في الخامس من فبراير/شباط، أسفرت محادثات السلام التي تقودها الأمم المتحدة بشأن ليبيا عن سلطة تنفيذية، مكلفة بتشكيل حكومة انتقالية وقيادة البلاد إلى الانتخابات في نهاية هذا العام. تواجه الحكومة المؤقتة تحديات كبيرة، ويشكك العديد من الخبراء في قدرتها على التغلب على الانقسامات السياسية داخل البلاد. قد تكون العقبة الكبرى هي التدخل الأجنبي في الصراع الليبي من قوى مثل تركيا والإمارات العربية المتحدة وروسيا. نصت اتفاقية وقف إطلاق النار التي تم التوصل إليها في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020 على ضرورة مغادرة جميع المقاتلين والضباط العسكريين الأجانب الأراضي الليبية بحلول 23 يناير/كانون الثاني، وهو الموعد النهائي الذي جاء وانتهى دون إحراز أي تقدم. وقالت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا بالإنابة، ستيفاني وليامز (Stephanie Williams) إن “التدخل الأجنبي السافر مستمر”. ودعت إدارة الرئيس جوزيف بايدن هذه الدول الثلاث مباشرة إلى وقف تدخلها العسكري في ليبيا والالتزام باتفاقية وقف إطلاق النار. من المرجح أن يتم تحديد موعد جديد للانسحاب، لكن هناك مخاوف من أن هذه القوى الأجنبية ليس لديها مخططات جادة لسحب قواتها من ليبيا، وأن استمرار تدخلها قد يقوض الجهود الليبية لتشكيل حكومة مؤقتة وإجراء الانتخابات في ديسمبر/كانون الأول.
حكومة “الوحدة” الليبية الجديدة
قام الـ 74 عضواً في منتدى الحوار السياسي الليبي، الذي تقوده الأمم المتحدة، والذي عقد في مطلع فبراير/شباط، بانتخاب رئيس للوزراء ومجلس رئاسي مكون من ثلاثة أعضاء لتمثيل المناطق الليبية الثلاث (الشرق والغرب والجنوب) من بين أربع قوائم مرشحين. وكانت النتيجة المفاجئة، اختيار أغلبية أعضاء المنتدى القائمة الثالثة من المرشحين بدلاً من القائمة الرابعة كما كان متوقعاً. ويرجع ذلك على الأرجح إلى توحد الفصائل المختلفة ضد القائمة الرابعة، والتي تضمنت وزير الداخلية صاحب النفوذ في حكومة الوفاق الوطني، المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس، فتحي علي عبد السلام باشاغا، كمرشح لرئاسة الوزراء وعقيلة صالح، الرئيس القوي لمجلس النواب في طبرق بشرق ليبيا لمنصب الرئيس. كان كلا المرشحين قويين ومثيرين للجدل، فواجها، بالتالي، مقاومة داخل فصائلهما وفي جميع أنحاء البلاد. يقول عماد الدين بادي وولفرام لاتشر (Wolfram Lacher) إن الرجلين كانا “على طرفي نقيض في الحرب الأهلية الأخيرة، وكان لهما العديد من الأعداء داخل معسكريهما، وإن تحالفاتهما الانتهازية أبعدت عنهم كثيرين آخرين. فبدلاً من اختيار أطراف لها وزنها من بين الجهات المتحاربة لقيادة حكومة وحدة جديدة، اختار أغلبية المندوبين دعم مجموعة بدت قادرة على جلبهم إلى الحظيرة”.
كان التصويت أيضاً بمثابة توبيخٍ لقوى أجنبية مثل روسيا وتركيا ومصر وفرنسا، والذين كانوا قد فضلوا القائمة الرابعة للمرشحين.
وتضمنت القائمة الثالثة عبد الحميد الدبيبة رئيساً للوزراء، ومحمد المنفي رئيساً لمجلس الرئاسة. الدبيبة رجل أعمال من مصراتة في شمال غرب ليبيا، وقد أثْرَت عائلته خلال عقود من العمل في القطاع العام في عهد الديكتاتور المخلوع معمر القذافي. وتم اختيار الدبيبة من قبل القائد الليبي السابق [القذافي] لإدارة الشركة الليبية للاستثمار والتنمية في عام 2007. وكان المنفي، الذي ينحدر من طبرق، دبلوماسياً ليبياً وعضواً في المؤتمر الوطني الليبي العام، وهو البرلمان الذي سيطر على ليبيا من عام 2012 إلى عام 2014، وكان من المفترض أن يستبدل لاحقاً بمجلس النواب الموحد وحكومة الوفاق الوطني، على النحو المنصوص عليه في الاتفاق السياسي الليبي في ديسمبر/كانون الأول 2015. والعضوان الآخران في مجلس الرئاسة هما موسى الكوني، وهو سياسي من جنوب ليبيا ونائب رئيس الوزراء السابق في حكومة الوفاق الوطني، وعبد الله حسين اللافي، عضو برلمان من الزاوية في غرب ليبيا. تولى هؤلاء الأشخاص الأربعة مناصب قيادية في الحكومات الليبية في فترات مختلفة في الماضي، ومن المعروف أنهم أكثر استقلالية وانفتاحاً على مجموعة واسعة من التحالفات السياسية. ويعتبرون أقل استقطاباً من مرشحين آخرين مثل باشاغا وصالح. ويمثلون مناطق وخلفيات وقناعات سياسية متنوعة، وهو ما قد يعرقل قدرتهم على طرح رؤية سياسية موحدة، وكسب الموافقة المؤسساتية لحكومة الوحدة الجديدة الخاصة بهم. ومع ذلك، فإن هذا الافتقار إلى رؤية سياسية مشتركة يمكن أن يساعد أيضاً في تفسير انجذاب المندوبين الليبيين إليها بشكل كبير.
وتتمثل مهمتهم الآن في تشكيل حكومة مؤقتة، والحصول على موافقة مجلس النواب، المنقسم على نفسه في طبرق شرقي ليبيا. وأعلنت حكومة الشرق، بقيادة رئيس الوزراء عبد الله الثني، عن دعمها المشروط لحكومة الوحدة الجديدة، قائلة إنها سوف تصادق عليها فقط إذا صادق عليها مجلس النواب في شرق البلاد. وسيكون من الصعب تحقيق ذلك لأن مجلس النواب لم يتمكن من تحقيق النصاب القانوني على مدى سنوات عدة، ومن المرجح أن صالح، رئيس مجلس النواب، سوف يعارض حكومة الوحدة التي خسرها. وقد حذر بالفعل من أنه لن يتم التصويت على الثقة ما لم تجتمع حكومة الوحدة في سرت، وحتى يتم “تطهير” طرابلس من الجماعات المسلحة والانشطة الإرهابية المزعومة. ومع ذلك، فإن عملية منتدى الحوار السياسي الليبي ستطرح خياراً ثانيًا للموافقة، بالرجوع إلى أعضائها الـ 74 لتصويتٍ ثانٍ، وهي مهمة من الممكن أيضاً أن تشكل تحديات. لدى رئيس الوزراء المؤقت ومجلس الرئاسة 21 يوماً لكي يشكلوا معاً حكومة مؤقتة، ثم يجب التركيز على التحضير للانتخابات الرئاسية والبرلمانية في الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول. وقد تعهد جميع المرشحين للحكومة الجديدة بعدم الترشح لأي منصب في الانتخابات المقبلة. هناك الكثير من الأشياء ستتوقف على كيفية اصطفاف اللاعبين الرئيسيين الآخرين إلى جانب حكومة الوحدة في الأيام والأشهر المقبلة، وأبرزهم الجنرال خليفة حفتر، الذي لا يزال الجيش الوطني الليبي، التابع له، يسيطر على أغلبية المناطق في شرق ليبيا وجنوبها.
يجادل بعض مراقبي الشأن الليبي بأن رئيس الوزراء والمجلس الرئاسي الجديدين منحازان إلى تركيا وإلى الفصائل الأكثر ميولاً إلى الإسلام في ليبيا. جاء هذا التصور من خلفية الدبيبة كرجل أعمال من مدينة مصراتة الغربية وما لديه من علاقات تجارية مهمة مع تركيا. وعلى الرغم من أنه ليس معروفًا بأن لديه ميولاً أيديولوجية عميقة الجذور، إلا أن المحللين من أمثال محمد الجارح يؤكدون أن تعاملاته التجارية على مر السنين قد أسفرت عن علاقات قوية مع الحكومة التركية. وقيام الدبيبة بإجراء أول مقابلة حصرية له بعد تعيينه على وكالة الأناضول التركية لم يسعف بعض هذه التصورات، حيث أكد مجدداً أن تركيا كانت “صديقاً وحليفاً”. وعلاوة على ذلك، يُنظر إلى المنفي، رغم أنه من شرق ليبيا، على أنه قريب سياسياً من حكومة الوفاق الوطني ولا يحتفظ بعلاقات قوية مع حفتر، ما قد يحفز معسكر حفتر على إثارة المزيد من الاعتراضات على انتماءات أعضاء مجلس الرئاسة.
دعم حكومة الوحدة
يوجد حالياً ما يقدر بنحو 20 ألف مقاتل أجنبي في ليبيا، بمن فيهم المرتزقة الروس والسودانيون (ويذكر أنهم مدعومون بتمويل إماراتي) ومرتزقة سوريون بتمويل تركي وغيرهم. وقالت سفيرة الإمارات لدى الأمم المتحدة، لانا نسيبة، إن الإمارات ترحب “بدعوة مجلس الأمن جميع القوات الأجنبية للانسحاب من ليبيا”. وأكدت مجدداً على أنه “يجب إنهاء التدخل الأجنبي في الصراع الآن”.
بعد فترة وجيزة من هذا البيان الإماراتي، تم اختيار مجلس الرئاسة ورئيس الوزراء، وأعربت الفصائل السياسية الليبية والحكومات الأجنبية عن تأييدها الجماعي، بمن في ذلك المرشحون الليبيون الخاسرون أمثال باشاغا وصالح. وأعربت الإمارات ومصر وروسيا، التي دعمت حفتر طوال الصراع، عن دعمها للمجلس الرئاسي ولرئيس الوزراء، على الرغم من دعمهم للقائمة الرابعة من المرشحين في بداية الأمر. وأعلنت وزارة الخارجية الروسية في اتصال هاتفي لوزير الخارجية سيرغي لافروف مع مجلس الرئاسة الليبي أن “لافروف أكد مجدداً استعداد روسيا للمشاركة البناءة مع الإدارة الانتقالية في ليبيا بهدف التغلب على الأزمة التي طال أمدها في ذلك البلد في أسرع وقت ممكن”. وتحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الدبيبة والمنفي عبر الهاتف مباشرةً بعد التصويت. كما أشاد القادة الأوروبيون والولايات المتحدة أيضاً بمنتدى الحوار السياسي الليبي، وأعربوا عن تفاؤلهم الحذر إزاء إجراء الانتخابات هذا العام. وعلى الرغم من أنه لم يصدر عن حفتر أي بيان عام حتى الآن، إلا أن رويترز ذكرت أن “مقر قيادته العامة قال إنه يرحب بالاتفاق ودعا الجميع للمساعدة في التوصل إلى انتخابات في كانون الأول/ ديسمبر”. وقد التقى حفتر بعد ذلك برئيس مجلس الرئاسة في بنغازي، حيث غرد المنفي بنشر صورة لقائهما على تويتر، ودعا إلى المصالحة، ووعد “بأننا لن نتبع لأي توجهات سياسية”.
هل ستتوقف القوى الأجنبية عن التدخل في ليبيا؟
في حين أن هذه العروض العلنية الداعمة مشجعة، إلا أنه كانت قد صدرت بيانات ووعود مماثلة لدعم جهود السلام والحد من التدخل الأجنبي من قبل. فقد أعلنت الأمم المتحدة أن تركيا والإمارات ومصر وروسيا قد انتهكت جميعاً حظر الأسلحة، الذي فرضته الأمم المتحدة، والذي دعمته هذه الدول علناً. علاوة على ذلك، قام غسان سلامة، المبعوث الخاص السابق للأمم المتحدة إلى ليبيا، بتوجيه اتهام علني لمجلس الأمن بـ “النفاق”، مدعياً أن بعض أعضائه يقوضون بشكل مباشر جهود الأمم المتحدة لإنهاء الحرب.
في التاسع من فبراير/شباط، قال أردوغان إن تركيا ستنسحب من الصراع الليبي إذا انسحبت الدول الأخرى أولاً، بحجة أن وجود قواتها هناك جاء لدعم حكومة الوفاق الوطني، المعترف بها من قبل الأمم المتحدة في طرابلس، وللدفاع عنها ضد هجوم حفتر العسكري ضد الحكومة التي تشكلت في أبريل/نيسان 2019. فنظراً للفجوة بين الخطاب والممارسة طوال الحرب الليبية، فإن الوعود بإنهاء التدخل الأجنبي، التي قدمتها الدول المتورطة في الصراع بشكل كبير، مثل تركيا والإمارات، تُقابل بالتشكيك. يجب أن تكون إجراءات بناء الثقة من بين الخطوات العديدة التي يجب أن تتخذها الفصائل السياسية والعسكرية الليبية، بالإضافة إلى داعميهم الأجانب، إذا كُتب لأحكام وقف إطلاق النار أن تُنفذ بشكل فعال، وإذا كان لحكومة الوحدة أن تحصل على أي فرصة لتجاوز سنوات الحرب الليبية ومأزقها السياسي.
تستطيع الولايات المتحدة والدول الأوروبية الاستمرار في ممارسة الضغوط على هذه القوى الأجنبية لسحب مقاتليها ووقف تدخلها في ليبيا، وهي الاستراتيجية التي تنتهجها على ما يبدو إدارة بايدن الجديدة. ومع ذلك، سوف تضطر الإدارة الأمريكية للمناورة حول العلاقات المتوترة أثناء محاولتها ممارسة نفوذها. فالعلاقة بين الولايات المتحدة والإمارات تواجه تحديات لأن إدارة بايدن تسعى للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وتضغط لإنهاء الحرب اليمنية، وتعزيز حقوق الإنسان والاستقرار الإقليمي. كما أن التوتر يعتري العلاقات الأمريكية مع تركيا وروسيا حالياً. في جلسة تعيينه في يناير/كانون الثاني، ألمح وزير الخارجية أنطوني بلينكن إلى العلاقة المتوترة بشكل متزايد بين الولايات المتحدة وتركيا، بحجة أن تركيا “لا تتصرف كحليف” وأن الإدارة ستراجع احتمال فرض مزيد من العقوبات على أنقرة. كما أشار بلينكن أيضاً إلى أن الإدارة تناقش رداً أمريكياً أكثر صرامة على الإجراءات الروسية التعسفية ضد الاحتجاجات الواسعة النطاق، التي تطالب بالإفراج عن زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني.
هل ستتمكن إدارة بايدن من إرغام الإمارات على تغيير نهجها في ليبيا ووقف دعمها لقوات حفتر بصورة حقيقية؟ هل ستتمكن الولايات المتحدة وأوروبا من الضغط على تركيا، حليفة الناتو، وروسيا، عضو مجلس الأمن، للخروج من ليبيا؟ إذا لم تتوقف القوى الخارجية عن التدخل في الصراع الليبي، وإذا لم يتوحد العمل الليبي على تشكيل حكومة مؤقتة جديدة برؤية سياسية واحدة، تؤيدها فصائل المعارضة السياسية والعسكرية في ليبيا، فمن المرجح أن يعيد التاريخ نفسه. ومع اقتراب البلاد من الذكرى العاشرة للثورة الليبية في 17 فبراير/شباط عام 2011، ودون دعم واسع، من داخل ليبيا وخارجها، هنالك احتمال حقيقي بأن هذه الحكومة الجديدة لن تتمكن من المضي قدماً في الانتخابات وأن الصراع السياسي والعسكري في ليبيا سوف يستمر.