التحديات الداخلية التي يواجهها الرئيس بايدن وحزبه، والنكسات الأخيرة التي تعرض لها الديموقراطيون، وخاصة سلسلة القرارات التاريخية التي اتخذتها المحكمة العليا، والتي كانت تحظى بتأييد واسع من الناخبين الديموقراطيين، مثل إلغاء حق المرأة بالإجهاض وتسهيل حمل الأسلحة علناً، والخيارات المحدودة للرئيس وحزبه في ضبط الأسعار القياسية للأغذية والمحروقات، خلقت مشاعر وجوم ويأس في أوساط المسؤولين في البيت الأبيض وقادة الحزب الديموقراطي في الكونغرس، ودفعت بعضو ديموقراطي في الكونغرس لوصف البيت الأبيض بأنه سفينة “لا دفة لها، تبحر تائهة ودون أمل”. ديموقراطيون آخرون يتمتعون بمخيلات خلاّقة يتقدمون بأوصاف وصور كارثية أخرى، مثل القول أن البلاد تبدو كقطار يسير بسرعة هائلة على سكة المجهول وفرامله القُرصية معطلة تمامًا.
هذه هي الصورة القاتمة التي تعززها وتؤكدها استطلاعات الرأي وتقويمات المحللين لفرص الديموقراطيين في الحفاظ على سيطرتهم الضعيفة أصلًا على مجلسي الكونغرس في الانتخابات النصفية في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. تقليديًا، يخسر الرئيس الذي يفوز مع حزبه بالبيت الأبيض ومجلسي الكونغرس في الانتخابات الرئاسية، أول امتحان لهم في أول انتخابات نصفية. وهذا ما واجهه الرؤساء بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما. الجمهوريون في ولاية دونالد ترامب خسروا مجلس النواب للديموقراطيين في الانتخابات النصفية. هذه المرة يواجه الديموقراطيون تحديات اقتصادية واجتماعية خطيرة، مثل ارتفاع معدلات الجريمة، ليس فقط الجريمة العادية، بل جرائم القتل الجماعي، التي تعّرف حين يسقط فيها 4 قتلى أو أكثر، وفي الأشهر الستة الأولى من السنة الحالية وصل عدد جرائم القتل الجماعي إلى أكثر من 300 جريمة، لا أحد يتوقع احتوائها أو حلها في أي وقت قريب.
هذا هو العبء الذي حمله معه الرئيس بايدن حين قام قبل اسابيع بجولته الأوروبية للمشاركة في قمة الدول الصناعية السبعة، وفي قمة حلف الناتو، والذي سيحمله مرة أخرى في جولته بعد أيام في منطقة الشرق الأوسط. خصوم وأعداء الولايات المتحدة المعنيين مباشرة بجولته الأوروبية، مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يعولون على خسارة الحزب الديموقراطي لأكثريته البسيطة في مجلسي النواب والشيوخ في الانتخابات النصفية، مع ما يعنيه ذلك من تكبيل الجمهوريين لأيدي الرئيس بايدن داخليًا وخارجيًا، وخلق حالة من الخلل السياسي تستمر حتى انتخابات 2024 على الاقل. خصوم وأعداء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وفي طليعتهم إيران، يعولون على خلل سياسي مماثل في واشنطن ينعكس سلبًا على أصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
معظم التحديات التي يواجهها الرئيس بايدن حاليًا لا توجد حلول سريعة لها، أو أن قدرته في التأثير عليها أو احتوائها محدودة للغاية، وخاصة معدلات التضخم العالية والناتجة إلى حد كبير عن مضاعفات جائحة كورونا، والخلل الذي تسببت به في التجارة والملاحة الدولية، إضافة إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا. قرارا بايدن بالإفراج عن مليون برميل من النفط يوميًا من الاحتياط الاستراتيجي كان له تأثير محدود على تخفيض أسعار المحروقات، كما أن مناشداته للدول المنتجة للنفط، وخاصة السعودية ودولة الإمارات، بزيادة معدلات انتاجها بسرعة لم تنجح في البداية، كما أن التحكم بإنتاج النفط والأسعار العالمية للطاقة هي مسائل لا تحسم بسرعة. وحتى ولو عقد بايدن محادثات ناجحة مع قادة الدول العربية المنتجة للنفط خلال جولته القريبة، فإن أي كميات إضافية من النفط لن تؤد إلى تخفيض أسعار المحروقات للمستهلك الأميركي خلال فصل الصيف، ما يعني أنها لن تؤثر إيجابيا على اتجاهات الناخبين في الانتخابات النصفية في بداية نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. مشاكل بايدن لم يلخصها وصول سعر غالون البنزين إلى أكثر من 5 دولارات، بل الاختفاء المحرج والخطير لحليب الاطفال، بعد إغلاق أحد أهم المصانع لأسباب صحية، ما دفع بالرئيس إلى استخدام الطائرات العسكرية لنقل إمدادات حليب الأطفال الطارئة من أوروبا إلى الأسواق الأميركية.
بعض الناشطين والمخططين الديموقراطيين يلومون بايدن لأن أسلوبه القيادي يتسم بالتردد وتفادي الحسم والمواجهات، وللتدليل على ذلك يشيرون لمعارضته التقليدية للتخلص من آلية التصويت على القرارات الهامة في مجلس الشيوخ بأكثرية من ستين صوتًا من أصل مئة، بدلًا من الأكثرية البسيطة بسبب تمسكه “بتقاليد” مجلس الشيوخ. ولكن بايدن في أعقاب قرار إلغاء حق الاجهاض قال للمرة الأولى أنه لن يعارض التخلص من هذه الآلية مرة واحدة للتصويت على قرار فيدرالي يضمن حق المرأة بالإجهاض. كما يشير هؤلاء إلى أن بايدن يفكر منذ أشهر بإلغاء التعريفات المكلفة التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب على استيراد مئات البضائع الصينية، ما أدى إلى قيام المستوردين الأميركيين بزيادة أسعارها للمستهلك الأميركي، الأمر الذي ساهم في ارتفاع معدلات التضخم. معارضو هذه التعريفات من خبراء اقتصاديين وقيادات الديموقراطيين يقولون أن فرض العقوبات على الصين لسرقتها للملكية الفكرية وغيرها من الاختراعات أو التقنيات المتطورة هو أمر مطلوب ومبرر، إلا أن التعريفات على المنتجات العادية الرخيصة نسبيًا للمستهلك الأميركي هي تعريفات يدفع ثمنها المستهلك الأميركي. وحتى الآن لم يتخذ بايدن قراره بهذا الشأن.
والحقيقة المّرة التي يواجهها بايدن والمرشحين الديموقراطيين هي أن الناخب الأميركي تقليديًا يحمّل الرئيس وحزبه الحاكم (بغض النظر عن شخص الرئيس وحزبه) مسؤولية التضخم، أو انحسار مشاعر الأمن الشخصي، في أعقاب ارتفاع معدلات الجريمة، وتوجيه اللوم إليه حين يطرح على الناخب في استطلاعات الرأي السؤال الحاضر أبدًا: هل برأيك تسير البلاد على الطريق السليم؟
المناخ السائد في البيت الأبيض، في أعقاب النكسات الأخيرة وفقًا للتقارير الصحفية المبنية على تسريبات كثيرة من مصادر موثوقة هو لمسؤولين يعيشون في حالة حصار، وفوضى وتخبط في عملية صنع القرار، كما يتبين من عجز البيت الأبيض عن التقدم برد فعل متماسك يتضمن خيارات وخارطة طريق للديموقراطيين للتعامل مع مضاعفات قرار إلغاء حق المرأة بالإجهاض، على الرغم من أن مسودة قرار المحكمة العليا قد تم تسريبها قبل شهر من الإعلان الرسمي عن القرار.
الديموقراطيون خارج البيت الأبيض لا يوجهون اللوم إلى كبار المسؤولين والمستشارين المحيطين بالرئيس بايدن كما كانوا يفعلون في السابق، بل يتحدثون بشكل متزايد، وإن كان في إيجازات خلفية عن تردد بايدن في اتخاذ القرارات الحاسمة، ويشيرون إلى أنه بدأ يفقد قدرته أو حماسه على مواجهة الجمهوريين واعتماد سلاح الهجوم كأفضل سياسية دفاعية. وفي هذا السياق يتحدث الديموقراطيون بشكل متزايد وبإحباط واضح عن تقدم بايدن في السن مع اقترابه من الثمانين من عمره وقبل أن يكمل النصف الأول من ولايته. وأكثر ما يخشاه ويمقته هؤلاء هو الاصرار العلني لبايدن ولموظفي البيت الأبيض على ترشحه لولاية ثانية في انتخابات 2024 حين يصل إلى سن الثانية والثمانين. ولم يحدث قط في تاريخ الولايات المتحدة أن وصل رئيس أميركي في البيت الأبيض إلى سن الثمانين. وعندما غادر الرئيس الأسبق رونالد ريغان البيت الأبيض بعد نهاية ولايته الثانية في 1988 حين كان في حالة ذهنية متردية (بدايات مرض الأولزهايمر) كان أصغر سنًا من اليوم الذي بدأ فيه بايدن ولايته في مطلع 2021.
مخاوف بعض قادة الحزب الديموقراطي من ترشح بايدن مرة أخرى، هي مخاوف عبرت عنها أكثرية من الأميركيين كما يتبين من استطلاع أجرته مؤخرًا مؤسسة هاريس للاستطلاعات بمشاركة جامعة هارفارد، حيث أعرب 71 بالمئة من الناخبين عن معارضتهم لترشح بايدن مرة ثانية للرئاسة، لأسباب مختلفة من بينها تقدمه في السن أو رغبة منهم بالتغيير. الأمر اللافت والصارخ في الاستطلاع هو أن 30 بالمئة فقط من الناخبين الديموقراطيين قالوا أنهم يمكن أن يصوتوا مرة أخرى لبايدن في 2024. وربما العزاء الوحيد للديموقراطيين هو أن الاستطلاع كشف أيضا أن 61 بالمئة من الناخبين الأميركيين يعارضون انتخاب دونالد ترامب لولاية ثانية. وفي أعقاب المعلومات التي كشفت عنها تحقيقات اللجنة الخاصة في مجلس النواب التي تحقق بتورط ترامب في اقتحام مبنى الكابيتول في السادس من يناير/كانون الثاني 2021، ومن بينها أنه كان يعلم أن مؤيديه المتطرفين كانوا مسلحين، وأنه كان يرغب بالفعل في مرافقتهم في مسيرتهم إلى الكابيتول، برزت مؤشرات جديدة في أوساط الجمهوريين تحذر من إعادة ترشيح ترامب مرة أخرى لمنصب الرئاسة، على الرغم من أن شعبيته في الحزب الجمهوري لا تزال عالية نسبيًا.
المشكلة التي يواجهها الديموقراطيون، وخاصة أولئك الذين يعارضون إعادة ترشيح بايدن، هي أنهم يفتقرون إلى بديل ديموقراطي لأنه لا يوجد في الحزب “ولي عهد” معترف به او مقبول من قيادات الحزب، هذا إذا افترضنا ان بايدن سوف يقرر، لسبب أو لآخر عدم الترشح. تقليديًا في نهاية الولاية الثانية للرئيس يترشح نائب الرئيس للحصول على ترشيح حزبه للرئاسة. ويبين سجل الانتخابات الأميركية أنه منذ خمسينات القرن الماضي، أن كل نائب رئيس ديموقراطي حظي بترشيح حزبه لمنصب الرئاسة (ولكن ليس بالضرورة الفوز بالرئاسة). ولكن معضلة الديموقراطيين هذه المرة هي أن كامالا هاريس نائبة الرئيس بايدن لا تحظى بتأييد كبار قيادات الحزب الديموقراطي في الكونغرس أو في الولايات، كما أن استطلاعات الرأي تبين أن نسبة مؤيدي أدائها في منصبها هي 15 نقطة أقل من نسبة مؤيدي بايدن حين كان نائبًا للرئيس الأسبق أوباما في مثل هذا الوقت من ولايته الأولى، وأقل بحوالي 11 نقطة من نسبة تأييد نائب الرئيس السابق مايك بينس الذي خدم ترامب. وخلال حملتها الانتخابية لمنصب الرئاسة في 2020 تميز أداء هاريس بالتخبط والفوضى ما أدى إلى إنهاء حملتها في وقت مبكر في السباق.
وهذه الحقيقة تعني أنه إذا قرر بايدن عدم الترشح، وقررت هاريس الحصول على ترشيح حزبها ونجحت في ذلك، فإن فرص فوزها في 2024 سوف تكون ضئيلة للغاية لأن نسبة تأييدها خارج أوساط الناخبين الأميركيين من أصل افريقي متدنية. ولكن إذا اضطرت هاريس للانسحاب لسبب أو لأخر أو هزمت في الانتخابات الحزبية، وتم ترشيح مرشح (أبيض) بديل، فإن هذا المرشح سوف يواجه المعضلة التي واجهتها هيلاري كلينتون في انتخابات 2016، أي أن المرشح الديموقراطي لن يحظى بتأييد واسع، وحتمًا لن يحصل على تأييد حماسي عميق من قبل الناخبين الديموقراطيين من أصل أفريقي، الذين يمثلون أهم شريحة انتخابية في الحزب الديموقراطي. أخفاق هيلاري كلينتون في الفوز بالكثافة السكانية السوداء في مدن ديموقراطية تقليديًا، مثل فيلادلفيا وديترويت وميلووكي، هو الذي أدى لخسارتها لانتخابات 2016.
خيارات بايدن وحزبه الديموقراطي، قبل أربعة أشهر من الانتخابات النصفية، أحلاها مرّ. ما يمكن قوله بكثير من الثقة هو أن قدرة الرئيس بايدن والديموقراطيين على وقف تيهان سفينة البيت الأبيض، أو فرملة قطار البلاد المسرع على سكة المجهول سوف تتضاءل باستمرار مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية في 2022 وفي 2024.