تجريم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بتزوير سجلاته المالية لتحسين فرصه بالفوز في انتخابات 2016 من قبل هيئة محلفين مكونة من 12 مواطناً ومواطنة من سكان مدينة نيويورك، يعتبر لحظة مفصلية لم تشهد مثلها الولايات المتحدة في تاريخها. هذه الإدانة التي جاءت بسرعة نسبية لم تصل إلى 12 ساعة، سوف تعمق الهوة الواسعة أصلا بين الجمهوريين والديموقراطيين، وتزيد من حدة وشراسة السجال السياسي والثقافي في البلاد، في الوقت الذي تواجه فيه الولايات المتحدة نزاعات خارجية خطيرة، وتحديات سياسية واستراتيجية واقتصادية من دول مثل الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية.
لا أحد يعرف بأي درجة من اليقين، ما إذا كان الحكم الذي أصدرته هيئة المحلفين في نيويورك بتجريم الرئيس السابق ترامب بجميع التهم الأربع وثلاثين تهمة بتزوير سجلاته المالية سيكون له تأثير عميق على الانتخابات الرئاسية في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، أم أن وقعه سيكون محدوداً حيث ستهيمن على السباق الرئاسي قضايا عديدة ومختلفة في الأشهر الخمسة المقبلة وهي فترة تعتبر أكثر من أبدية في تقاليد السياسية الاميركية.
ما هو مؤكد أن الإدانة، والعقوبات التي سيفرضها القاضي ضد ترامب في الحادي عشر من الشهر المقبل، سوف تستغل من قبل الحملتين الانتخابيتين لزيادة حدة وقساوة السجال الانتخابي والسياسي بشكل عام، كما أظهرت الساعات الأولى التي عقبت القرار التاريخي. ترامب الذي تم تجريمه رسمياً لم يتردد في القول “نحن نعيش في دولة فاشية”، لكي يرد عليه الرئيس جوزيف بايدن بالقول إنه أمر “متهور وخطير” أن يرفض أي شخص حكم القضاء لمجرد أنه لا يوافق على النتيجة.
سوف تهيمن الإدانة ومضاعفاتها السياسية والقانونية على المناظرة الأولى بين بايدن وترامب في السابع والعشرين من الشهر الجاري. ومع أن طيف العقوبات ضد ترامب يشمل السجن، إلا أن العديد من الحقوقيين يقولون إن الرئيس السابق لن ينام في زنزانة في أي وقت قريب، وقد يصدر بحقه حكم بوضعه قيد الرقابة، أو بتغريمه مالياً، أو إرغامه على تنفيذ خدمات اجتماعية دون مقابل لفترة معينة. ترامب سيواجه عقوبة القاضي قبل أربعة أيام فقط من بدء فعاليات المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في مدينة ميلووكي بولاية ويسكونسون، الذي سيرشح ترامب رسمياً لمنصب الرئاسة.
فور صدور الإدانة، سارع معظم الأميركيين لاعتبارها تأكيداً على نزاهة وجدوى النظام القضائي الأميركي، وأن هيئة المحلفين عززت من مقولة “لا مواطن فوق القانون”، التي هي في صلب النظام القضائي. ولكن ما كان مؤكداً أيضاً أنه فور صدور الإدانة، وقبل صدور حكم القاضي، هو أن الرئيس السابق ترامب سيقود نداءات صاخبة لتقويض الأسس القانونية لقرارات هيئة المحلفين، وسوف ينضم إليه بسرعة معظم قادة الحزب الجمهوري في مجلسي الكونغرس لإظهار ولائهم للرئيس السابق والمرشح المقبل للحزب، وربما الرئيس الجديد. رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون تحدث باسم هؤلاء حين وصف الإدانة بأنها “يوم مشين في تاريخ أميركا. هذا كان عملاً سياسيا بامتياز وليس قراراً قانونيا”.
وقوف معظم قادة الحزب الجمهوري وراء ترامب والتفاف القاعدة الجمهورية حوله لم يكن مفاجئا، وكانت استطلاعات الرأي قد أظهرت قبل قرار هيئة المحلفين أن معظم الناخبين الجمهوريين سيصوتون لترامب، حتى ولو جرى تجريمه رسمياً. الجمهوريون يرون بكل بساطة أن الدعاوى ضد الرئيس السابق تعكس قرارات سياسية تهدف إلى حرمانه من ولاية ثانية، وأن محاكمة ترامب بجرم ارتكب قبل ثمانية سنوات وقبل انتخابه (دفع رشوة لممثلة الأفلام الاباحية ستورمي دانيال ثم تزوير سجلاته المالية لإخفاء الحقيقة وتضليل الناخبين) لا تستحق كل هذا العناء. ولذلك لم يكن من المستغرب أن تعلن حملة ترامب الانتخابية عن حصولها على تبرعات مالية وصلت تقريباً إلى حوالي ستين مليون دولار خلال أول أربع وعشرين ساعة بعد الإدانة.
استطلاعات الرأي الأولية لم تظهر أي تغييرات جذرية في المشهد الانتخابي، حيث تبين أكثرية الاستطلاعات في الأسابيع الماضية أن ترامب متفوق، ولكن ببضعة نقاط فقط على الرئيس بايدن في الاستطلاعات الوطنية، والأهم من ذلك أيضاً في استطلاعات الرأي التي تجري في الولايات المتأرجحة التي ستحسم نتائج الانتخابات مثل بنسلفانيا وميتشغان وويسكونسن وغيرها.
خلال شهر أبريل/نيسان الماضي، جاء في استطلاع للرأي لمؤسسة أيبسوس وشبكة التلفزيون إيه بي سي أن 16 بالمئة من الناخبين المؤيدين لترامب سوف يعيدون النظر بتأييدهم في حال إدانته. ولكن المواقف الافتراضية تتغير بسرعة، وخاصة إذا كانت تتعلق بأحداث جرت قبل ثماني سنوات، كما أن آراء ومواقف هذه الشريحة من الناخبين سوف تتعرض لضغوط مختلفة، اقتصادية وسياسية خلال الأشهر الخمسة المقبلة مثل معدلات التضخم، والوضع المضطرب على الحدود، ومعدلات الجريمة في المدن، واحتمالات تورط الولايات المتحدة عسكرياً في النزاعات الحامية في أوكرانيا وفي قطاع غزة، كما رأينا من خلال الدور المباشر الذي لعبته القوات الأميركية الجوية والبحرية في دحر الهجوم الجوي الذي شنته إيران من أراضيها ضد إسرائيل في أبريل/نيسان الماضي.
فور صدور الإدانة قال الرئيس السابق ترامب إن الحكم المهم والجوهري هو ذلك الذي سيصدره الشعب الأميركي في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل في مراكز الاقتراع. وسارعت حملة الرئيس بايدن للقول لأنصارها إن إدانة أو عدم إدانة ترامب لن تغير حقيقة أنه سيكون المرشح الرسمي للحزب الجمهوري خلال بضعة أسابيع، وأن الطريقة الوحيدة لإبقائه خارج البيت الأبيض هي في هزيمته في مراكز الاقتراع يوم الانتخابات الرئاسية المقبلة.
منذ أن دخل دونالد ترامب المعترك السياسي مباشرة قبل عشر سنوات، وهو يتحرك دوماً في ظل الفضائح الشخصية والأخلاقية والسياسية، التي كان من المؤكد أنها ستدمر المستقبل السياسي لأي سياسي أخر ليس اسمه دونالد ترامب. وخلال السنوات السابقة طوّر ترامب بشخصيته الصدامية ومبالغاته وقدرته على استغلال شكاوى ومخاوف شريحة كبيرة من الناخبين، التي أقنعها وأقنعت نفسها أنه لم يعد لها مكان في هذه الولايات المتحدة التي تتغير باستمرار، طّور ترامب نظام مناعة ضد النقد لم يطوره في العقود الماضية أي سياسي آخر.
تتسم هذه الانتخابات الرئاسية بوجود شريحة من الناخبين تقول أنها لا تؤيد بايدن أو ترامب، لا بل يقول بعض أعضائها أنهم يكرهون كلا المرشحين، وأن هناك نسبة من الناخبين في هذه الشريحة قد يقررون في اللحظة الأخيرة أنهم سيبقون في منازلهم يوم الانتخابات لأن كراهيتهم لبايدن وترامب لن تسمح لهم باختبار أحد المرشحين، ولذلك فإن بقائهم في بيوتهم هو تصويت ضد المرشحين معاً. قد يرى العديد أن هذا الموقف عبثي، وهو قد يكون كذلك، ولكن هذا الواقع لن يمنع هؤلاء من التصويت ضد بايدن وترامب من خلال بقائهم في منازلهم.
بدأ الرئيس بايدن باستخدام قرار تجريم الرئيس السابق ترامب ليعزز من حججه القائلة بأن ترامب لا يبالي بالدستور، وأنه سيقوض المؤسسات الديموقراطية في البلاد، ويعمق من مشاعر العداء للنظام القضائي الأميركي، وحتى شيطنة أجهزة الأمن التي كان الجمهوريون تقليدياً يتغنون بأهميتها، مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي (الإف بي آي) وغيرها. إضافة إلى القول أن ترامب سيعزز علاقات الولايات المتحدة الدولية مع الأنظمة الأوتوقراطية على حساب الأنظمة الديموقراطية والمنظمات الدولية، التي عززت القيادة الأميركية في العالم مثل حلف الناتو وغيرها. وهذا ما حمله معه بايدن إلى فرنسا خلال الاحتفال بالذكرى الثمانين لغزو الحلفاء لفرنسا عبر الانزال العسكري التاريخي على شواطئ نورماندي في فرنسا لتحرير القارة الأوروبية من الاحتلال النازي، حين ذّكر مستمعيه أن الأنظمة الديموقراطية الحالية تواجه تحديات الأنظمة الأوتوقراطية، وأن صيانة العملية الديموقراطية تتطلب يقظة دائمة، والتصدي لأعداء القيم الديموقراطية.
وفي اللحظات القليلة التي لا يتحدث فيها دونالد ترامب عن حياته كسياسي مضطهد، أو عن شكاويه الشخصية، سوف يركز في طروحاته على ما يعتبره ضعف الرئيس بايدن الجسدي والذهني، وبأنه في حال عودته إلى البيت الأبيض سوف يعيد للولايات المتحدة مكانتها القيادية في العالم. ولكن بما أن معظم المراقبين يتوقعون معركة انتخابية بنتائج متقاربة للغاية، فإن الاستياء من سياسة بايدن تجاه الاجتياح الإسرائيلي لغزة، قد يدفع بأقلية ديموقراطية لمقاطعة بايدن، مقابل أقلية جمهورية لا يمكن أن تقبل بترامب لأسباب أخلاقية وسياسية قد تقرر مقاطعة ترامب، وهذا يعني أن أقلية من الناخبين في الحزبين قد تحسم نتائج هذه الحملة الانتخابية الأكثر غرابة منذ أكثر من نصف قرن.