كانت مقاطعة قطر، التي بدأتها مجموعة من أربع دول في يونيو/حزيران 2017، تحتوي على مزيج معقد من المخاوف والطموحات، التي تتضمن التنافس الخليجي والتنافس بين القوى الإقليمية والانقسامات الأيديولوجية والعداء الشخصي. وقد تم تسهيل المقاطعة عبر الموافقة الأولية، أو حتى التشجيع، من إدارة الرئيس دونالد ترامب، وتم تعضيدها بفعل تعبئة وطنية غير مسبوقة تغذت عليها وسائل التواصل الاجتماعي. ونظراً لهذا التعقيد، فليس من المستغرب أن تكون نهاية هذه المواجهة التي استمرت أربع سنوات قد لقيت ترحيباً غير متكافئ من قبل المسؤولين الرئيسيين. وليس من المستغرب أيضاً أن يتمسك المحللون بتفسيرات متباينة لهذا الانفراج الدبلوماسي.
كانت المملكة العربية السعودية هي التي استهلت هذا الانفراج. وأعلنت أطراف المقاطعة الأخرى – الإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر- صراحة أنها سمحت للسعودية بأخذ زمام المبادرة، وبصراحة، لم تظهر تلك الدول سوى القليل من الحماس لها. ولا عجب، إذ لم تمتثل قطر للإنذار الساحق المكون من 13 نقطة، الذي أصدرته الرباعية- المتمثل في المطالب التي نصت على إغلاق قناة الجزيرة وغيرها من المؤسسات الإخبارية التي تمولها قطر؛ وتقليص التعاون مع إيران؛ وإغلاق القاعدة العسكرية التركية في قطر؛ وإنهاء العلاقات مع الإخوان المسلمين وغيرها من الجماعات الإسلامية؛ ووقف الاتصال بشخصيات المعارضة الخليجية السياسية الداخلية. وفي حين استضاف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية الخاصة بالمصالحة في العلا وتحدث عن حاجة دول الخليج للتعاون في مواجهة إيران، نفى وزير خارجية قطر وجود أي مخطط لتشديد موقفها تجاه طهران، مقترحًا الوساطة بديلاً عن ذلك.
فلماذا إذاً شرعت السعودية بهذا الانفراج الدبلوماسي؟ تشبث معظم المحللين في التوقيت المتزامن مع انتقال الرئاسة الأمريكية إلى إدارة جوزيف بايدن الابن. وإدراكاً منهم للإدارة الأمريكية الجديدة التي تواجههم بخطط جديدة لإعادة الارتباط مع إيران، والمراجعة الناقدة للعلاقات الأمريكية-السعودية من حيث القيم، حرص السعوديون على تقديم أنفسهم كشركاء في حل النزاعات في المنطقة.
ومع ذلك، يبدو أن المبادرة السعودية تذهب أبعد مما هو ظاهر للعيان. فالانفراج مع قطر رافقه عدد من التحركات السعودية الأخرى- دراسة التقليل من التصعيد مع تركيا؛ واستيعاب قيام روسيا ومنتجي النفط الآخرين بتخفيض إنتاج النفط من جانب واحد؛ والإسراع في تسوية الاعتقالات والمحاكمات السياسية، التي أثارت الإدانة في الخارج. كل هذا يشير إلى تراجع في المواقف السياسية التي تم اتخاذها بشكل صاخب مع الكثير من الهتافات الجماهيرية المنادية بالمصالح الوطنية السعودية، وهو ما يشير إلى مرونة جديدة في الوقت الذي تدير فيه السعودية التداعيات الاقتصادية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا.
إن الفهم الكامل لهذا التحول المفاجئ – المشابه تماماً لعملية الشروع في مواجهة قطر نفسها – يتطلب فهماً عميقاً لتقاطع الأهداف المحلية السعودية مع الطموحات الوطنية. والوسيلة لتحقيق هذين الأمرين تكمن في إعادة توجيه ولي العهد للسياسة والمجتمع والاقتصاد في السعودية للتمحور حول الشباب.
التنافس على الشباب السعودي
عندما وضع محمد بن سلمان الأسس التحضيرية لوراثة قيادة المملكة، واجهته معضلة. كانت فُرصته السياسية وأجندته التحويلية تقوم على التعبئة الاقتصادية وإعادة التوجيه الاجتماعي للشباب الحضري بعيداً عن فوائد الريع والقيود الدينية التي أكسبته حتى الآن ولاءً سياسياً. كان هنالك ما يثبت وضوح وجود تعطشٍ لاتجاه جديد في المملكة. في الفترة التي سبقت احتجاجات الربيع العربي في المنطقة، شرع جيل الألفية السعودي المولع بوسائل الإعلام في حركة إصلاحية غير عادية من القاعدة، وانطلقت مجموعات جديدة في الإنتاج الفني والإعلامي وجمعيات في الإصلاح الاجتماعي-السياسي وحملات حقوق المرأة، وتبنت في مجملها بوعي ذاتي أجندة للتغيير بقيادة الشباب. وقد وقع الكثير من تلك القيادات الشبابية، إن لم يكن معظمها، أسرى انتفاضات الربيع العربي، التي دعمتها بشكل واضح وسائل الإعلام المدعومة من قطر.
ولكي يحقق الانتعاش الوطني السعودي، سعى محمد بن سلمان لاستعادة سردية التغيير، وتغليفه بعباءة وطنية، وعزله عن جمعيات الربيع العربي. فأصبحت المقاطعة وما أعقبها من حملات وطنية مناهضة لقطر أمراً محورياً لتحقيق ذلك.
تمركزت الحملة المناهضة لقطر في قلب الحراك الوطني الجديد، الذي كان بمثابة وسيلة للفخر السعودي واختباراً للولاء السياسي. وما بين عشية وضحاها تقريباً، أصبح أي ارتباط مع قطر ووسائل الإعلام التابعة لها – وتوسع ذلك ليشمل ما هو أبعد من الجزيرة، إلى مواقع الانترنت الأخرى الموجهة للشباب ووسائل الإعلام عبر الإنترنت التي كانت تحظى بشعبية لدى جيل الألفية السعودي- ضرباً من ضروب الخيانة. وكانت التلميحات حول العلاقات مع قطر حاضرة في موجات اعتقال الشخصيات الفكرية والإصلاحية المعارضة، التي جرت في سبتمبر/أيلول 2017 ومايو/أيار 2018 وأبريل/نيسان 2019.
أعادت هذه التحركات تشكيل بيئة وسائل الإعلام الاجتماعية الهامة مما كان ذات يوم منتدى عاماً متعدد المحاور إلى توجهٍ أكثر وطنية يطالب بدعمٍ لامحدود للقيادة. وكان لعملية التخلص الفعال من وسائل الإعلام المؤثرة والمدعومة قطرياً أثر في تمهيد الطريق للتوسع في وسائل الإعلام المتمركزة حول السعودية، الأمر الذي وفر للقيادة الوسائل لصياغة ردة الفعل الجماهيرية على زخم التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي يتعرض لها السكان السعوديون بشكل عام.
وقد كان هذا النهج ناجحاً من وجهة نظر القيادة وداعميها. فتم رفض المنتقدين في الداخل لكون آرائهم مستوحاة من الخارج. وتم إلقاء اللوم في إفراط السعودية في النواحي الدينية سابقاً على عدو خارجي. على حد تعبير المفكر البارز ورئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط سابقاً عبد الرحمن الراشد:
“بغياب، أو الأصح بتغييب قطر، نجحت السعودية في تنفيذ كثير من الإصلاحات الاجتماعية، ومحاربة التطرف الديني، ما برهن على أن قطع الارتباط القطري ألغى الأصوات والتيارات المعارضة المستأجرة. كما أثبت أن المجتمع السعودي ناضج ومستعد للتغيير الإيجابي، عندما تتوقف عنه التدخلات الخارجية، وعلى رأسها القطرية.”
المكون العالمي للتحول الداخلي
ساعدت الحملة المناهضة لقطر في جعل محمد بن سلمان مسؤولاً عن البيئة الإعلامية والسياسية، وأوجدت قضية يحتشد لها الكبرياء الوطني. لكن الحملة وتجاوزاتها سببت مشاكل أخرى. فاعتقال وملاحقة المعارضين في الخارج أدى إلى زيادة التوترات مع الحلفاء الغربيين، في حين أثارت الإجراءات المتخذة لتهميش قطر ووسائل الإعلام التابعة لها تحديات قانونية. ومع مرور الوقت، بدأت هذه الأمور في تعريض المشاركة والاستثمار الدوليين الضروريين للتحول، الذي يقوده الشباب، والذي أعطته القيادة الأولوية، للخطر.
يُشار إلى هذه المخاوف من خلال التنازل الوحيد الذي قيل إن الرباعية قد حققته من مشاحناتها مع القطريين: ألا وهو تجميد الدعاوى القضائية الدولية ضد السعودية وحلفائها الخليجيين. ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن قطر وافقت على إسقاط الدعوى التي رفعتها ضد الإمارات أمام محكمة العدل الدولية بدعوى التمييز ضد مواطنيها؛ وقد تم رفض هذه القضية فيما بعد من قبل المحكمة لعدم الاختصاص. والدعاوى القضائية الأكثر أهمية معروضة على منظمة الطيران المدني الدولية، حيث تطعن قطر في القيود المفروضة على مجالها الجوي (حتى وقت قريب) من قبل دول المجموعة الرباعية وتطالب بخمسة مليارات دولار تعويضاً في قضية كان من المتوقع الفصل فيها في عام 2021. وأرجأت قطر الدعوى القضائية لدى منظمة التجارة العالمية ضد دولة الإمارات، وقد كان من المقرر أن يُبت فيها مطلع العام الجاري.
وتوضح قضية أخرى معروضة أمام منظمة التجارة العالمية، وتم الحكم فيها لصالح قطر، إمكانية أن يؤدي هذا التقاضي إلى تعطيل خطط الاستثمار السعودية. كجزء من حملتها ضد الإعلام القطري، حظرت السلطات السعودية قناة beIN الرياضية الحائزة على ترخيصٍ إقليمي ببث الأحداث الرياضية الرئيسية، بما في ذلك بطولات كرة القدم الدولية، التي تحظى بشعبية كبيرة، مثل كأس العالم. وظهر مزود بديل – باسم beoutQمن الواضح أنه جاء للإضرار بالقطريين– وقام بأعمال قرصنة لحقوق البث هذه التي دفعت beIN مقابلها مبالغ طائلة. في عام 2020، قضت منظمة التجارة العالمية بأن السعودية لم تفعل ما يكفي لمنع هذه القرصنة، وأنها بهذا انتهكت القوانين العالمية بشأن الملكية الفكرية. جاء الحكم في الوقت الذي كانت فيه السعودية تنتظر قراراً بشأن شراء فريق الدوري الإنجليزي الممتاز نيوكاسل يونايتد، ما أدى إلى تعطيل الصفقة.
يوضح هذا الحادث معضلة المملكة لكونها تسعى إلى المنافسة في مجالات كانت دول الخليج المجاورة قد ارتادتها بالفعل. وتتنامى استراتيجية قطر في الاستثمار الرياضي الدولي والتطوير منذ قيام قطر بتأسيس الاستثمار الرياضي في عام 2005، وبلغ ذلك ذروته في محاولتها الناجحة، وإن كانت مثيرة للجدل، لاستضافة كأس العالم 2022. إن السعودية تسعى حثيثاً لتطوير ملفها الرياضي الداخلي والدولي الخاص بها، وذلك من أجل مكانتها باعتبارها منطقة طبيعية تجتذب اهتمام الشباب، وتساهم في التركيز الجديد على الصحة العامة، وإيجاد الكبرياء الوطني.
وفي هذه الأثناء، يؤدي التنوع الاقتصادي بشكل تدريجي إلى دخول المملكة في منافسة مباشرة مع دبي والإمارات العربية المتحدة. وقد تم توضيح هذه النقطة خلال منتدى الاستثمار الدولي الأخير في الرياض، حيث بدأ محمد بن سلمان في التودد للشركات الدولية لنقل مقراتها من دبي إلى الرياض من خلال الحوافز الضريبية. وفي حين رحبت أبوظبي بالانفتاح الاجتماعي والاقتصادي الجديد في السعودية لأسباب سياسية، إلا أنه لم يتضح بعد ما إذا كانت الاستثمارات السعودية الضخمة في مجالات مثل السياحة والترفيه -الهادفة إلى إقناع السعوديين بقضاء المزيد من أوقات فراغهم ودخلهم المتاح داخل الوطن- ستحقق ربحاً صافياً إيجابياً للاقتصاد الإماراتي. وسوف يصبح التنافس على السياح الدوليين أيضًا أحد العوامل.
وقد اتخذت هذه المخاوف طابع الضرورة الملحة الجديدة، حيث تعمل جميع هذه البلدان على معالجة خسائرها، وتفكر في المشهد الاقتصادي الجديد بعد الوباء. إن الحاجة إلى تحسين بيئة الأعمال والاستثمار الإقليمية تفرض على دول المنطقة إعادة التفكير، وإعادة حساب تكاليف النزاعات الإقليمية. يتم تشكيل بطولة كأس العالم القادمة التي تستضيفها قطر لتكون بمثابة اختبار حاسم حول ما إذا كانت هذه الدول الطموحة يمكن أن تستفيد بشكل متبادل من هذه المعالم البارزة والجذب الدولي للمنطقة، أم أنها ستستمر في العمل على تضخيم التنافس الاقتصادي والسياسي فيما بينها.
رابطة الشباب العالمية
يتميز التحول السعودي الجديد الذي يوجهه الشباب بطبيعة متناقضة، حيث تتزاوج القومية الحازمة بطبيعتها مع الترويج للمزيد من التواصل العالمي والتوجه أكثر نحو العالمية. يمكن رؤية هذين الجانبين المتكافئين في العديد من مظاهر التنافس مع قطر. في بداية الأزمة، تصاعدت الفوائد السياسية للجانب الأول. أما اليوم، فإن الفوائد الاقتصادية للجانب الأخير هي التي تحتل موقع الصدارة. يرغب السعوديون في أن يُنظر إليهم على أنهم لاعبون في الأسواق العالمية والثقافة، ويرغبون في تعزيز مشاركة الشباب في مجالات جديدة مثل الفن والتكنولوجيا. وهم بحاجة إلى شركاء دوليين للمشاركة – سواء من الداخل أم الخارج – من أجل إنجاح هذه الاستراتيجية. لقد أدت جائحة فيروس كورونا إلى تعريض طريق النجاح المتعثر أصلاً للخطر. وقد يؤدي إنهاء المواجهة مع قطر إلى إزالة عقبة واحدة ذاتية المنشأ.