ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
بعد مفاوضات سريعة بين واشنطن وأنقرة فرضتها الحشود العسكرية التركية على الحدود السورية وتهديد الرئيس التركي طيب رجب أردوغان بغزو سوريا، توصل الضباط العسكريون الذين اجتمعوا في وزارة الدفاع التركية إلى اتفاق لإنشاء “مركز عمليات مشترك”، في سياق اقامة وإدارة منطقة آمنة في شمال شرق سوريا يديرها الطرفان. وتضمن الاتفاق موافقة الولايات المتحدة على التطبيق العاجل “لاجراءات أولية لمعالجة اهتمامات تركيا الأمنية”، ولكن الاتفاق لم يتطرق إلى طبيعة هذه الإجراءات. وتضمن الاتفاق بندا عاما يشير إلى أن المنطقة الآمنة سوف تتحول إلى ما تسميه تركيا “ممر السلام” على أن تبذل كل الجهود الممكنة ” بحيث يعود النازحون السوريون إلى بلدهم”.
نمط ابتزاز تركي
القراءة الأولية للاتفاق تبين انه تم تفادي اجتياح تركي ثالث للأراضي السورية بعد اجتياحي 2016 و2018 ، على الأقل في المدى المنظور. السرعة الملحة التي تعاملت بها وزارة الدفاع الأمريكية مع التهديدات التركية باقتراب موعد اجتياحها للاراضي السورية، يؤكد مرة أخرى نجاح هذا النمط التركي في الضغط على الولايات المتحدة، بما في ذلك قبول بعض الأولويات التركية، بدءا من مفهوم اقامة منطقة آمنة في دولة ثالثة، وحتى قبول مفهوم “ممر السلام”. مبدئيا، العمل على مساعدة اللاجئين السوريين في تركيا على العودة إلى بلادهم هو هدف ايجابي، ولكن صياغته بهذه الطريقة المبهمة، يمكن أن يفسر من قبل تركيا، على أنه ضوء أخضر لنقل لاجئين سوريين إلى المنطقة الآمنة، في حال اقامتها واسكانهم في أراض يسكنها الأكراد منذ زمن. تركيا فعلت ذلك على نطاق محدود في المناطق السورية التي تسيطر عليها. وكانت السلطات التركية خلال الصيف قد اعتقلت المئات من اللاجئين والناشطين السوريين ورحلتهم إلى شمال سوريا، على خلفية ازدياد مشاعر العداء للاجئين السوريين الذي يزيد عددهم عن ثلاثة ملايين في تركيا، وخاصة خلال الحملة الانتخابية الأخيرة والتي صاحبها اعتداءات ضد المحلات التجارية السورية في اسطنبول.
المسألة الخلافية الرئيسية التي لم يحسمها الاتفاق الأولي هي عمق المنطقة الآمنة، التي تفضّل تركيا أن تكون هي لوحدها مسؤولة عن ضبطها، ولكنها قبلت بوجود أمريكي عسكري محدود لتسيير دوريات مشتركة في المنطقة التي ستنسحب منها قوات الحماية الشعبية الكردية، التي تصنفها تركيا تنظيما إرهابيا تعتبره امتدادا لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا. ويقول المسؤولون الأتراك إنهم يريدون احتلال أراض سوريا بعمق 20 ميلا، وبطول 87 ميلا. ولكن واشنطن اقترحت أن يكون عمق المنطقة الآمنة حوالي 9 أميال، وسارعت أنقرة إلى رفض الاقتراح الأمريكي، وهذا ما يفسر غياب أي إشارة إلى عمق المنطقة الآمنة في الاتفاق الأخير. ويحذّر حلفاء واشنطن من أكراد وعرب في قوات سوريا الديمقراطية من أن العالم سوف يعرف في أي وقت فرضت تركيا تاريخ بداية المنطقة الآمنة، ولكن لن يعرف أحد تاريخ نهايتها لأن تركيا، وفقا للمعلومات المتوفرة حتى الآن، أقنعت الولايات المتحدة بالموافقة على أن يكون “الانتشار” التركي العسكري في شمال سوريا مفتوحا. ويتذّكر حلفاء واشنطن في سوريا أن آخر مرة “زار” فيها العثمانيون الأتراك سوريا وسائر شرق المتوسط، في بداية القرن السادس عشر، بقوا فيها أربعمئة سنة.
مكالمة هاتفية بين ترامب وأردوغان
خلال الخريف الماضي افتعلت تركيا أزمة مماثلة وهددت باجتياح أراضي سورية تقع شرق نهر الفرات، وتسببت باشتباكات مع القوات الكردية. وفي ديسمبر – كانون الأول الثاني فاجأ الرئيس ترامب كبار المسؤولين الامنيين في حكومته، وكذلك حلفائه في قوات سوريا الديموقراطية من أكراد وعرب، حين اعلن عن رغبته بسحب القوات الاميركية من سوريا خلال فترة وجيزة، بعد مكالمة هاتفية مع الرئيس أردوغان. وساهمت هذه التطورات في التعجيل باستقالة وزير الدفاع آنذاك جيمس ماتيس. وخلال الأيام المتوترة للغاية التي سبقت الاتفاق الأخير حين ازدادت الحشود العسكرية التركية وأكدت الاستخبارات الأمريكية أن تركيا بالفعل ستجتاح الحدود، قال وزير الدفاع الجديد مارك أسبر خلال زيارته لليابان إن الولايات المتحدة لن تتخلى عن حلفائها الأكراد، وأضاف أن أي إجراء عسكري تركي أحادي الجانب ضد حلفاء واشنطن في سوريا “لن يكون مقبولا”. واستدرك بأن المفاوضات مستمرة للتوصل إلى اتفاق لمعالجة مصالح تركيا الأمنية. ولكن أسبر لم يقل إن القوات الأمريكية سوف توفر الحماية للأكراد في حال اجتياح القوات التركية لمناطقهم.
ويعتبر التعاون العسكري بين القوات الأمريكية وقوات سوريا الديمقراطية ضد قوات تنظيم “الدولة الإسلامية” من أفضل الإنجازات العسكرية الأمريكية في المنطقة منذ بداية القرن الحالي. وكانت هذه القوات الحليفة رأس الحربة في الحرب البرية التي دمرت قوات “الدولة الإسلامية” وحررت المدن والبلدات السورية ومن بينها مدينة الرقة “عاصمة” الخلافة الإسلامية” في سوريا. ومع أن القوات الخاصة الأمريكية المنتشرة في سوريا لم يزيد عديدها عن 2500 عنصر، (العدد الحالي لا يزيد عن ألف عنصر) إلا أن وجودها في شمال شرق سوريا كان رادعا لقوات النظام السوري وحلفائه الإيرانيين والروس. وفي مايو أيار 2018 صدت قوة أمريكية مؤلفة من 40 عنصرا من القوات الخاصة هجوما في شرق سوريا شنه أئتلاف من جنود نظام الأسد وعناصر من المرتزقة الروسية، تكبدت فيها القوات المهاجمة ما بين 200 و300 قتيل.
لا يعني القضاء على القوات النظامية لتنظيم “الدولة الإسلامية” نهاية القدرات الإرهابية لعناصر هذا التنظيم الذين ينشطون تحت الأرض الآن في مناطق مختلفة في سوريا بما في ذلك شرق نهر الفرات. وهذا من بين أسباب استمرار التحالف بين الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية. وتسيطر هذه القوات على حوالي 10 آلاف أسير من عناصر “الدولة الإسلامية” أكثريتهم من سوريا والعراق، ولكن حوالي ألفين منهم جاؤوا من دول عديدة من بينها دول أوروبية. وعندما كان الأتراك يهددون باقتحام الأراضي السورية، ركزت قوات سوريا الديمقراطية على تعزيز دفاعاتها، وأبلغت القوات الأمريكية بأنه في حال بدأ الاجتياح التركي فإن قواتها لن تكون قادرة على السيطرة على أماكن احتجاز مقاتلي “الدولة الإسلامية” خاصة وأن هذه المراكز ليست سجون بالمعنى التقليدي بل مبان عامة مثل المدارس وغيرها. وفي حال هروب الآلاف أو المئات من سجناء “الدولة الإسلامية” فإن ذلك سيخلق حالة رعب في بعض العواصم الأوروبية.
اتفاق المنطقة الآمنة لم ينه الخلافات بين واشنطن وأنقرة
قال مسؤول أمريكي بارز مطلع على مضمون المفاوضات الأمريكية-التركية، في حوار خاص إن الرئيس أردوغان افتعل الأزمة الأخيرة، للتعويض عن انحسار شعبيته ونفوذه وخاصة في أعقاب خسائره الانتخابية المحرجة، وللضغط على الولايات المتحدة لكي لا تفرض على تركيا عقوبات اقتصادية بسبب شرائها لمنظومة صاروخية روسية – وهو ما يتناقض مع مسؤوليات تركيا وواجباتها كعضو في حلف شمال الأطلسي – (الناتو). ويضيف المسؤول أن أردوغان يريد أن يقنع الرئيس ترامب بأن تراجعه عن اجتياح سوريا والتوصل إلى اتفاق حول المنطقة الأمنية، هو تنازل تركي هام، يجب أن يقابله تنازل مماثل من الرئيس ترامب يتمثل بالتراجع عن قرار إخراج تركيا من برنامج تطوير طائرة أف-35 .
ويتزامن الاتفاق حول المنطقة الأمنية، مع ارتفاع الأصوات في الكونغرس، من الحزبين الديمقراطي والجمهوري لفرض سلة من العقوبات على تركيا بسبب منظومة الصواريخ. وحتى الآن لا يزال الرئيس ترامب المسؤول الوحيد المتردد في فرض هذه العقوبات لأنه يريد الحفاظ على “صداقته” مع أردوغان، ولأنه لم يكن يرغب بتهديد فرص التوصل إلى اتفاق حول المنطقة الأمنية. بعض حلفاء ترامب في الكونغرس مثل السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام دعوا إلى تأجيل فرض العقوبات، خاصة إذا لم “تشغل” تركيا منظومة الصواريخ. ولكن حتى في حال قرر ترامب تأجيل فرض هذه العقوبات التي يتطلبها القانون، فإنه لن يستطيع تفاديها لوقت طويل. وهذا يعني أن العلاقات الأمريكية-التركية التي كانت صلبة ومتينة منذ دخول تركيا إلى حلف الناتو، مع بعض الاستثناءات ( حين فرضت واشنطن عقوبات عسكرية على تركيا في أعقاب غزوهم لشمال قبرص في 1974) مع أنها تدهورت في السنوات الأخيرة خلال ولاية الرئيس باراك أوباما بسبب سلوك أردوغان الاوتوقراطي وقمعه للحريات السياسية والاعلامية، وتعاونه العسكري مع روسيا، هذه العلاقات سوف تزداد تفاقما. وحتى الاتفاق الأخير حول المنطقة الآمنة، سيحتاج إلى مفاوضات إضافية، ولا يوجد هناك أي ضمانات من أنه سيطبق بجدية، أو أن تركيا لن تستغله للضغط أكثر على واشنطن وخاصة إذا فرض الكونغرس عقوبات محرجة لأردوغان بسبب الصفقة الروسية.
معضلة حلفاء واشنطن في سوريا
الرئيس ترامب ينظر الى الانتشار الأمريكي في أفغانستان والشرق الأوسط من منظور انتخابي وسياسي داخلي محض. وهذا يفسر استعجاله للتوصل إلى اتفاق مع حركة طالبان يسمح له بتخفيض عديد القوات الأمريكية في أفغانستان بحوالي النصف، كما أنه يرغب بتخفيف حجم الوجود العسكري في العراق وسوريا. ولكن بقاء الخلايا السرية لتنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا، وفي غياب أي حل سياسي للازمة السورية، سوف تبقى هناك أصوات نافذة في واشنطن في الحكومة (وزارة الدفاع وأجهزة الاستخبارات) وفي الكونغرس تطالب ببقاء وجود عسكري محدود في سوريا لردع مختلف القوى ومن بينها تركيا، ما يعني أن وزارة الدفاع سوف تحاول لوقت طويل موازنة علاقاتها مع الحليف في الناتو يزداد تصلبا وتهورا، ولكن وزارة الدفاع لا تريده خارج (الناتو)، وبين حليف حارب معها وضحى معها في الحرب ضد “الدولة الإسلامية”. الضغوط التي تعرض لها ولا يزال يتعرض لها حلفاء واشنطن في شمال شرق سوريا في الأشهر الماضية أظهرت وجود تنسيق غير مباشر بين تركيا ونظام الأسد وحتى إرهابيي “الدولة الإسلامية” بدا واضحا من احراق المحاصيل الزراعية في المناطق الكردية، وعمليات التخريب والإرهاب المستمرة ، وقصف المناطق الكردية من الاراضي التركية. هذه العوامل كلها تفسر صعوبة التخلي الأمريكي عن هذا الحليف من خلال الانسحاب الكامل من سوريا، ما سيعرض قوات سوريا الديمقراطية وسكان شرق الفرات إلى انتقام تركيا ونظام الأسد وما تبقى من قوات “الدولة الإسلامية”. ولكن القرارات السياسية والأمنية في واشنطن في حقبة ترامب، لا تنطبق عليها الاعتبارات والاعراف التقليدية، أي دراسة الخيارات والقرارات الحساسة من قبل الأجهزة المختصة ومناقشتها بالتفصيل في مجلس الأمن القومي، قبل أن يحسم الرئيس موقفه النهائي منها استنادا إلى نصائح مستشاريه. وتدرك المعارضة السورية المتحالفة مع الولايات المتحدة، أكثر من غيرها، واستنادا إلى تجاربها مع الرئيس ترامب، أنها قد تستيقظ يوما وتجد نفسها وحدها في مواجهة أعدائها الكثر.