبي. المفارقة الأخرى في علاقات تركيا بجيرانها برزت في 2015 حين أسقطت طائرة عسكرية تركية طائرة حربية روسية كانت تحلق فوق المنطقة الحدودية السورية-التركية. في الأشهر التي تلت الحادثة، وصلت العلاقات التركية-الروسية إلى أدنى مستوى لها منذ الحرب الباردة. ولكن في السنوات اللاحقة، ومع ابتعاد تركيا عن حلفائها في واشنطن والعواصم الأوروبية بسبب سياستها في سوريا، وقمعها للأكراد في تركيا، وعدائها لأكراد سوريا، بدأ أردوغان يتقرب أكثر فأكثر من الرئيس الروسي بوتين، ووصل التعاون بينهما خلال أربع سنوات من العداء الصارخ، إلى اتفاق على شراء تركيا العضو في حلف ناتو لمنظومة صاروخية روسية في خطوة صدمت الحلف، وهددت مستقبل عضوية تركيا فيه.
السفير ساترفيلد في تركيا: المهمة المستحيلة؟
وافقت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ يوم الخميس، على تعيين مساعد وزير الخارجية المؤقت لشؤون الشرق الأوسط السفير ديفيد ساترفيلد، سفيرا جديدا لواشنطن في تركيا. وسوف يصبح التعيين رسميا وساري المفعول بعد أن يصدٌق مجلس الشيوخ ككل على قرار اللجنة، وهو أمر شبه تلقائي. التحديات والعقبات التي سيواجهها الدبلوماسي المخضرم ساترفيلد، سوف تكون الامتحان الأصعب للرئيسين العنيدين ترامب واردوغان. وكان ساترفيلد هو من أكثر الدبلوماسيين الأمريكيين خبرة في شؤون الشرق الأوسط، قد قال خلال مثوله أمام اللجنة قبل أسابيع “سوف أتحدى تركيا لكي تنفذ التزاماتها الداخلية والخارجية المتعلقة بحقوق الإنسان، وأن تكون منسجمة مع مكانتها كعضو كامل في حلف الناتو”. وحول شراء تركيا للصواريخ الروسية، وضع ساترفيلد تركيا أمام خيارات أحلاها مرّ حين قال “على تركيا أن تختار. هل تريد أن تبقى عضوا هاما في الحلف الأكثر نجاحا في التاريخ؟ أم تريد أن تجازف بأمن هذه الشراكة من خلال اتخاذ قرارات متهورة تقوّض التحالف؟”.
في الأيام الماضية كثف المسؤولون الأمريكيون والأتراك من اتصالاتهم لمحاولة معالجة أزمتي المنطقة الآمنة في شمال سوريا، ومنظومة الصواريخ الروسية. وفي هذا السياق أجرى مستشار الأمن القومي جون بولتون اتصالا هاتفيا بنظيره التركي إبراهيم كالين تركز على منظومة الصواريخ. وكانت واشنطن قد علقت تسليم تركيا طائرات من طراز اف-35 وهي الطائرة المقاتلة الأكثر تقدما في الترسانة الأمريكية كما علقت مشاركة تركيا بانتاج هذه الطائرة وفقا للاتفاق الموقع بين البلدين. كما قام المبعوث الأمريكي لمتابعة الأزمة في سوريا جيمس جيفري ومسؤولون آخرون بزيارة تركيا قبل أيام، حيث اجتمعوا بمسؤولين من بينهم إبراهيم كالين ووزير الدفاع هوليوسي آكار ونائب وزير الخارجية سادات أونال حيث تركزت محادثاتهم على المنطقة الآمنة في شمال سوريا. وكانت تركيا قد انتقدت بشدة في السنوات الماضية العلاقة العسكرية المتنامية بين القوات الأمريكية في سوريا وقوات سوريا الديمقراطية، وهي التنظيم المسلح الذي يشكل الأكراد عموده الفقري والذي قاد القتال ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا. وترى تركيا أن قوات وحدات حماية الشعب الكردية تشكل الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه كل من تركيا (والولايات المتحدة) تنظيما إرهابيا. ولا تزال نقطة الخلاف الرئيسية بين الطرفين هي حجم القوات التركية التي ستنتشر في المنطقة الآمنة في الشمال السوري، حيث تدعو واشنطن إلى نشر قوات محدودة لتقليص فرص المواجهة بين الجيش التركي وحلفائها في قوات سوريا الديمقراطية، بينما يدفع أردوغان لانتشار عسكري تركي مكثف أكثر.
ويرى الباحث المختص بالشؤون التركية في مجلس العلاقات الخارجية ستيفن كوك في حوار خاص، أن “الولايات المتحدة وتركيا إما بعيدين جدا أو قريبين جدا للتوصل إلى اتفاق حول المنطقة الآمنة، وفقا للتقارير الصحفية التي تقرؤها”. ويضيف “من الواضح أن واشنطن وأنقرة لا يوافقان على المنطقة الآمنة، ولكن الأتراك غير قادرين على القيام بغزو مماثل لغزوهم لعفرين، ولذلك أتوقع أن يواصل السفير جيمس جيفري المفاوضات لتفادي بروز وضع محرج لا يؤدي إلى اتفاق ويتسبب بغزو تركي”. وحول صواريخ S-400 الروسية يرى ستيفن كوك أن هناك “جهود ضخمة تبذلها إدارة الرئيس ترامب لايضاح نقطة أساسية لتركيا وهي أنها لا يمكن أن تحصل على طائرات إف-35 الأمريكية والصواريخ الروسية معا. وهذه رسالة لم تتقبلها تركيا حتى الآن”. ويرى كوك أن السبب الرئيسي لعدم تعامل تركيا بجدية مع مطالب الولايات المتحدة “هو غياب العواقب الأمريكية الوخيمة لتركيا على تجاوزاتها في الماضي”.