في خلال أسبوع واحد لوحت الديبلوماسية الأمريكية بالسيف وهددت بشكل لا لبس فيه دولتين تعتبرهما مارقتين ولهما طموحات نووية: إيران وكوريا الشمالية. وفي حال رفضهما الانصياع للشروط والمطالب والاملاءات فإن واشنطن تؤكد على استعدادها وقدرتها على استخدام القوة ضدهما.
صباح الأثنين الماضي، ألقى وزير الخارجية مايك بومبيو أول خطاب رئيسي له بعد شهر من تسلمه المنصب حول الاستراتيجية الأمريكية تجاه إيران، بعد قرار الرئيس ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الدولي معها. وخاب أمل اولئك الذين توقعوا الكشف عن خطة استراتيجية، لأن خطاب بومبيو كان بمثابة إعلان حرب اقتصادية ضد إيران، رافقه تحريض واضح للشعب الإيراني الذي يعاني من ضائقة مالية عميقة، للانتفاض ضد النظام الإسلامي. خطاب بومبيو لم يتضمن خارطة طريق لحل النزاع مع إيران، لأنه كان عبارة عن سلسلة من الاملاءات والمطالب تضمنتها قائمة من 12 شرطا، لا يمكن لأي مراقب محايد إلا أن يعتبرها تعجيزية، ومصممة على إطالة الأزمة، وليس لتمهيد الأرضية إلى حلها.
وفي مساء نفس اليوم، قال نائب الرئيس مايك بنس في مقابلة مع شبكة فوكس نيوز، إن العلاقات مع كوريا الشمالية “سوف تنتهي كما انتهى النموذج الليبي إذا رفض كيم جونغ أون التوصل إلى اتفاق”، وذلك في إشارة إلى الإطاحة بالرئيس معمر القذافي وقتله بعد سنوات من تخليه عن برنامجه النووي. بنس كان يعكس موقف الرئيس ترامب الذي قال قبل أيام من تصريح بنس إن النموذج الليبي يظهر “ما الذي يمكن أن يحدث إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق” مع كوريا الشمالية. صباح الخميس كشف البيت الأبيض عن رسالة شخصية وجهها الرئيس ترامب إلى زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون أعلمه فيها أنه قرر إلغاء القمة التي كان يفترض أن تعقد في الثاني عشر من الشهر المقبل في سنغافورة، بسبب ما وصفه ترامب “بالغضب العارم والعداء المفتوح” الذي عبّر عنه مسؤول من كوريا الشمالية كان قد وصف مايك بنس “بالجاهل والغبي”، بسبب تهديداته لكوريا الشمالية.
رسالة ترامب تضمنت مشاعر عديدة ومتناقضة مماثلة لتلك التي يكتبها العشاق الشباب في حالة فسخ علاقة حميمة: مشاعر الأسف الممزوجة بمشاعر الغضب والكبرياء المجروح، المغلفة بمشاعر التهديد والانتقام، والتي تنتهي بمشاعر التوق والحنين لإصلاح البين وبلسمة العلاقة. ترامب لم يستطع كبح جماح خيبته لأن كيم جونغ أون جازف بتقويض علاقة كان يفترض أن يكون لها مستقبل ناصع، مهددا أن الولايات المتحدة وحلفاؤها مستعدون للرد على “أي إجراءات مجنونة أو متهورة تتخذها كوريا الشمالية”. وخاطب ترامب كيم جونغ أون متبجحا “أنت تتحدث عن قدراتك النووية، ولكن قدراتنا قوية وشاملة لدرجة أنني أصلي لله، لكي لا يتم استخدامها أبدا”. وليس من الواضح ما الذي سيتبع هذه الخطوة، وما إذا كان الإلغاء مجرد تأجيل فقط أم انهيار كامل لإمكانية القمة. ولكن كوريا الجنوبية ستحاول التوسط بين واشنطن وبيونغ يانغ، كما أن دور الصين سيبقى محوريا.
خطاب بومبيو وتأجيل القمة الأمريكية-الكورية الشمالية وضع الولايات المتحدة، على طريق المواجهة العسكرية في الشرق الأوسط والشرق الأقصى في آن واحد. في العقود السابقة كان المخططون الأمريكيون يتحدثون وبثقة عن قدرة الولايات المتحدة على خوض حربين في آن واحد. ولكن لا أحد يتحدث الآن عن مثل هذا السيناريو، وخاصة تجاه دول مثل إيران وكوريا الشمالية، لا تتصرف عادة وفق الأعراف الدولية واثبتتا أنهما قادرتان على العيش في عزلة وتحمل الكثير من الضغوط. كما أن حربي أفغانستان والعراق أظهرتا محدودية القوة العسكرية الأمريكية.
إيران: الإنذار الأخير؟
لا يستطيع المراقب المحايد إلا أن يوافق مع المسلمات الأمريكية والدولية بأن النظام الإيراني سلطوي نظرا لطبيعته الثيوقراطية، وأن ممارساته الداخلية مشينة لجهة انتهاكاته السافرة لأبسط حقوق الإنسان ولجوئه للقوة المفرطة لقمع أي حركة احتجاج سلمية كما رأينا كيفية قمعه للحركة الاحتجاجية في سنة 2009، وكما نراه الآن في تعامله القاسي مع التظاهرات الاحتجاجية التي شهدتها مناطق عديدة منذ كانون الأول – ديسمبر الماضي. ولكن الخطر الأساسي الذي يمثله النظام الإيراني هو على المنطقة العربية حيث نجح إلى حد كبير في وضع العراق في فلكه السياسي، وأصبح الطرف الخارجي الأكثر نفوذا في سوريا حيث يشارك نظام بشار الأسد في قمعه لأكثرية الشعب السوري. إيران، عبر حزب الله، هي أيضا الطرف الخارجي الأكثر نفوذا في لبنان. وفي اليمن ازداد نفوذ إيران بشكل غير مسبوق، وهذا النفوذ، إضافة إلى أسباب أخرى، من بين الأسباب التي تجعل إيجاد تسوية للحرب اليمنية أمرا بالغ الصعوبة.
وتتحمل إدارة الرئيس السابق باراك أوباما مسؤولية كبيرة لأنها خلال ثماني سنوات من عمرها لم تتصدى بفعالية للتحديات الإقليمية للنظام الإيراني، وخاصة خلال المفاوضات بشأن الاتفاق النووي، لأن أوباما كان يتخوف، دون أي أدلة ملموسة، وبالضد من نصائح بعض مستشاريه، من أن تكثيف الضغوط على طهران، سيدفعها للانسحاب من المفاوضات. كما ارتكبت إدارة أوباما خطأ فادحا عندما أخفقت في إدراج البرنامج الصاروخي الإيراني في الاتفاق النووي. وكما قال لنا جنرال أمريكي متقاعد: لا معنى للصواريخ الباليستية إذا لم تزود برؤوس حربية كيماوية أو بيولوجية أو نووية.
الانتقادات الموجهة لقرار الرئيس ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، ولخطاب بومبيو من المحللين أو المسؤولين في أوروبا، هي أن الموقف الأمريكي، عطّل الصيغة الوحيدة المتوفرة لإبقاء أعين العالم على المنشآت النووية الإيرانية، ولأنه لم يتضمن أي بديل للاتفاق غير المطالبة بموافقة طهران على الشروط والاملاءات الأمريكية التي يرى هؤلاء النقاد أنها متشددة عن قصد لكي يرفضها النظام الإيراني. وفي هذا السياق، يمكن تفسير خطاب بومبيو على أنه إنذار أمريكي اخير لإيران، بأن الخيار الوحيد المتوفر لها هو قبول الشروط الأمريكية، لكي تفلت من سيف العقاب الأمريكي.
هل تسعى واشنطن لتغيير النظام الإيراني
يشير منتقدو خطاب بومبيو إلى أن هناك فجوة كبيرة بين الشروط والاملاءات الأمريكية وبين الوسائل المطلوبة لتنفيذها. وهذه الفجوة يفسرها البعض على أنها مقصودة لأن واشنطن لا تتوقع إلا الرفض الإيراني القاطع لهذه الشروط. وإذا قبلت إيران حتى ببعض هذه الشروط فإنها لن تبقى على حالها الذي بقيت عليه خلال الأربعين سنة الماضية. ومن المستحيل في ظل الظروف الراهنة التوصل إلى اتفاق جديد مع إيران، حتى ولو انسحبت الشركات الأوروبية من السوق الإيراني، كما تأمل واشنطن، وانحسرت الفوائد الاقتصادية التي أرادتها إيران من الاتفاق النووي. ويأمل المتشددون في واشنطن، وفي بعض العواصم في الشرق الأوسط، بأن تؤدي العقوبات الأمريكية من الدرجة الثانية التي ستستهدف الشركات الأوروبية العاملة في إيران، إلى إرغام طهران على الانسحاب من الاتفاق، وربما العودة إلى تخصيب اليورانيوم واستئناف نشاطات نووية أخرى تم تجميدها بعد الاتفاق النووي. استئناف إيران لبرنامجها النووي، يمكن أن يوفر لإسرائيل، -ومعها الولايات المتحدة-، الحجة لتوجيه ضربة عسكرية للبرنامج النووي. أشار بعض المراقبين إلى أن الشروط التي تضمنها خطاب بومبيو وهي مزيج من المطالب السياسية المتعلقة بممارسات إيران الإقليمية، والمطالب التقنية المتعلقة بالبرنامجين النووي والصاروخي الإيرانيين، تزيد من صعوبة تخطي الأزمة الراهنة مع إيران، وأنه يجب الفصل بينهما. ووفقا لهذا التفكير كان من الأفضل أن تبقى واشنطن طرفا في الاتفاق النووي، وأن تعمل وتنسق مع حلفائها بشأن أفضل السبل لكبح البرنامج الصاروخي، وكذلك السلوك الإيراني الإقليمي السلبي عبر الضغوط السياسية والعقوبات الاقتصادية. ويّذكر هؤلاء أن إيران اضطرت للتفاوض للاتفاق النووي بسبب العقوبات الدولية التي شاركت فيها الدول الأوروبية والصين وروسيا. ويضيف هؤلاء أن العقوبات الأمريكية الاحادية الجانب لن يكون لها تأثير مماثل على طهران.
ويقول الأوروبيون إنهم سيحاولون حماية شركاتهم من آثار العقوبات الأمريكية، ولكن ليس من الواضح في هذا الوقت المبكر ما هي فرص نجاح هذه المحاولات، حيث ستجد الدول الأوروبية نفسها في سباق مع الزمن، لأن بعض الشركات الأوروبية بدأت بالنزوح من إيران خوفا من العقوبات الأمريكية المرتقبة. هذا الوضع يعني أن العلاقات الأوروبية- الأمريكية الفاترة أصلا بسبب شكوك ترامب بجدوى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، سوف تزداد فتورا وحتى توترا. وهناك انزعاج كبير في أوروبا لأن إدارة ترامب لم تعط الأوروبيين الوقت الكافي لتطوير سلسلة من الإجراءات العقابية التي كان يمكن استخدامها ضد البرنامج الصاروخي الإيراني، إضافة إلى سلسلة من الإجراءات التي كانت بعض الدول الأوروبية تأمل بأن تتعاون بشأنها مع الولايات المتحدة لإرغام إيران على دفع ثمن لممارساتها السلبية والتخريبية في المنطقة.
الاشارات التي تضمنها خطاب بومبيو للشعب الإيراني بأن عليه أن يحاسب قادته وأن يغيرهم، وأنه إذا فعل ذلك بسرعة فإن واشنطن ستعتبر ذلك أمرا رائعا، لا يمكن أن تفسر إلا كدعوة من وزير الخارجية الأمريكية إلى الشعب الإيراني للانتفاض ضد قادته، لأن إدارة الرئيس ترامب أقنعت نفسها بأن الأزمة الاقتصادية الخانقة في إيران توفر فرصة تاريخية للولايات المتحدة لوضع النظام الإيراني على الطريق الذي سيؤدي إلى انهياره. المسؤولون الأمريكيون لا يقولون صراحة أنهم يسعون لتغيير النظام الإسلامي في إيران، ولكنهم قطعا يأملون بذلك، وقطعا يريدون تشجيع الشعب الإيراني على الإطاحة بنظامه.
انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، وخطاب بومبيو حول مستقبل العلاقة مع إيران، تزامنا مع وصول التوتر الأمني في المنطقة، وخاصة في المسرح السوري إلى مستويات غير معهودة وبالغة الخطورة، حيث هناك مواجهات مباشرة وللمرة الأولى بين إسرائيل والقوات الإيرانية في سوريا. قد لا يريد ترامب –الذي انتقد خلال حملته الانتخابية حرب العراق، والذي يكرر القول إنه يريد سحب القوات الأمريكية من سوريا- الدخول في حرب مكلفة وغير مضمونة مع دولة مثل إيران، ولكن سياساته حتى الآن تبين أنه يسير على طريق قد يؤدي إلى مثل هذه الحرب.