قد يكون إلغاء الكونغرس الأمريكي لحق النقض (الفيتو) الذي استخدمه الرئيس باراك أوباما ضد قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” قد أدخل البهجة مؤقتًا إلى نفوس مؤيدي هذا القانون. فقد انعكس الصدى العاطفي والسياسي لهذا القانون في نتائج فرز الأصوات التي أيّدت القانون بأغلبية ساحقة مذهلة، وهو يهدف إلى نيل عائلات ضحايا هجمات 11 أيلول/سبتمبر العدالة. ولم يخرج عن مجلس الشيوخ إلا صوتًا واحدًا يؤيد المحافظة على الفيتو، وهو صوت قائد الأقلية المنتهية ولايته هاري ريد الذي أفصح أنه سيتقاعد هذه السنة، ولم يستطع مجلس النواب أن يحشد سوى 77 صوتًا مؤيدًا للبيت الأبيض. ولكنه من غير المرجح أن يرسم إقرار هذا القانون رغم اعتراضات الرئيس نهاية هذه القصة التي أصبحت معقدة بالفعل.
هل هو “ندم المشترين؟”
وسرعان ما شعر الكثير من أعضاء الكونغرس، عقب إلغاء الفيتو، “بندم المشترين” كما وصفه البيت الأبيض إذ أقرّوا بما كانت وكالة الاستخبارات المركزية والبنتاغون قد حذرا منه وهو أن المخاطر الناجمة عن قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” تفوق فوائده. والجدير بالذكر أن التخوفات من التبعات المحتملة للقانون الجديد قد ظهرت مباشرة بعد إلغاء الفيتو في 28 أيلول/سبتمبر، إذ أشار المشرّعون إلى أنهم يعتزمون سن قانون ملحق “لتعديل” قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” في أقرب وقت بعد الانتخابات التي ستجرى في 8 تشرين الثاني/نوفمبر. وبات النواب الجمهوريون قلقين من عواقب القانون الذين أيدوه بشدة في السابق، علمًا أنهم كانوا قد سارعوا إلى توجيه أصابع اللوم نحو الرئيس.
وهذا ما وصفه قائد الأكثرية ميتش ماكونيل “بخير دليل” على “أن البيت الأبيض لم يحذّر بشكلٍ باكر من العواقب المحتملة” للقانون. وأقر باحتمالية أن يكون للقانون “تداعيات غير مرجوّة” إلا أنه “لا شك في أن هذا الأمر لم يكن ليعالج في خلال هذا الأسبوع” أي بعبارات أخرى في خلال عملية إلغاء الفيتو. واشتكى السيناتور الجمهوري بوب كوركر من أن البيت الأبيض لم يكن على استعداد لمناقشة هذه المسألة مع المشرعين. واتهم البيت الأبيض بأنه لم يبذل “أي” جهد لإقناع المشرعين بالحفاظ على الفيتو. وادّعى كوركر أن الكونغرس “لم يعلم إلا مؤخرًا بعواقب هذا القانون على جنودنا ودبلوماسيينا.”
وبالفعل لا يبدو أن البيت الأبيض قد أولى الأولوية لمحاربة قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” كما كان عليه أن يفعل. فعلى سبيل المثال، أشارت قائدة الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي إلى أن البيت الأبيض لم يتعاون معها ولم يتواصل معها حتى ليحاول أن يجمع أصوات كافية للحفاظ على الفيتو. ولقد أتى التصريح الأشد لهجة للبيت الأبيض الذي هاجم قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” متأخرًا نسبيًا في سياق الرسالة التي تتناول موضوع الفيتو التي وجهها الرئيس إلى مجلس الشيوخ في 23 أيلول/ سبتمبر. وبعد مرور ساعات قليلة على إلغاء الفيتو، وجّه 28 عضوًا من أعضاء مجلس الشيوخ رسالة إلى أبرز رعاة هذا القانون استعرضوا فيها مخاوفهم وشدّدوا على ضرورة سنّ قانون التسوية الجديد. إلا أن تخوفاتهم من التبعات المحتملة لهذا القانون كانت مطابقة تمامًا لتلك التي استعرضها أوباما في رسالته التي تناولت موضوع الفيتو، والتي عبّر عنها الكثيرون منذ فترة طويلة قبل 28 أيلول/سبتمبر.
ولقد كانت المناورات والحسابات السياسية وراء هذا القانون أكثر تعقيدًا مما كان الفريقان على استعداد للإقرار به علنًا. ويبدو أن البيت الأبيض قد عارض فعلًا هذا التدبير إلا أنه لم يوظّف على ما يبدو ترسانته كلها لإقناع الكونغرس بالحفاظ على الفيتو الرئاسي. كما يبدو أن العديد من أعضاء الكونغرس، الجمهوريين والديمقراطيين، قد صوّتوا لصالح القانون لأسباب سياسية أساسًا، علمًا أنهم يدركون تمامًا مساوئ هذا القانون وقد بدأوا سرًا بالتحضير “لتعديل” القانون في مرحلة ما بعد الانتخابات.
ويبدو أن العديد من الديناميكيات المهمة اشتركت في هذه المسألة. أولًا، من الواضح أن التوقيت لم يكن مؤاتيًا. فلقد تسببت الانتخابات التي تلوح في الأفق في تردد العديد من النواب لجهة التصويت ضد هذا القانون، حتى وإن كانوا مدركين أنهم سيضطروا إلى اتخاذ المزيد من التدابير على المدى البعيد ليضمنوا عدم نفاذ الكثير من أبرز أحكامه لوقت طويل. كما كان البيت الأبيض يراقب سير الانتخابات وكان يهمه مصير المرشحين الديمقراطيين. ولم يكن إقدام رعاة هذا القانون وقيادة الكونغرس على تسليط الضوء عليه في السياق المباشر للذكرى الخامسة عشرة على هجمات 11 أيلول/سبتمبر صدفةً، إذ أمّن هذا التوقيت أكثر الأجواء العاطفية الممكنة المؤاتية لهذا القانون.
وثانيًا، لعبت المنافسات الحزبية دورًا في ما حصل، إذ وجّه الديمقراطيون والجمهوريون أصابع اللوم نحو بعضهم البعض، بشكل صريح أو ضمني، حول القانون الذي يقرّ الكثيرون أن له عواقب محتملة على المصلحة الوطنية الأمريكية. وثالثًا، فلقد انعكست التوترات المؤسساتية المألوفة بين السلطات التنفيذية والقضائية التابعة للحكومة على العمليات التي أدت إلى إقرار هذا القانون. ورابعًا، من المحتمل أن يكون البيت الأبيض برئاسة أوباما، وهو في نهاية عهده، قد فضّل أن يستخدم ما تبقى له من نفوذ محدود للدفاع عن مواقف هشة أخرى له في السياسة الخارجية يعتبرها أكثر أهمية من قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب”، كاتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ واتفاقية باريس لتغيّر المناخ.
وأشار كوركر وآخرون إلى أن العديد من أعضاء الكونغرس يريدون أن “يروا إمكانية ادراج بعض التدابير التصحيحية في قانون آخر” لكبح، أو لتخفيف التداعيات التي من المحتمل أن تترتب عن هذا القانون في نسخته الحالية. وقال إن أعضاء مجلس النواب ومجلس الشيوخ يريدون أن “يجتمعوا” بالبيت الأبيض و”يبحثوا في الطرق التي ستقودنا إلى وضع أفضل”، والتي تضمن أن الكونغرس لن “يقوّض أسس العادلة الأخرى التي تتمتع بها الحكومة الأمريكية وشعبنا.” وأعرب رئيس مجلس النواب الأمريكي بول راين بدوره عن تمنيه بأن يتخذ الكونغرس المزيد من الإجراءات التي تهدف بشكل خاص إلى حماية عناصر الجيش الأمريكي من الإجراءات القانونية المحتملة في الخارج التي قد تنتج عن هذا القانون.
هل يعتبر قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” كارثيًا؟
يسمح قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” للمواطنين الأمريكيين بمقاضاة الحكومات الأجنبية ومسؤوليها لتحميلهم المسؤولية القانونية لمقتل الأمريكيين في الهجمات الإرهابية التي تقع على الأراضي الأمريكية. وقبل كل شيء، يعتبر هذا القانون بمثابة وسيلة للسماح لعائلات ضحايا اعتداءات 11 أيلول/سبتمبر بمقاضاة المملكة العربية السعودية ومسؤوليها لتورطهم المزعوم بالهجمات. وعلى الرغم من أن أيًا من التحقيقات الرسمية لم تكشف عن أي دليل يثبت صحة هذا الاتهام فإن الكثير من الأمريكيين لا يزالون يشككون في تورط الحكومة السعودية أو بعض أهم مسؤوليها، بطريقة أو بأخرى، في هذه الهجمات.
ألغى هذا القانون اتفاقية الحصانة السيادية القانونية الدولية البالغة الأهمية التي لا تسمح بمقاضاة الحكومات ومسؤوليها في الدول الخارجية. رفضت المحاكم في الولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا النظر في الدعاوى المتعلقة بهجمات 11 أيلول/سبتمبر التي رفعت ضد المملكة العربية السعودية على مدى السنوات الخمس عشرة الأخيرة لأنها تنتهك قوانين أخرى تكرّس مبدأ الحصانة السيادية في القانون الأمريكي. ويهدف قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” إلى السماح لمثل هذه الدعاوى أن تأخذ مجراها القانوني في النظام القانوني الأمريكي. ولكن متى تخلّت الولايات المتحدة عن مبدأ الحصانة السيادية، تستطيع الدول الأخرى أن تحذو حذوها وقد تقوم بذلك بالفعل. وقد تواجه الولايات المتحدة موجة من الدعاوى المحتملة حول العالم بناء على أنشطتها العسكرية. ولقد بدأت جهة عراقية بالفعل بمحاولة اتخاذ تدابير قانونية مبنية على قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” ضد الحكومة الأمريكية على قاعدة غزوها للعراق واحتلالها له في العام 2003.
ما من دولة تضاهي الولايات المتحدة في حضورها ودورها الدوليين وبالتالي لن تتعرض أي حكومة أخرى لمقدار الخطر عينه الذي سيحدق بالولايات المتحدة في مرحلة ما بعد إزالة مبدأ الحصانة السيادية من النظام القانوني الدولي. ومع إبطال الحصانة السيادية، سيمنح قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” الدول الأخرى الحرية المطلقة في تحديد من سيتحمّل المسؤولية المدنية أو الجنائية للأعمال التي تعتبرها هذه الدول غير شرعية. وعلاوة على ذلك، قد تتحمل الحكومة الأمريكية، أو مسؤولوها حتى، المسؤولية القانونية المترتبة عن التدابير الخاصة التي يتخذها المواطنون الأمريكيون والمنظمات والشركات الأمريكية. ولا شك في أن هذه الأمور تشكّل بعض “التداعيات غير المرجوّة” التي أشار إليها ماكونيل، إذ أضاف بأسى أن “أحدًا لم يعرِ انتباهه كما يجب لعواقب هذا القانون المحتملة على علاقاتنا الدولية.”
ماذا بعد؟
أعربت عدة دول أوروبية ودول أخرى عن قلقها من التداعيات المحتملة لهذا القانون على القانون الدولي والعلاقات الدولية. وبعث الاتحاد الأوروبي برسالة لوزارة الخارجية حذرها فيها من التداعيات الكبيرة التي قد تترتب عن هذا القانون على “العلاقات الثنائية بين الدول وعلى النظام الدولي ككل.” وجاء في الرسالة أيضًا أن “الدول الأخرى قد تسعى إلى سنّ قانون مماثل”، وأن هذه الدول قد ترغب لاحقًا في اتخاذ “إجراءات متبادلة” قد تضع الولايات المتحدة في مواجهة مجموعة كبيرة من المشاكل القضائية. وأعربت وزارات الخارجية الفرنسية والروسية والمصرية وغيرها عن قلقها إزاء التداعيات المحتملة لهذا القانون على النظام الدولي. كما انتقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بدوره هذا القانون وقال إنه يتوقع أن يتم إبطاله في المستقبل القريب.
وقد تبدأ بعض الدول، وأولها المملكة العربية السعودية، بتصفية الأصول الأمريكية لئلا تضطر إلى دفع تعويضات إن ربح المدّعي أي قضية ترتبط بقانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب”. ويقال أن المملكة العربية السعودية، التي تستشيط غضبًا، تتخذ مجموعة من الإجراءات الدفاعية أو الانتقامية، بما في ذلك التخلص من الأصول الأمريكية التي قد تكون هشة. وإذ استعرض ديفيد أندلمان بعض هذه الخيارات السعودية، قال إنه وفيما يأمل أن تسود الحكمة فإن الكونغرس قد أعطى الرياض “من الأسباب ما يكفي” لتبحث عن “انتقام سياسي”.
وانضمت البحرين والإمارات العربية المتحدة إلى المملكة العربية السعودية في التحذير من الأضرار الجسيمة التي قد تترتب عن هذا القانون على الشراكة الحيوية، والتي أمست هشة بعض الشيء، بين الولايات المتحدة والدول الخليجية. كما أعرب قادة الرأي العام الإقليميون والمواطنون والمسؤولون في الدول الخليجية عن سخطهم إزاء هذا القانون. وأشار بعض المعلّقين العرب إلى أن قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” قد يسبب أزمة في العلاقات الأمريكية-السعودية، ولاسيما أنه يعزز شكوك الفريقين الذين تربطهما بالفعل علاقة متوترة. ولقد تزعزت الثقة أكثر بين الولايات المتحدة وشركائها الخليجيين إذ شعر السعوديون، بشكل خاص، أنهم قد تعرّضوا مجددًا للخيانة من الولايات المتحدة.
إلا أن المسؤولين السعوديين قد أقروا أن إلغاء الفيتو يجب ألا يشكّل نهاية عملية إقرار قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” وعبّروا عن أملهم في أن “تسود الحكمة ويتّخذ الكونغرس الخطوات اللازمة ليصحح هذا القانون لتفادي التداعيات الخطيرة غير المرجوّة التي قد تترتب عنه.” ولقد دعا بعض المعلقين السعوديين البارزين إلى الصبر، وشددوا على أهمية العلاقة مع واشنطن والمخاطر التي قد تنتج عن أي رد فعل مبالغ فيه.
تتمثّل إحدى الحلول المحتملة، التي تمت مناقشتها في الكونغرس، بإقرار قانون جديد يحدّ من نطاق قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” لئلا يطبّق إلا على القضايا المرتبطة مباشرة بهجمات 11 أيلول/سبتمبر. إلا أن السيناتور تشاك شومر، أحد أبرز رعاة هذا القانون، قد قال إنه لن يؤيد مثل هذه التسوية، مما سيصعّب مهمة ضمان هذا الحل. وثمة حلّ ثان يقوم على تأسيس محكمة دولية تتألف من خبراء يعملون على تحديد المسؤولية القانونية المحتملة، أو البت في القضايا بطريقة تحدّ من الضرر الدبلوماسي والسياسي المترتب عنها.
تشكّل الجلسة التي سيعقدها الكونغرس في نهاية عهده في 15 تشرين الثاني/نوفمبر عقب الانتخابات فرصة سانحة للنواب لمراجعة قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب”. ولكن وعلى غرار ما أشارت إليه صحيفة “ذي وول ستريت جورنال”، فإن هذا الأمر لن يكون سهلًا نظرًا إلى أنه يبدو أن مجموعة محامي المحكمة (الذين يشكّلون مجموعة نافذة ومنظّمة للغاية ذات منفعة سياسية) وبعض السياسيين النافذين، مثل شومر، لا يزالون يعتزمون معارضة أي تعديل مهم على قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب. وقد تستمر شريحة كبيرة من الشعب الأمريكي في تأييدهم وهي لا تزال تجهل تمامًا حتى هذه الساعة تبعات هذا القانون المحتملة على السياسة الخارجية والعسكرية الأمريكية بالإضافة إلى المخاطر التي ستواجه المسؤولين والجنود.
ومع ذلك، يجمع الكثيرون على ضرورة القيام بأي خطوة لتجنب أسوأ العواقب التي قد يلحقها هذا القانون على الأمن والدبلوماسية الامريكية. إنّ محامي المدّعين على دراية بأن هذا الأمر قيد التنفيذ، ويقال إنهم يتهافتون إلى رفع دعاوى قضائية ضد المملكة العربية السعودية وفقًا لأحكام قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” قبل أن يحدّ القانون الملحق من خياراتهم. ومن شبه المؤكد أن إلغاء الكونغرس الأول، والذي قد يكون الأخير، لفيتو الرئيس أوباما، وعلى الرغم من كونه مفاجئًا، لن يشكّل الكلمة الفصل في ملحمة قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب”.