المواجهة الثانية بين الرئيس جوزيف بايدن، والرئيس السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 أصبحت رسمية، بعد حصول كل منهما على العدد المطلوب من المندوبين لاختيار مرشح كل حزب، بعد الانتخابات التمهيدية يوم الثلاثاء في ولايات جورجيا وميسيسبي وواشنطن. يحتاج المرشح الديموقراطي إلى 1968 مندوباً للحصول على ترشيح حزبه في المؤتمر الوطني للحزب في الصيف، بينما يحتاج المرشح الجمهوري إلى 1215 مندوباً. وبعد فوزهما الساحق في انتخابات ما يعرف “بالثلاثاء الكبير”، اضطرت المنافسة الوحيدة لدونالد ترامب، حاكمة ولاية ساوث كارولينا السابق نيكي هايلي إلى الانسحاب من السباق، بينما انسحب النائب الديموقراطي دين فيليبس من السباق الديموقراطي.
هذه التطورات أكدت ما يتخوف منه ملايين الناخبين من مختلف الخلفيات السياسية والاجتماعية وفقاً لاستطلاعات الرأي، أي اقتراب البلاد من جولة ثانية بين بايدن وترامب، والتي ستضع أكثر مرشحين متقدمين في السن في تاريخ البلاد في مواجهة سياسية وأيديولوجية وشخصية، هناك إجماع بأنها ستكون شرسة للغاية. مواقف كلا المرشحين خلال الأسابيع والأيام الماضية تبين أنهما سيعتمدان أسلوب “الأرض المحروقة” في الأشهر المتبقية من السباق الطويل إلى البيت الأبيض لحسم الصراع بينهما، وبين رؤيتيهما المتناقضتين لمستقبل الولايات المتحدة. توضح استطلاعات الرأي في هذا الوقت المبكر من السباق أن شريحة هامة من الناخبين من مختلف الخلفيات الاجتماعية والسياسية تتحفظ على السن المتقدم لكلا المرشحين، وخاصة الرئيس بايدن، الذي سيكون في الثانية والثمانين من العمر إذا أُعيد انتخابه لولاية ثانية. وهناك اجماع بين الناخبين على أن هذا الموسم الانتخابي يجري وسط أجواء سياسية وأيديولوجية متشنجة ونابية مشابهة لتلك الأجواء التي سبقت حدوث زلازل سياسية واجتماعية مدمرة، مثل الحرب الاهلية.
وحتى قبل نتائج الانتخابات التمهيدية في الأسبوعين الماضيين، تصرف بايدن وترامب وكأنهما يخوضان معركة الانتخابات العامة، التي تبدأ تقليدياً بعد المؤتمر الوطني لكل حزب في الصيف، حيث يتم اختيار المرشح رسمياً، واعتماد البرنامج السياسي للحزب. القضايا الخلافية بين المرشحين والحزبين التي ستحسم السباق في الخريف هي التي يناقشها الآن بايدن وترامب في نشاطاتهما الانتخابية الأخيرة، وفي طليعتها الهجرة والوضع الفوضوي على الحدود الجنوبية للبلاد، ومعدلات التضخم التي تنحسر تدريجياً، والتي لم تترجم عملياً بالنسبة للعديد من المستهلكين الأميركيين، وإشكالية حق المرأة بالإجهاض، وفي أي وقت بعد الحمل، وما هو الموقف الذي يجب على الولايات المتحدة أن تعتمده في تعاملها مع الحرب في أوكرانيا.
يتهم ترامب بايدن بالتقاعس في مواجهة ما يسميه وأنصاره “الغزو” الذي تتعرض له البلاد عبر ما يسمونه الحدود المفتوحة مع المكسيك، حيث يقول ترامب أن أول قراراته في حال إعادة انتخابه هو اغلاق الحدود مع المكسيك لوقف “الغزو”. بايدن، الذي توصل حزبه مع أقلية من الجمهوريين في مجلس الشيوخ إلى اتفاق يفرض قيوداً متشددة لحفظ أمن الحدود الجنوبية، ويتعامل بشروط أقسى من السابق مع المهاجرين واللاجئين غير الموثقين، يتهم ترامب بأنه مسؤول عن تخلف مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون في التصديق على قرار مجلس الشيوخ، لحرمان بايدن من انتصار هام خلال المعركة الانتخابية.
وإذا كان الجمهوريون يرون في مسألة الهجرة والوضع على الحدود قضية انتخابية لصالحهم، يرى بايدن والديموقراطيون في مسألة حق المرأة بالإجهاض، قضية اجتماعية سوف تجلب إلى الصف الديموقراطي ملايين النساء في الانتخابات الرئاسية. وكانت هذه القضية من أبرز القضايا التي حرمت الجمهوريين من السيطرة على مجلسي الكونغرس، وبنسب عالية في الانتخابات النصفية في 2022. عودة ترامب إلى البيت الأبيض سوف تؤدي إلى تخلي الولايات المتحدة عن أوكرانيا، لأن الرئيس السابق لا يعارض بالضرورة أهداف روسيا التوسعية، ولا يرى في حلف الناتو ضرورة استراتيجية للولايات المتحدة.
خلال الأشهر الأولى من الانتخابات التمهيدية، رأينا المرشحين يركزون على الولايات الأولى في السباق مثل آيوا ونيوهامبشر وساوث كارولينا، ولاحقاً الولايات الخمسة عشر التي صوتت خلال “الثلاثاء الكبير”، إضافة إلى الولايات الكبيرة سكانياً والغنية بالموارد المالية، مثل كاليفورنيا ونيويورك لتمويل الحملة. ولكن المواجهات والنشاطات الانتخابية الحامية سوف تنتقل في الأشهر المقبلة إلى مجموعة صغيرة نسبياً من الولايات غير المحسومة سلفاً لأي مرشح، والتي تسمى ولايات “ساحات المعارك”، وأبرزها بنسلفانيا وميشيغان وويسكونسن وجورجيا وأريزونا ونيفادا ونورث كارولينا. معظم الولايات مصنفة إما ولايات “حمراء” لأنها تميل تقليدياً للمرشح الجمهوري مثل تكساس وفلوريدا وغيرها من الولايات الجنوبية، أو الولايات المصنفة “زرقاء”، وأبرزها كاليفورنيا ونيويورك ونيوجيرسي وإلينوي وغيرها، التي تميل تقليدياً للمرشح الديموقراطي. ومن المتوقع أن تنفق كل حملة مبالغ مالية ضخمة على الدعايات التلفزيونية والإذاعية، والإعلانات في وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة في ولايات “ساحات المعارك”. وسوف ترسل كل حملة مئات المتطوعين إلى هذه الولايات للقرع على أبواب الناخبين وتوزيع المنشورات، وتعليق صور كل من بايدن وترامب.
خلال انتخابات 2020، فاز الرئيس بايدن بجميع هذه الولايات باستثناء نورث كارولينا. خسارة ترامب آنذاك لولاية جورجيا دفعته للتدخل شخصياً مع المسؤولين عن الانتخابات في تلك الولاية للتلاعب بالنتائج، ما أدى بالمدعية العامة للولاية إلى مقاضاته. ولكن الرئيس بايدن يجد نفسه الآن في وضع حرج في معظم هذه الولايات المتأرجحة، حيث تبين مختلف استطلاعات الرأي أن ترامب متقدم عليه ببضعة نقاط. استطلاعات الرأي على المستوى الوطني تبين نتائج مماثلة. هذه النتائج تعكس استياء الناخبين من الوضع المتأزم على الحدود، وعدم شعور الناخب الأميركي بأن معدلات التضخم قد انحسرت بالفعل، إضافة إلى شكوك العديد من الناخبين من مختلف الخلفيات السياسية بالقدرات الجسدية والذهنية للرئيس بايدن. لكل هذه الأسباب سعى الرئيس بايدن خلال خطابه حول حالة الاتحاد الأسبوع الماضي دحض هذه الشكوك، حيث كان أدائه قوياً وحيوياً بشكل ملحوظ، وإن رأى بعض المراقبين أنه كان مسرحياً بعض الشيء لأن صوته شارف أحياناً على حافة الصراخ.
يواجه الرئيس بايدن سلسلة من التحديات الداخلية والخارجية أبرزت محدودية نفوذه ومكانته، من أهمها الوضع الفوضوي على الحدود الجنوبية مع المكسيك، وما يعتبره العديد من الأميركيين، بمن فيهم شريحة هامة من الديموقراطيين، غزواً من قبل المهاجرين واللاجئين غير الموثقين، إضافة إلى معدلات التضخم التي لا تزال عالية نسبياً، والاستياء المتزايد من قبل ائتلاف من الشباب والأقليات والتقدميين بسبب دعمه القوي لإسرائيل في حربها ضد غزة. هذه الانتقادات ساهمت في اقناع بايدن بالإعلان خلال خطاب “حالة الاتحاد” عن بناء رصيف بحري مؤقت على شواطئ غزة لإيصال الإمدادات الغذائية والطبية لسكان القطاع الذين يشرفون على المجاعة. تصويت أكثر من مئة ألف ناخب ديموقراطي في ولاية ميشيغان “غير ملتزم”، بعد حملة قادها قادة الجالية العربية-الأميركية في الولاية (بالإضافة لعشرات الآلاف من الناخبين في ولايات أخرى) لإظهار استيائهم من دعم بايدن لإسرائيل، هذا الأمر يوضح أن بايدن لا يستطيع أن يجازف بخسارة هذه الولاية المحورية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
في المقابل يواجه ترامب تحديات قانونية لم يحدث أن واجهها في الماضي أي رئيس سابق، حيث يواجه عشرات التهم الجنائية والمدنية في ولايتي جورجيا وفلوريدا ومدينتي نيويورك وواشنطن سوف تستحوذ على معظم وقته خلال الوقت المتبقي في الحملة الانتخابية، ناهيك عن تكاليفها المالية الضخمة، حيث من المتوقع أن يلجأ إلى ميزانية الحزب الجمهوري الانتخابية لتسديدها. انسحاب منافسة ترامب من السباق نيكي هايلي لم يخف حقيقة أنها حصلت في بعض الولايات التي خاضت فيها معركة الانتخابات التمهيدية على ما بين 35 و40 بالمئة من أصوات الناخبين الجمهوريين، أي أن هناك شريحة من الناخبين الجمهوريين، الذين يواصلون البحث عن بديل لترامب.
المنافسة بين بايدن وترامب هي منافسة بين رؤيتين متناقضتين للولايات المتحدة ولمكانتها في العالم. في خطابه حول “حالة الاتحاد” قال الرئيس بايدن، أن “العالم كله يحسد أميركا”، وأنهى خطابه بالقول، “أرى مستقبلاً لجميع الأميركيين. أرى وطناً لجميع الأميركيين. وسوف أبقى دائما رئيساً لجميع الأميركيين لأنني أؤمن بأميركا”. وقبل يومين من خطاب بايدن، قال ترامب لأنصاره أنه في حال انتخابه، “سوف نقوم بترحيل العديد من الناس، لأن بلادنا لا تستطيع الاستمرار كما هي عليه الآن، مدننا تختنق حتى الموت، ولاياتنا تحتضر، وبصراحة بلادنا تموت، وسوف نجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”.
لا يوجد هناك أي قاسم مشترك بين صورة بايدن المشرقة والمتفائلة للولايات المتحدة، وصورة ترامب القاتمة والمتشائمة للوطن ذاته. العالم الخارجي يراقب باهتمام وترقب وقلق هذه المواجهة بين هاتين الرؤيتين المتناقضتين للولايات المتحدة، لأن أميركا التي سيختارها الأميركيون في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل سوف تغير نفسها لما هو أفضل أو أسوأ، وتغير معها العالم.