اختيار المرشح الديموقراطي لمنصب الرئاسة جوزيف بايدن لعضوة مجلس الشيوخ كامالا هاريس (ديموقراطية عن ولاية كاليفورنيا) لمنصب نائب الرئيس هو قرار تاريخي، لأنها المرة الاولى التي يتم فيها ترشيح امرأة من أصول أفريقية وهندية لمثل هذا المنصب الرفيع، مع ما يعنيه ذلك، في حال انتخابها، من وضعها على طريق الترشح لمنصب الرئاسة لاحقاً.
بايدن، الذي سيبدأ في نوفمبر المقبل سنته الثامنة والسبعين، فعل ما يفعله عادة المرشحون للرئاسة عند اختيارهم لنوابهم، الموازنة في مجالات السنّ والجغرافيا، وأحياناً الأيديولوجية. هاريس تبلغ من العمر 55 سنة، وهي تمثل أكبر ولاية في الغرب الأمريكي، مقابل ولاية بايدن، ديلاوير، الصغيرة على الساحل الشرقي. أيديولوجياً، تصف هاريس نفسها بأنها “تقدمية”، ولكن معظم مواقفها تضعها في خانة “المعتدلين”، وإن وضعها المراقبون على يسار بايدن، أبن المؤسسة الديموقراطية التقليدية. هاريس هي الأخرى إبنة المؤسسة الديموقراطية التقليدية.
قصة هاريس هي قصة نجاح مهاجرين إلى الولايات المتحدة. والدها، دونالد هاريس، هاجر من جامايكا إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراساته العليا، ليصبح لاحقاً أستاذاً لمادة الاقتصاد في جامعة ستانفورد في كاليفورنيا. والدتها، شيامالا غوبالان، هاجرت من الهند لتحصيل شهادة الدكتوراه في الطب. هاريس دائما تذّكر ناخبيها ومستمعيها كيف أن والدها وأمها التقيا وعززا علاقاتهما خلال مشاركتهما في نشاطات وتظاهرات حركة الحقوق المدنية في ستينات القرن الماضي. هاريس هي ثاني امرأة من أصل أفريقي تنتخب لمجلس الشيوخ، وأول امرأة من أصل هندي تنتخب للمجلس، وأول امرأة تنتخب لمنصب المدعي العام لولاية كاليفورنيا. صنعت هاريس التاريخ قبل أن يختارها بايدن نائبة له.
عندما ألزم بايدن نفسه باختيار امرأة لمنصب نائب الرئيس في منتصف مارس الماضي، لم تكن هاريس في طليعة المرشحات لأكثر من سبب، من بينها المواجهة بينها وبين بايدن في بداية المناظرات الانتخابية، حين انتقدت ببعض الحدة مواقفه السابقة المتعلقة بدمج التلاميذ البيض والسود في الصفوف الدراسية خلال سبعينات القرن الماضي، وهي قضية أثارت الكثير من الجدل آنذاك. ولكن فرص هاريس بدأت بالتحسن بعد إعلانها عن دعمها لبايدن في مواجهته ضد المرشح التقدمي بيرني ساندرز. ولكن بعد جريمة قتل جورج فلويد الأميركي من أصل افريقي من قبل شرطي أبيض، وانفجار الاحتجاجات الشعبية في معظم المدن الأميركية، والتي استمرت بقوة وزخم لأسابيع، ولا تزال مستمرة، وإن بمستويات أدنى، حتى الآن، وبعد بروز الدور القوي لحركة “أرواح السود لها قيمة”، تغيرت طبيعة المشهد الانتخابي الديموقراطي جذرياً.
بدأ سياسيون ديموقراطيون من أصل أفريقي أو من الليبراليين والتقدميين يدعون إلى اختيار امرأة من أصل افريقي. وهو موقف دعمه العديدون من المتظاهرين. وكلما لجأ الرئيس ترامب إلى التلويح بطروحات كانت تفسر على أنها متعصبة أو عنصرية ضد المتظاهرين، ازدادت الدعوات لاختيار امرأة من أصول افريقية للرد على طروحات ترامب، وللتأكيد بأن الحزب الديموقراطي يريد أن تعكس لائحة المرشحين الديموقراطيين للبيت الابيض وللكونغرس، والتنوع العرقي والاجتماعي الموجود في المجتمع الأميركي.
المرشح بايدن نفسه أشار علناً إلى اهمية اختيار امرأة من أصل افريقي. التركيز على النساء من أصل أفريقي أمر هام للحزب الديموقراطي، لأن هذه الشريحة الاجتماعية – النساء الأفارقة الأصل – يمثلون ربما الشريحة الأكثر ولاءً للحزب، وهي الشريحة التي تقبل على التصويت للرئيس ونائبه بنسب عالية وحماس معروفين.
وفي هذا السياق، ينبغي ان نذكّر بأن الحزب الديموقراطي يعاني منذ عقود من مشكلة تخلي الناخبين البيض عنه وخاصة الرجال. بدأ هذا النزيف في منتصف ستينات القرن الماضي، حين وقّع الرئيس ليندون جونسون على قانون ضمان الحقوق المدنية في 1964 وقانون حق التصويت في 1965، وهي قوانين مصممة لمنع السلطات المحلية، وخاصة في الولايات الجنوبية، من استخدام الأساليب البيروقراطية والإدارية لمنع معظم الناخبين من أصل افريقي من ممارسة حقوقهم الدستورية.
لم يحدث أن فاز مرشح ديموقراطي لمنصب الرئاسة بأغلبية أصوات البيض منذ عقود. الرئيس الأسبق بيل كلينتون فاز بـ 49٪ من أصوات البيض في 1996. نائبه آل غور فاز بنسبة 43٪ من أصوات البيض في انتخابات 2000. المرشح جون كيري فاز بـ 41٪ من أصوات البيض في 2004، بينما فاز باراك أوباما بـ 39٪ من أصوات البيض في 2012، وهي النسبة ذاتها التي فازت بها هيلاري كلينتون في 2016. ولو لم يصوت الأميركيون من أصل أفريقي بكثافة كبيرة لأوباما لما كان قد فاز بالرئاسة.
هذه الحقائق تفسر تركيز الحزب الديموقراطي على أصوات ائتلاف من الأقليات، الأميركيون من أصل أفريقي والناخبين من أصول أميركية-لاتينية، وغيرهم من الأقليات. وهذا يعني أن فوز لائحة بايدن–هاريس يفترض أن يصوت الأميركيون من أصل أفريقي وغيرهم من الاقليات بنسب عالية مماثلة لتلك التي انتخبت أوباما، إذا كان لبايدن أن يدخل إلى البيت الأبيض كرئيس بعد ترشحه للمنصب ثلاث مرات.
قوبل اختيار هاريس بترحيب كبير من مختلف الشرائح الاجتماعية والاثنية التي تمثل الائتلاف الديموقراطي، وإن كان التقدميون يشعرون ببعض الإحباط، لأن هاريس لم تكن من بين أبرز المرشحات بالنسبة لهم. أنصار المرشح السابق بيرني ساندرز، وغيرهم من التقدميين، كانوا يفضلون المرشحة السابقة السناتور اليزابيث وارن، بسبب مواقفها التقدمية الواضحة والقوية. وقوبل اختيار بايدن لهاريس بترحيب كبير من مختلف الشرائح التي تمثل الائتلاف الديموقراطي. ولكن بعض أقطاب التقدميين، بمن فيهم بعض أنصار ساندرز، سارعوا للترحيب باختيار هاريس ولكن بتحفظ، وهم فعلوا ذلك باسم الحفاظ على وحدة الحزب، وضرورة عدم التخلي عن الهدف الرئيسي للديموقراطيين اليوم، وهو حرمان الرئيس ترامب من الفوز بولاية ثانية.
المقربون من حملة بايدن يقولون إن هاريس “تكمّل” بايدن. صحيح أنها لن تجلب له ولايتها، كاليفورنيا، لأن هذه الولاية موجودة تقليديا في المعسكر الديموقراطي. ولكن هاريس، سوف تعبئ الأميركيين من أصل افريقي، وهي التي تعرّف نفسها بانها امرأة سوداء، على الرغم من أن بعض منتقديها يشيرون إلى خلفيتها الهندية ووالدها الجمايكي، ليشككوا بانتمائها للأميركيين من أصل أفريقي. كما ستعبئ قسماً من الجالية الهندية-الأميركية ذات التعليم والدخل العاليين، على الرغم من أن الاتجاه العام داخل هذه الجالية هو اتجاه محافظ.
وبينما يفتقر بايدن للفصاحة والطلاقة اللغوية، تتميز هاريس ببلاغتها وخبرتها، التي شحذتها خلال المبارزات اللغوية التي كانت تجد نفسها فيها، من خبراتها كمدعية في كاليفورنيا، ولاحقاً عضويتها في عدد من لجان مجلس الشيوخ، وأبرزها اللجنة القضائية، حيث استجوبت وزير العدل وليام بار بفعالية وكأنها مدع عام يرافع في محكمة. وهناك من يتخوف أو يتوقع أن يسطع نجم هاريس ويطغى على جوزيف بايدن.
على الرغم من أن سجل هاريس في مجلس الشيوخ لا يتعدى أربعة سنوات، إلا أن هذه الفترة تعطينا فكرة واضحة بشأن مواقفها من قضايا ونزاعات منطقة الشرق الأوسط. تؤيد هاريس، مثلها مثل المرشح بايدن، سياسات اسرائيل بشكل عام، وتحديداً تسليحها لكي تحافظ على تفوقها العسكري في المنطقة، بما في ذلك ضمان توفير 38 مليار دولار لإسرائيل خلال عقد من الزمن، وفقا لمذكرة تفاهم وقعت بين اسرائيل والولايات المتحدة في سبتمبر 2016 خلال الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما. هاريس أعربت عن دعمها هذا الأمر في رسالة لترامب قبل أشهر. ولكن هاريس، مثلها مثل المرشح بايدن وأعضاء ديموقراطيين في مجلس الشيوخ، أعربت عن معارضتها لضم اسرائيل لأراضٍ جديدة في الضفة الغربية.
في أعقاب جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية في اسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018، انضمت هاريس إلى زملائها الديموقراطيين في ادانة السعودية، ومطالبة إدارة الرئيس ترامب بتوفير الحقائق المحيطة بقتله. وفي هذا السياق قامت برعاية مشروع قرار في مجلس الشيوخ يطالب أجهزة الاستخبارات الأميركية بالكشف عن حقائق الجريمة. وفي 2019، صوتت هاريس لصالح مشروع قرار لإنهاء الدعم الأميركي العسكري للائتلاف العسكري، الذي تقوده السعودية في حرب اليمن، ومنع مبيعات الأسلحة للسعودية، وهي مواقف أيدها بايدن. ومع أن الكونغرس صوّت على هذه القرارات، إلا أن الرئيس ترامب استخدم حق النقض (الفيتو) لمنع تطبيقها. استخدمت هاريس لغة قوية ضد انتهاكات حقوق الانسان في السعودية ومقتل “آلاف الأطفال” في اليمن في تصريحاتها وتغريداتها. ولكنها أيدت استمرار التعاون والتنسيق بين الولايات المتحدة والسعودية في مجال مكافحة الارهاب. بالإضافة إلى ذلك، انتقدت السناتور هاريس الرئيس ترامب بقوة في 2018 في اعقاب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، الموقع بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد في 2015، خلال ادارة الرئيس أوباما ونائبه بايدن، ورأت أن قرار ترامب هو انتهاك للاتفاق “ويلحق الأضرار بمصلحة الأمن القومي ويعزلنا عن اصدقائنا المقربين”.
يتوقع المقربون من حملة بايدن أن يسعى، في حال انتخابه، لفتح الاتصالات المباشرة مع إيران، لمناقشة العقوبات التي فرضها الرئيس ترامب، واحتمال إلغائها، أو قسماً منها، وربما العودة لاستئناف المفاوضات النووية مع طهران، وفي الوقت ذاته تخفيض الانتشار الأميركي العسكري في منطقة الخليج. السناتور هاريس سوف تشجع مثل هذا التوجه.
بعد دقائق من الإعلان عن اختيار كامالا هاريس، سارع الرئيس ترامب إلى استخدام الكلمة المفضلة لديه، والتي يستخدمها لوصف كل امرأة يختلف معها: إنها امرأة كريهة.