ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
في السنتين الماضيتين، كتب الصحفيون والمعلقون مقالات عديدة عن “اليوم الأسوأ للرئيس ترامب”، أو”الأسبوع الأصعب للرئيس ترامب” أو “الشهر الأقسى للرئيس ترامب”. وكانت كلها صحيحة. ونستطيع أن نقول الآن بثقة مطلقة أن الأسبوع المنصرم كان في الواقع الأسبوع الأسوأ والأقسى والأكثر غرابة للرئيس ترامب، لا بل الأكثر كلفة للبلاد منذ انتخابه. وهذا لا يعني قطعا، أن المستقبل لن يعطينا أياما أو أسابيع أكثر سوأً، ولكننا لم نصل بعد إلى تلك المنعطفات.
الزيادة الطفيفة التي أعلنها الاحتياطي الفيدرالي (المصرف المركزي) في معدلات الفائدة عمقت من مخاوف وقلق الأسواق المالية التي لا تزال تعاني من مضاعفات حرب تجارية بين أكبر اقتصادين في العالم بدأها الرئيس ترامب من خلال فرضه لرسوم حماية ضد البضائع الصينية، وردت عليها الصين بالمثل. الرئيس ترامب الذي يفاخر بأنه “رجل التعريفات” فرض رسوم حماية وبمستويات مختلفة ليس فقط ضد منافسين اقتصاديين مثل الصين، بل أيضا ضد حلفاء وشركاء اقتصاديين تقليديين لأمريكا مثل كندا والمكسيك ودول أوروبا الغربية.الانهيار الذي شهدته الأسواق المالية الأسبوع الماضي هو الأسوأ منذ الكساد المالي الذي عصف بالأسواق في الأسابيع الأخيرة من ولاية الرئيس جورج بوش الابن في عام 2008.
تحقيقات مكتب المحقق الخاص روبرت مولر في التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية، والاعترافات التي حصل عليها من المتهمين وأحكام السجن التي صدرت بحق مقربين من الرئيس ترامب أو مسؤولين سابقين في حملته أو حكومته، ضيقت من الحصار على الرئيس وأفراد عائلته. الخلافات بين ترامب وقادة الحزب الديمقراطي بعد فوزهم بالأكثرية في مجلس النواب، انفجرت قبل نهاية الأسبوع ما أدى إلى “اغلاق” الحكومة بسبب إصرار ترامب على ارغام الديمقراطيين على تخصيص خمسة مليارات لتمويل بناء الجدار العازل بين الولايات المتحدة والمكسيك، والذي حوّله ترامب إلى ما يشبه الخرافة السياسية. اغلاق الحكومة يعني حرمان مئات الآلاف من الموظفين الفيدراليين من رواتبهم قبل أيام من عيدي الميلاد ورأس السنة. وهذه هى المرة الثالثة هذه السنة التي يتم فيها “إغلاق” الحكومة الفيدرالية على الرغم من أن الحزب الجمهوري هو الذي يسيطر على مجلسي الكونغرس والبيت الأبيض. في السابق حوادث إغلاق الحكومة التي تستمر لبضعة أيام تتم عادة عندما يكون البيت الابيض في يد حزب، بينما يكون الكونغرس، أو أحد مجلسيه، تحت سيطرة الحزب المعارض.
استقالة تاريخية
وإذا لم تكن هذه التحديات كافية، انفجر التوتر بين الرئيس ترامب ووزير دفاعه جيمس ماتيس في أعقاب قراري ترامب الأحادي الجانب بسحب القوات الأمريكية من سوريا فورا، والبدء بسحب حوالي سبعة الآف جندي من أفغانستان (أي نصف عديد القوات الأمريكية) خلال بضعة أشهر. ومع أن الرئيس ترامب كان يرغب بسحب القوات الأمريكية من سوريا، بعد أن حققت معظم مهامها في تحرير الأراضي التي كانت تسيطر عليها قوات تنظيم “الدولة الإسلامية”، إلا أن المسؤولين العسكريين والمدنيين في وزارتي الدفاع والخارجية اقنعوه في السنة الماضية بإبقاء حوالي ألفي عنصر من القوات الخاصة والمستشارين لمواصلة تطهير شمال شرق سوريا من القوى الإرهابية، ومنع القوات الإيرانية والروسية وقوات نظام الأسد من السيطرة على المنطقة الحدودية بين العراق وسوريا، واستخدام هذه القوات بالتنسيق مع ائتلاف قوات سوريا الديمقراطية (ائتلاف من المعارضة الكردية والعربية) لاستعادة الأمن للمناطق المحررة. هذا التعاون العسكري بين القوات الأمريكية والمعارضة الكردية-العربية اثبت جدارته الميدانية في أكثر من مناسبة، ولكنه واجه معارضة متزايدة وشرسة من تركيا، “حليفة” واشنطن في حلف الناتو والتي ترى في الأكراد خطرا وجوديا، إضافة إلى ضغوط روسية سياسية وعسكرية، وأخرى إيرانية ومن نظام بشار الأسد الذي يريد استعادة السيطرة على آبار النفط والأراضي الزراعية الواقعة تحت سيطرة الأمريكيين وحلفائهم المحليين. قرار ترامب المفاجيء بسحب القوات من سوريا، جاء بعد مكالمة هاتفية بينه وبين الرئيس التركي طيب رجب اردوغان، الذي حض ترامب على سحب القوات، خاصة وأن المكالمة جاءت في سياق تهديدات علنية من اردوغان بأن القوات التركية سوف تجتاح المناطق التي يحتلها الأكراد من حلفاء واشنطن في سوريا.
قرارات ترامب هذه التي صدمت الأوساط العسكرية والأمنية، دفعت بالوزير ماتيس إلى كتابة نص استقالة، تحوّلت فورا إلى وثيقة تاريخية، اعتبرت تأنيبا قويا لترامب ومفاهيمه السطحية والانعزالية لقضايا الأمن القومي، وصرخة احتجاج غير مسبوقة من وزير دفاع ضد سياسات اعتبرها الوزير المستقيل انها تخدم مصالح أعداء الولايات المتحدة. آخر استقالة احتجاج من وزير بارز بسبب خلاف سياسي بينه وبين الرئيس، كانت استقالة وزير الخارجية سايروس فانس في 1980 اعتراضا على قرار الرئيس جيمي كارتر آنذاك القيام بعملية عسكرية سرية لانقاذ الرهائن الأمريكيين المحتجزين في السفارة الأمريكية في طهران. (فانس قدم استقالته قبل تنفيذ العملية التي أخفقت كارثيا). استقالة ماتيس هي أكثر بكثير من رحيل وزير آخر أو مسؤول بارز آخر من إدارة ترامب، وما أكثر المستقيلين أو المقالين حتى الآن، لأن ماتيس كان آخر “العقلاء” أو “الحكماء” الذين يفصلون بين ترامب والفوضى العامة. ردود الفعل الأولى على صدمة استقالة ماتيس جاءت بمثابة شهيق جماعي من الأوساط السياسية والأمنية عكس خوف الانزلاق السريع إلى الهاوية. سحب القوات من سوريا واستقالة ماتيس، الذي لا يخفي مواقفه القوية الرافضة لسياسات الهيمنة الدولية التي تنتهجها كل من روسيا والصين، اعتبرت بمثابة هدايا عسكرية وأمنية قدمها ترامب إلى الرئيس فلاديمير بوتين، الذي رحب علنا بالانسحاب الأمريكي من سوريا، وإلى الرئيس السوري بشار الأسد، والتركي اردوغان والمرشد الإيراني علي خامنئي، وإلى ما تبقى من قيادات “الدولة الإسلامية”.
استقالة الوزير ماتيس بعد الخلافات السياسية المعروفة بينه وبين ترامب لم تكن مفاجئة، وإن كانت الأسباب المباشرة للاستقالة ونبرة ومضمون نص الاستقالة مفاجئة. وكان ماتيس قد تحفظ على قرار الرئيس ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، كما إنه تحفظ على قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس والاعتراف بالمدينة عاصمة لإسرائيل، إضافة إلى قضايا أخرى.
ولكن الخلافات بين ترامب وماتيس أكثر من كونها مجرد خلافات سياسية، وتعكس مفاهيم ايديولوجية متناقضة للرجلين حول نظرتهما للولايات المتحدة ودورها في العالم. نظرة ماتيس للعالم هي نظرة كلاسيكية لعسكري مخضرم يرى أن الولايات المتحدة تمارس دورها القيادي العالمي كقائدة لنظام من التحالفات الدولية، حلف شمال الأطلسي في الغرب والأحلاف العسكرية مع كوريا الجنوبية واليابان في آسيا. ماتيس تحدث عن أهمية صيانة واحترام هذه الأحلاف حيث ذّكر ترامب بأن هذه الدول حاربت ولا تزال تحارب مع القوات الأمريكية في أفغانستان، وهي الدول التي شكلت صلب التحالف ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا والعراق.
وفي إشارة بالغة الأهمية قال ماتيس إن الولايات المتحدة يجب أن تتخذ مواقف واضحة في تعاملها مع الدول التي تتضارب مصالحها الاستراتيجية معها، مضيفا “من الواضح أن الصين وروسيا على سبيل المثال، تريد أن تؤثر على العالم بطريقة تنسجم مع نموذجها السلطوي.. لكي تعزز من مصالحها على حساب جيرانها وحساب أمريكا وحلفائها”. وأضاف “مواقفي حول معاملة الحلفاء باحترام واعتماد رؤية واضحة للاعبين الخطيرين والمتنافسين الاستراتيجيين هي مواقف قوية واستفادت من خبرة في هذه الشؤون تزيد عن أربعين عاما..”.
نص استقالة ماتيس هو دحض فكري وسياسي لمفاهيم ترامب الانعزالية التي ترى في العلاقات الدولية علاقات منفعة آنية وليس علاقات مبنية على قيم و مصالح مشتركة بعيدة المدى. تذكير ترامب بضرورة احترام الحلفاء، هو نقد ضمني ولكن واضح لأسلوب ترامب الفظ والسافر في مطالبة الحلفاء بدفع نفقات الحماية الأمريكية لهم، وكأن التحالفات هي طريق باتجاه واحد. نص استقالة ماتيس يبين أن تمسكه بصيانة العلاقات مع الحلفاء يفسر رفضه للانسحاب من سوريا الذي يعني عمليا تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها المحليين الذين قاموا بالجهد العسكري الأكبر في القتال البري ضد إرهابيي “الدولة الإسلامية”. من هذا المنظور، يصبح الانسحاب الأمريكي من سوريا وكأنه دعوة لتركيا ونظام الأسد للانتقام من المعارضة التي سلحتها ودربتها وتعاونت معها القوات الأمريكية.
ما الذي تعنيه استقالة ماتيس لدول الشرق الأوسط، ومستقبل القوات الأمريكية في المنطقة؟ خلفية ماتيس العسكرية، وخدمته في الشرق الأوسط كقائد للقوات الأمريكية فيها، أعطته خبرة كبيرة ليس فقط بالشؤون والتحديات العسكرية في المنطقة بل وفرت له الفرص للتعرف عن كثب على القيادات السياسية في دول مجلس التعاون الخليجي. ولم يخف ماتيس استيائه من استمرار الخلاف بين قطر من جهة والرباعية العربية من جهة أخرى، ورأى في هذه الأزمة عقبة كبيرة أمام تنسيق عسكري حقيقي بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة لمواجهة سياسات إيران التخريبية في المنطقة من اليمن إلى العراق. وسعى ماتيس خلال الأشهر الماضية بالتعاون مع وزير الخارجية مايك بومبيو ومجلس الأمن القومي للضغط على الأطراف المتنازعة في اليمن لوقف إطلاق النار لايصال الامدادات الانسانية إلى المناطق المنكوبة، ومحاولة البدء بمفاوضات ديبلوماسية لإنهاء النزاع. سحب القوات الأمريكية من سوريا، ورحيل الوزير ماتيس سيخلق فراغا سياسيا لن يكون من السهل ملأه في أي وقت قريب، مع ما سيكون لذلك من مضاعفات سلبية على مستقبل النزاعات في اليمن وسوريا.