نجح البرلمان العراقي أخيرًا في تحقيق النصاب القانوني في 13 أكتوبر/تشرين الأول، وانتخب عبد اللطيف رشيد رئيسًا جديدًا للعراق، لينهي بذلك الجمود السياسي والقانوني حول الرئاسة والحكومة الجديدة الذي استمر عامًا كاملًا. وأتى انتخاب الرئيس رشيد، الكردي، ليعكس التقسيم العرقي والطائفي، المتفق عليه، للمناصب الرئيسية في فترة ما بعد عام 2003. واستوفى انتخاب الرئيس شرطًا دستوريًا مهمًا، ما سمح ببدء تشكيل الحكومة بشكلٍ رسمي. كلّف الرئيس الجديد، على الفور، رئيس الوزراء المعيّن من قبل الإطار التنسيقي محمد السوداني بتشكيل الحكومة العراقية المقبلة، علمًا أن الدستور يمنح هذا الأخير 30 يومًا لتشكيلها. هذا، وقد تستغرق المفاوضات بين الأحزاب السياسية العراقية بشأن الحكومة الجديدة، وتقاسُم السلطة وغنائم الحكومة الجديدة بعض الوقت. إلا أنه ليس مطلوبًا من رئيس الوزراء تقديم قائمة كاملة بأعضاء حكومته للمصادقة عليها، ما يمنحه هامشًا من المرونة فيما يتعلق بعدم اكتمال تشكيل حكومته بينما تستمر المفاوضات بين الأحزاب حول المناصب الحكومية الأخرى.
الجمود السياسي
وزّعت الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في أكتوبر/تشرين الأول 2021 المقاعد بين أحزاب سياسية متعددة ذات توجهات إيديولوجية وسياسية لا يمكن التوفيق فيما بينها، مع غياب حزبٍ قوي بما يكفي لبناء ائتلاف وتشكيل الحكومة. إلا أن رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر فاز في الانتخابات، حيث حصد أنصاره 73 مقعدًا، ما جعل الصدر المنافس الأول على تشكيل الحكومة المقبلة. وكان لدى الصدر فكرة متطرّفة حول تشكيل هذه الحكومة، إذ أراد اجتثاث البنية السياسية التي تشكلت بعد عام 2003، واستبدالها بنظامٍ جديد تحت إمرته. ولهذه الغاية، سعى إلى تهميش بعض منافسيه الشيعة، مثل رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، لتشكيل حكومةٍ أغلبية وطنية. بالإضافة إلى ذلك، شكّل الصدر تحالف إنقاذ وطن الذي شمل الحزب الديمقراطي الكردستاني (بقيادة مسعود بارزاني) وتحالف السيادة السني (بقيادة رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي ورجل الأعمال خميس الخنجر). وفي نفس الوقت، شكّل خصوم الصدر الإطار التنسيقي الذي يتمتع بعلاقات وثيقة مع طهران. وبخلاف تحالف الصدر مع الحزب الديمقراطي الكردستاني والسنّة الذي لم يدم طويلًا، أبدى الإطار التنسيقي مرونةً وقدرةً على الصمود على الرغم من الانقسامات الداخلية.
حاول الصدر تشكيل الحكومة مرتين، إلا أنه لم ينجح في جمع العدد الكافي من النواب لتحقيق النصاب القانوني لانتخاب الرئيس. فتحالف الصدر كان لديه حوالي 171 مقعدًا فقط من أصل 329. ووفقًا لحكمٍ صادرٍ عن المحكمة الاتحادية العليا، يجب حضور ثلثي أعضاء البرلمان (أي 220 عضوًا) لاكتمال النصاب القانوني. إلا أن الصدر فشل في استقطاب أعضاء آخرين من البرلمان، حتى المستقلين والجماعات الإصلاحية مثل حركة امتداد، التي كان تصوّرها للحكومة الجديدة أقرب إلى الصدر منه إلى الإطار التنسيقي. وشعر الصدر بالإحباط بسبب عجزه عن تشكيل حكومة، فدعا أعضاء البرلمان المتحالفين معه، والذين يبلغ عددهم 73 عضوًا إلى الاستقالة الجماعية في 12 يونيو/حزيران. فاستغل الإطار التنسيقي ما بدا أنه سوء تقدير كبير من قِبل الصدر، واستبدل 64 من هؤلاء الأعضاء في البرلمان في 23 يونيو/حزيران. وردًا على ذلك، أمر الصدر أنصاره باقتحام البرلمان العراقي واحتلاله في يوليو/تموز لمنع الإطار التنسيقي من بدء تشكيل الحكومة بعد اختياره السوداني كرئيس وزراء مكلّف.
وفي ظل المواجهة الطويلة بين الصدريين من جهة وقوات الأمن العراقية وقوات الحشد الشعبي من جهةٍ أخرى، أصبح العراق على شفير حربٍ أهليةٍ داخل الطائفة الشيعية. فقد أودى الصراع العنيف المحدود، الذي اقتصر بمعظمه على بغداد والبصرة، بحياة عشرات المواطنين، ومعظمهم من أنصار الصدر، وإصابة أكثر من 200 مواطن. هذا ونشر الصدر ميلشيا سرايا السلام لحمايتهم، إلا أنه استخفّ بقرار قوات الحشد الشعبي باستخدام القوة بوحشيةٍ لتفريق أنصاره. وتحت ضغط داخلي وخارجي، اضطرّ الصدر إلى الانسحاب من البرلمان والمنطقة الخضراء، ليستنفد بذلك استراتيجياته الرامية إلى منع الإطار التنسيقي من تشكيل الحكومة ويفضح سوء تقديره السياسي بالكامل.
بدأ حليفا الصدر السابقان، الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة السني، بالتفاوض مع الإطار التنسيقي إذ أدركوا أن الصدر قد فقد نفوذه السياسي. هذا وانضمّا في سبتمبر/أيلول، أي قبل وقتٍ طويل من التوصل إلى أي إجماع حول الرئيس الجديد، إلى ائتلاف إدارة الدولة الجديد ذي القاعدة الواسعة مع الإطار التنسيقي والاتحاد الوطني الكردستاني وتكتل بابليون المسيحي. ونفّذ أنصار الصدر احتجاجاتٍ متفرّقة وغير منسّقة وصغيرة، إلا أنها لم تكن كافيةً لعرقلة العملية السياسية.
الصراع الكردي على الرئاسة
بينما كانت الائتلافات السياسية تترسّخ في بغداد، استمر الخلاف بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني حول رئاسة جمهورية العراق. فأصرّ كلٌّ منهما على مرشّحه – وهما الرئيس الحالي برهم صالح من الاتحاد الوطني الكردستاني ووزير داخلية حكومة إقليم كردستان ريبر أحمد من الحزب الديمقراطي الكردستاني. ولم يتوافق الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني على مرشحٍ وسطي على الرغم من عقد عدة جولات من المحادثات. وأصرّ الحزب الديمقراطي الكردستاني على عدم بقاء صالح لولايةٍ ثانية. وأدى إصرار الحزب على استبدال صالح إلى إضفاء طابعٍ شخصي عميق على الصراع المرير بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. وفي إطار صفقة الحزب الديمقراطي الكردستاني مع الإطار التنسيقي، حرص الحزب الديمقراطي الكردستاني على عدم تصويت معظم أعضاء البرلمان الشيعة لصالح. وكان من بين الذين صوتوا ضد صالح أعضاء في ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي. يسعى المالكي ليصبح نائبًا لرئيس العراق، إلا أنه لا يرغب في الوقت ذاته في تولي المنصب تحت إمرة صالح، وهو رجل سياسي وشخصية عامة ذات هيبة. وبالتالي، أراد المالكي أن يتم استبدال صالح برئيسٍ جديد لتمهيد الطريق أمامه ليتولى دور نائب الرئيس الذي سيتمتع على الأرجح بصلاحيات واسعة جدًا. كما سحب الحزب الديمقراطي الكردستاني مرشحه للرئاسة ودعم مرشحًا آخر من الاتحاد الوطني الكردستاني، وهو عبد اللطيف رشيد، في إشارةٍ واضحة إلى أن العداء الذي يكنّه الحزب الديمقراطي الكردستاني لصالح كان شخصيًا إلى حدٍ كبير وليس حزبيًا محضًا. وفي الجولة الأولى من الانتخابات، لم ينل أيًا من صالح أو رشيد ثلثَي الأصوات المطلوبة دستوريًا. فقد حصل رشيد على 156 صوتًا، بينما حصل صالح على 99 صوتًا. ولكن في الجولة الثانية، يحتاج المرشح الفائز إلى حصد العدد الأكبر من الأصوات. ففاز رشيد بالرئاسة من خلال حصوله على 162 صوتًا، مقابل 99 صوتًا فقط لصالح.
وتجدر الإشارة إلى أن رشيد هو وزير الموارد المائية السابق وصهر الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني. ويعتقد بعض المحللين أن قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني، التي خضعت لسيطرة مُحكمة من عائلة طالباني، كانت تفضّل رشيد على صالح لمنصب الرئاسة، على الرغم من كون صالح المرشح الرسمي للحزب. فقد خدم انتخاب رشيد مصلحة الاتحاد الوطني الكردستاني بطريقتين رئيسيتين، إذ يمكنه تحسين العلاقة المتوترة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني من خلال تقديم مرشح وسطي للرئاسة، كما قدّم لعائلة طالباني فرصةً لإحكام سيطرتها على أحد مراكز السلطة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية في العراق.
إلا أن انتخاب رشيد رئيسًا شكّل في الواقع فوزًا للحزب الديمقراطي الكردستاني أكثر منه للاتحاد الوطني الكردستاني. فقد تمكّن الحزب الديمقراطي الكردستاني من استغلال الانقسامات داخل الاتحاد الوطني الكردستاني لمصلحته من خلال ضمان انتخاب رئيس أكثر استيعابًا ومرونةً واستجابةً لمطالب الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتشمل هذه الأخيرة الامتيازات المالية الناتجة عن الميزانية السخية لمكتب رئيس الجمهورية والمناصب الأخرى في الرئاسة العراقية. لكن الأهم من ذلك أن انتخاب رشيد، الذي ينحدّر من جزءٍ لا يتجزأ من عائلة طالباني، يعيد تأكيد وتوطيد الرمزية السياسية لـلحزب الديمقراطي الكردستاني التي أدّت فيها الأسرة دورًا رياديًا في السلطة السياسية والحكم. ويمكن لإعادة التوجيه التدريجي لإيديولوجية الاتحاد الوطني الكردستاني التي اعتادت المفاخرة برفضها توريث السلطة (على الرغم من سيطرة زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني طالباني على الحزب على مدى عقود) أن توفر في نهاية المطاف بعض الاستقرار السياسي داخل الحزب والمناطق التي يسيطر عليها الاتحاد الوطني الكردستاني. إلا أنه يمكن للحكم العائلي، القائم على الاحتكار الثنائي المقرون بصلاحيات سياسية واقتصادية مهيمنة في ظل غياب الرقابة والتوازن، أن يمهّد الطريق لانتكاسات خطيرة فيما يتعلق بحرية التعبير والحكم في إقليم كردستان.
أضف إلى ذلك أن المنافسة الشرسة بين الحزبين الكرديين على رئاسة الجمهورية حملت تأثيرًا سلبيًا على دور الأكراد في بغداد. فقد سمح الأكراد، الذين كانوا صانعي الزعماء في تشكيل الحكومة العراقية، بأن يقودهم خلافهم الداخلي المرير على مدى سنوات حول تولي صالح الرئاسة، ومن ثم سعيه لولايةٍ ثانية، إلى أن يصبحوا إحدى العقبات الرئيسية في عملية تشكيل الحكومة. هذا ولم يتمكن الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، في أحسن الأحوال، من تقديم خطابٍ ورؤية وطنية كردية موحّدة في بغداد. فبدلًا من السعي لضمان تطبيق الدستور وتأمين الحقوق السياسية والاقتصادية لإقليم كردستان، لم يركزوا سوى على السياسات الشخصية الضيقة بحيث اعتبر كلٌّ منهما هزيمة الآخر في بغداد الهدف النهائي. ولم يؤدِّ هذا العداء الشخصي بين القادة الأكراد إلى إضعاف الموقف الكردي في بغداد فحسب، بل كان أيضًا بمثابة تذكير بسمة مدمّرة لطالما لاحقت السياسة الكردية في السابق، وهي أن الغرور والمساومة على المناصب لدى صانعي القرار الأكراد ما تزال تتفوّق على المصلحة العامة.
ماذا بعد؟
ستقوم الأحزاب السياسية المنتمية للمجموعات العرقية والطائفية العراقية، التي تريد الانضمام للحكومة الجديدة، الآن بمقايضاتٍ مكثفة في صفوفها وفيما بينها. ولكن يمكن أن تتشكّل الحكومة الجديدة بصورةٍ أسرع مما مضى نظرًا للضغوط المحلية والدولية والإرهاق السياسي الذي تسبب فيه الجمود الطويل، والعنيف في بعض الأحيان، في بغداد. وتدرك النخب السياسية العراقية أنها أهدرت وقتها، وأن الاستقرار السياسي والاستقرار الأمني على المحك. لذلك، قد تقدّم الأحزاب المتفاوضة تنازلاتٍ وتتوصل إلى صفقات حول مناصب نواب الرئيس ونواب رئيس الوزراء والحقائب الوزارية، إذ لديها مصلحة كبيرة في أن تُظهر للعراقيين والمجتمع الدولي قدرتها على تحقيق ذلك. وبالتالي، يمكن لتشكيل الحكومة بسرعة أن يمنحها إنجازًا ملموسًا تقدّمه للشعب من خلال تمكين الحكومة من ممارسة عملها بشرعية، والحصول على الموافقة على الميزانية، ما يعطي في الخلفية الوقت للأحزاب للدخول في مفاوضات مطوّلة حول المناصب العليا الأخرى.
هذا ولم تتّسم، في السابق، عملية توزيع المناصب في الوزارات السيادية، بما في ذلك وزارات المالية والشؤون الخارجية والداخلية والدفاع والنفط، بالقدر نفسه من الصراع، فقد جرت العادة بأن يتولى الشيعة وزارات الداخلية والنفط والشؤون الخارجية أو المالية، ويتولى الأكراد إما الشؤون الخارجية وإما المالية، في حين يتولى السنة وزارة الدفاع. إلا أن الحقائب الوزارية الأخرى ومئات المناصب العليا تظل مركزية بالنسبة للأحزاب السياسية حتى تحافظ على نظام المحسوبية الخاص بها، ونتيجة ذلك، من المرجح أن تخضع هذه المناصب لمفاوضات موسّعة ومكثّفة. بيد أن هذه المفاوضات قد تجري بوتيرةٍ أسرع مما سبق نتيجة التحوّل الهائل في كيفية تشكيل الحكومة. في السابق، كان انتخاب الرئيس الجزء الأسهل من العملية. أما هذه المرة، فلم تكن هذه هي الحال بالتأكيد. ففي حين أن معظم المفاوضات على تشكيل الحكومة كانت تجري بعد انتخاب الرئيس، يمكن أن تقتصر العملية هذه المرة على بعض المحادثات بما أن الأحزاب السياسية تدرك أنها تفتقر في هذه المرحلة لترف الوقت. ومن الممكن أيضًا أن تكون مرحلة ما قبل تشكيل الحكومة التي تكاد لا تنتهي قد سهّلت بعض الصفقات والمقايضات على المراكز التي من شأنها تسريع وتيرة المرحلة التالية من تشكيل الحكومة. كانت البلاد في حالة شلل سياسي ودستوري طوال أكثر من عام، وهم في حاجة لتشكيل الحكومة في أسرع وقت ممكن من أجل البدء في العمل لمصلحة الشعب العراقي.