في الرابع من شهر تموز/يوليو، في خلال شهر رمضان المبارك، استهدف انتحاري مسجد النبي محمد في المدينة المنورة وهو يعتبر أحد أهم المواقع الدينية الإسلامية. وتبنى في ما بعد تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) الهجوم الذي أسفر عن مقتل أربعة ضباط أمن. ومع انتشار الأخبار التي تناولت هذا الهجوم، امتلأ موقع تويتر بالأخبار والتعليقات التي لم تكن كلّها صحيحة. فلقد تبيّن أن إحدى الصور التي انتشرت بكثرة على موقع تويتر للانتحاري المزعوم هي في الواقع صورة لجندي يحارب على الحدود الجنوبية للمملكة العربية السعودية. فحقيقة أن كنية الجندي “العتيبي” التي تشير إلى انتمائه إلى إحدى أكبر القبائل في المملكة قد دفعت بالكثيرين إلى الربط بين الهجوم الأخير وذاك الذي شنّه جهيمان، الذي يحمل أيضًا كنية العتيبي، والذي قاد الهجوم لاحتلال المسجد الحرام في العام 1979.
وبالنسبة إلى الكثيرين من المغرّدين على موقع تويتر، فإن هذا التعريف العام لهوية المعتدين على أهم المواقع الدينية الإسلامية، الذين اتهموا ظلمًا في الحادثة الأخيرة، وربطها بالأصول القبلية ينمّ عن تحيّز كامن في المجتمع السعودي ضد الأفراد الذين يتحدّرون من أصول قبلية بدوية. وبالفعل، فإن ثلاثة من ضباط الأمن الأربعة الذين قتلوا أثناء حراستهم للمسجد هم من أصول قبليّة. ويعاني السعوديون من أصول قبلية نسبيًا من الحرمان على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي في المملكة، مما يثير المخاوف من التعاطف القوي للحركات المتطرفة كتنظيم “القاعدة” وتنظيم “داعش” في هذه المجتمعات. وفي الوقت عينه، يشكّل السعوديون القبليّون نسبة كبيرة من الجنود الذين يدافعون عن الحدود السعودية في الحروب الخارجية، ومن المسؤولين الأمنيين الذين يحمون مواقع حساسة في جميع أنحاء المملكة. إن المحن التي تمرّ بها المملكة العربية السعودية في هذه الأثناء، إذ تخوض حربًا في اليمن على حدودها الجنوبية وتنساق إلى صراع داخلي ضد المتعاطفين مع “داعش”، ترخي بظلالها بشكل غير متكافئ على السعوديين من أصول قبليّة بدويّة وتتسبب في تفاقم التوترات الاجتماعية التي أخذت تتزايد في كنف هذه الشريحة المهمة من المجتمع.
الشرف والتضحية
تفتخر القبائل السعودية باستشهاد أبنائها في حربها على الإرهاب أو في الحرب التي تخوضها على حدودها الجنوبية. وتنظم قصائد تتغنّى فيها بالتضحيات التي قدّمتها على مذبح الوطن أولًا وفي سبيل الدين ثانيًا إذ تشعر أنها تحتاج دائمًا للدفاع عن ولائها للوطن. وفي صورة تم تداولها على موقع تويتر، ذكر ضابط ينتمي إلى قبيلة مطير أصيب بجروح أثناء الهجوم الانتحاري الذي استهدف المدينة المنوّرة، أنها المرة الخامسة التي ينجو فيها من هجمات شنّت أثناء تأديته لمهامه العسكرية. إلا أن العديد من السعوديين القبليين باتوا يستنتجون أن التضحيات التي يقدمونها للمملكة لا تلقى تقديرًا كافيًا.
ويساور السعوديين القبليين شعور بالإحباط إذ تنسب إلى قبائلهم الجرائم التي يُزعم أنهم ارتكبوها في حين تتجاهل الدولة الخدمات الباسلة التي يقدمونها لها. ونظرًا إلى أنهم شعب يفتخر بقصص بطولاته التاريخية ويتمسّك بها، فإنهم يضيقون ذرعًا من قلة تقدير الدولة لهم. وعلى الصعيد الاجتماعي، قد يتعرّض فرع من قبيلة ما إلى الرقابة العامة المكثّفة إن قام أحد أفرادها بعمل جرمي، أما عندما يضحّي عضو من أعضائها بحياته في سبيل وطنه فما من أحد يسلط الضوء على اسمه القبليّ. في المقابل، لا يتعرّض السعوديون الذين لا يتحدّرون من أصول قبلية والسعوديون الذين نادرًا ما يتمسّكون بأسمائهم القبليّة لدرجة مماثلة من الرقابة نظرًا إلى أن علاقاتهم تنحصر ضمن نطاق ضيّق وهي عائلية أكثر مما هي قبليّة.
الأعباء الأمنية
إن الوضع الحرج الذي يعيشه الجنود من ذوي الرتب العسكرية المنخفضة موثّق بشكل واف على وسائل التواصل الاجتماعي. فلقد بات شائعًا تداول السعوديين من أصول قبلية لمقاطع فيديو تظهر الجنود وهم يصفون الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعانون منها. وفي بعض مقاطع الفيديو هذه، يلجأ الجنود إلى الشعر مجددًا باعتباره وسيلة التعبير التقليدية لدى البدو، للمطالبة بتحسين الأجور وبتفهّم الصعوبات المالية التي يعانون منها، ولمناشدة المحاكم المقرضة بالتحلّي بالصبر. ويطالب معظمهم الملك وولي العهد وولي ولي العهد بحمايتهم وبمدّ يد العون لهم.
إن الضائقات الاقتصادية التي يعاني منها الجنود ذوي الرتب المنخفضة وعناصر الشرطة وضباط الأمن الذين يحرسون المواقع الحساسة تعكس الأجور المجحفة والتكاليف المتزايدة في وقت تحتدم فيه التحديات الأمنية. يلجأ العديد من الجنود إلى الحصول قروض مصرفية لشراء سيارات ولتسديد الإيجار. وعلى الرغم من أن الحكومة تقدّم مشاريع سكنية لعناصر القوى الأمنية، فالمساكن المقدمّة محددّة من حيث الموقع والعدد، ولا يتوافر عدد كاف من المساكن بأسعار مقبولة في المملكة العربية السعودية. ولتضمن المصارف تسديد قروض الإسكان والسيارات، غالبًا ما تقتطع وبشكل تلقائي مبالغ ضخمة من الراتب المتواضع الذي يتقاضاه العسكري شهريًا لتسديد الدفعات. وعلاوة على ذلك، لا يحق لعناصر القوى الأمنية المشاركة بأي نشاط تجاري، مما يجعل من رواتبهم الشهرية مصدر دخلهم الوحيد. وتناولت مقالات افتتاحية ورسوم كاريكاتورية الضائقة الاقتصادية التي يرزح تحت وطأتها الجنود، إذ تنتقد قلة تقدير الدولة للقوات العسكرية.
لم تغفل الحكومة الظروف الصعبة التي يعاني منها الجنود. فبالإضافة إلى الرعاية الطبية، والتسهيلات التعليمية الممنوحة في بعض المناطق لعناصر القوى الأمنية، لقد أدرجت أسماء الطاقم الأمني في لوائح المستفيدين من علاوات غلاء المعيشة الممنوحة للموظفين الحكوميين في عهد الملك الراحل عبد الله. وفي شهر آب/أغسطس، دعا المفتي العام للمملكة العربية السعودية المصارف ورجال الأعمال السعوديين إلى التبرع للجنود المرابطين على الحدود الجنوبية. وفي وقت لاحق من ذاك الشهر، أصدر الملك أمرًا يقضي بحصول الجنود المشتركين في العمليات اليمنية على راتب شهري إضافي. ولاحقًا، قامت الحكومة بإعفاء الجنود المرابطين على الحدود الجنوبية والذين يقومون بواجبهم على أكمل وجه من الاقتطاعات التي تلحق بالإعانات المالية الحكومية. وأخيرًا، ناشد وزير العدل القضاة بمراعاة الجنود المرابطين بكل نشاط على الحدود الجنوبية، وبالتالي إطلاق سراح العديد من الجنود القابعين في السجون.
حاولت بعض القبائل أن تنشئ صناديق خيرية لدعم أفرادها، إلا أن الحكومة لم ترحّب بهذا الإجراء. ففي الواقع، حرّمت هيئة كبار العلماء إنشاء هذه الصناديق، معلّلة أن الالتزامات المترتبة على عناصر القبيلة جراء ذلك ترقى إلى مستوى “أخذ أموال الناس بالإكراه.” ولكنه من المحتمل أيضًا أن تكون الحكومة قلقة من التنظيم القبلي المستقل والنفوذ السياسي والاجتماعي المتصاعد لهذه القبائل.
يصعب التعويض عن بعض التضحيات الأخرى. فلم يعان أحد بقدر ما تعاني المجتمعات ذات الأغلبية القبلية التي تعيش على طول حدود المملكة مع اليمن. فثمة تقارير إخبارية ضئيلة تظهر حالات عديدة طلب فيها من أناس أن يغادروا منازلهم هربًا من القصف المدفعي العابر للحدود. في نجران، على سبيل المثال، أدى الخطر المستمر الذي يتربص بالسعوديين والذي يتمثّل بالصواريخ القادمة من اليمن، التي تسببت بمقتل العديد من المدنيين، بتجسيد واقع الحرب، خلافًا لما يحصل في أجزاء أخرى من السعودية.
مخاطر التطرف
إن موقع القبائل ذات الأصول البدوية المتمركزة على الحدود وتهميشها الاقتصادي والاجتماعي نسبيًا جعلاها فريسة للدعوات الدينية، الحميدة والمتطرفة. اعتاد جميع علماء الدين السعوديين أن يبجّلوا الجنود، وأن يصفوا عملهم بالديني، إذ لقبوهم “بحماة الإيمان” و”جنود القرآن والسنّة.” حتى أن أحد علماء الدين قد ذكر في مقطع صوتي أن الجنود السعوديين هم أنسباء السلف وعملهم ما هو إلا جهاد في سبيل الله.
يتلاعب تنظيم “القاعدة” وتنظيم “داعش” بالقبائل السعودية عبر التنديد بخدمتها للدولة السعودية. ففي بعض مقاطع الفيديو التي نشرت على موقع يوتيوب، تلا أعضاء “داعش” قصيدة باللهجة البدوية، معربين عن قناعتهم بأن الجنود السعوديين كفار وإن صلّوا وصاموا وأدّوا فريضة الحج. والجدير بالذكر أن هذه القبائل عينها التي تشكّل الجزء الأكبر من القوات الأمنية هي عرضة للهجمات التي تستهدف سيادة الدولة وللأعمال الإرهابية. وفي الحوادث الكارثية الشهيرة الأخيرة، قتل المجنّدون الجدد في تنظيم “داعش” أقاربهم بناء لأوامر التنظيم التي تقضي بقتل أفراد العائلة العاملين في القوات الأمنية السعودية بدءًا بأكثرهم قربةً.
وفي الأيام التي تلت إعلان الحكومة لاسم من نفّذ الهجوم على المدينة المنوّرة، تم تعميم صورة لأخيه، وهو جندي سعودي كان يقوم بحراسة المسجد الحرام في مكّة المكرّمة. وفي الواقع، لعدد لا يستهان به من المتطرفين المدانين أشقاء يعملون في القوات العسكرية، مما يسلط الضوء على مشكلة الربط بصورة تبسيطية بين النسب القبلي وانتهاج النزعات المتطرفة.
الحاجة إلى الوحدة الوطنية
في الأيام الأولى لبناء الدولة، كانت الوظائف في القطاع الأمني رمزًا للأجور الوفيرة والوضع الاجتماعي المرتفع. إلا أن الوضع لم يبق على حاله. ومع ازدياد الأعباء الملقاة على كاهل السعوديين من أصول قبلية بدويّة من خلال دورهم في المحافظة على الأمن القومي، بات من الملحّ تقدير التضحيات التي يقوم بها هؤلاء والاعتراف بها. إلا أن المحافظة على هوية وطنية متماسكة تجمع شرائح المجتمع كلّها وتحترم خلفياتها الثقافية تشكّل تحديًا آخر يواجه المملكة في هذا الوقت الذي تنشب فيه اضطرابات إقليمية كبيرة.
وجدان الحربي حاصلة على شهادة ماجستير مزدوجة في الدراسات القانونية الدولية والقانون والحكومة من الجامعة الأمريكية في واشنطن العاصمة، وكريستين سميث ديوان هي من كبار الباحثين المقيمين في معهد دول الخليج العربية في واشنطن.