ترى إسرائيل وعددٌ كبير من دول الخليج العربية اليوم أنّ ثمة خطر استراتيجي نابع من إيران يتربص بها. وحقيقة مواجهة التهديدات المشتركة ليست بالجديدة. فلقد أعلن ألكسندر هيغ عام 1981، عندما كان يشغل منصب وزير الخارجية في إدارة ريغان، أنّ ثمة “توافق استراتيجي” في الشرق الأوسط بين الدول العربية وإسرائيل نظرًا إلى تعرّضها على حد سواء لخطر الاتحاد السوفيتي وإيران عقب الثورة الإسلامية في طهران. ولربما كان هيغ محقًا من الناحية النظرية، إلّا أنّ التهديدات المشتركة لم تؤد آنذاك إلى أي تعاون عملي بين إسرائيل والدول العربية.
إلّا أنّ الوضع قد تغيّر اليوم. ففي شهر أغسطس/آب من عام 2016، قال لي مسؤولون سعوديون بارزون أثناء تواجدي في المملكة العربية السعودية إنّ “إسرائيل ليست دولًة عدوّة.” بل جلّ ما كان يشغل بالهم هو موضوع إيران واستخدامها للميليشيات الشيعية لإضعاف الدول العربية ولفرض هيمنتها على المنطقة. ولا شك في أنّ المسؤولين السعوديين لم يعترفوا بأي تعاون مع الإسرائيليين، بل قالوا إنهم يتوقعون أن يتعاونوا على المدى البعيد مع إسرائيل متى تمت تسوية الصراع الفلسطيني.
ومع ذلك، تكثر الشائعات حول تعاون إسرائيل مع دول عربية رائدة، ومنها دول شبه الجزيرة العربية، على الصعيدين الأمني والاستخباري وحتى في العمليات. ولعل المقولة القديمة “لا دخان بلا نار” تنطبق على هذه الحالة – وليس هذا بالأمر المفاجئ. فالتحدّي الإيراني، الذي يلجأ إلى استخدام الميليشيات الشيعية وغيرها بشكل مكثّف، هو حقيقة ملموسة بالفعل. إذ إنّ الجهود الرامية إلى زعزعة الاستقرار وبسط النفوذ الإيراني على المنطقة كلها ليست وهميًّة. فما يراه السعوديون ودول مجلس التعاون الخليجي في البحرين والعراق ولبنان وسوريا واليمن، هو عينه ما تراه إسرائيل في هذه الدول. إذ يرى السعوديون والإماراتيون وحلفاؤهم العرب التهديد الإيراني من منظار وجودي. ويرى الإسرائيليون التهديد النووي الإيراني من المنظار عينه. وفي الوقت الذي قد لا يصل فيه الدعم الإيراني “لحزب الله” و”حماس” لهذا المستوى من الخطورة، فلم تألُ إيران جهدًا في مساعدتهما في تهديد إسرائيل عبر عشرات آلاف القذائف والصواريخ.
على الأرجح أن يكون هناك ثمة تعاون أمني سرّي بين الطرفين. وإن لم يسلّط أحد الضوء عليه فذلك لا يجعله أقل حقيقةً. والمفارقة هي أن تصورًا مشتركًا آخر قد ساهم كثيرًا في تعزيز التعاون على الأقل بشكل غير علني بين إسرائيل والدول السنيّة الرائدة: ألا وهو التصور المشترك حول إدارة أوباما. وبصرف النظر عما إذا كان تصوّر الإسرائيليين والعرب عادلًا أم لا، فلقد اعتبروا على حد سواء أن الرئيس السابق باراك أوباما كان يتنصّل من مسؤوليات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. كما اعتقدوا أن الولايات المتحدة أخذت تعود أدراجها وتقلّص نفقاتها في هذه المنطقة وتحوّل اهتمامها إلى آسيا، إذ قررت بمنتهى البساطة أن تحدّ من تدخّلها في منطقة الشرق الأوسط. وما زاد الطين بلة هو أنهم رأوا أن أوباما قد اعتبر إيران جزءًا من الحل للمشاكل التي يعاني منها الشرق الأوسط، وليست مصدرها. أما بالنسبة إلى الدول العربية الرائدة، فذلك لا يحتّم عليها أن تزيد من اهتمامها بكيفية الحفاظ على أمنها فحسب، بل يدفعها أيضًا إلى الالتفات إلى الدول القادرة على مساعدتها والتي كانت فعلًا على أهبة الاستعداد لمساعدتها.
من هذا المنطلق، كانت إسرائيل شريكًا طبيعيًا. ولم يقتصر الأمر على أنها تتشارك مع العرب التصور عينه حول التهديدات التي تواجهها، بل أن إسرائيل تمتلك قدرات فعلية عسكرية وتكنولوجية واستخبارية والقدرة على مواجهة الإرهاب، وهي على أهبة الاستعداد لاستخدامها. وبعدما قصفت قافلةً كانت تسير في 18 كانون الثاني/يناير 2015بالقرب من هضبة الجولان، ما أسفر عن مقتل جنرال إيراني في “فيلق القدس”محمد علي الله دادي، والقيادي في “حزب الله” جهاد مغنية (نجل عماد مغنية)، اشتعل موقع تويتر في المملكة العربية السعودية بالتعليقات المشيدة بما فعله الإسرائيليون. وتعليقًا على ذلك، كتب المعلّق السعودي عبدالرحمن الراشد عقب هذه الحادثة عن ردة فعل وسائل التواصل الاجتماعي السعودية عليها، متكهنًا سبب هذا القدر من الحماس الذي أظهره السعوديون. وأتت إجابته على الشكل التالي: يعود السبب في ذلك إلى أن إيران تعتبر عدوةً وإلى حقيقة أن السعوديين وغيرهم يدركون أنه من مصلحتهم رؤية الإيرانيين يمرون بنكسات أليمة ويدفعون الثمن. وحقيقة أن الإسرائيليين قد أدوا هذه المهمة لا تقلل من أهمية هذا الإنجاز بالنسبة إلى أولئك السعوديين. ومع ذلك، يقول الراشد إنه، وعلى الرغم من أهمية الخطوات التي اتخذتها إسرائيل، لا يمكن اعتبارها صديقًة قبل حل القضية الفلسطينية. إلّا أنّ ردة فعل السعوديين على مواقع التواصل الاجتماعي كانت جليًة.
وليس من الضروري أن يعتبر المرء صديقًا ليشترك في عملية التصدي للأعداء المشتركين. وثمة دلائل على أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سترغب في الاستفادة من التعاون بين إسرائيل والدول العربية للمساهمة في التصدي للإيرانيين وتنظيمي “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) والقاعدة. وفي الوقت الذي أجرت فيه الولايات المتحدة مناورات عسكرية متعددة الجنسيات تضمّنت إسرائيليين وإماراتيين بالإضافة إلى دول أخرى، تعتبر احتمالية إجراء أي مقاربات أو تعهدات رسمية تُلزم الإسرائيليين ودول الخليج العربية أقلّ بكثير من احتمالية حدوثها بشكل غير رسمي. وبناءً على ذلك، يمكن اتخاذ خطوات عديدة بشكل غير رسمي ومن دون إحداث جلبة. فعلى سبيل المثال، يمكن وضع خطط طارئة سرية لتوفير الخيارات أمام التصدي لاستخدام إيران لميليشيات شيعية ولزيادة التكاليف التي سيدفعها الإيرانيون ثمن استخدامهم لها. وتشير بعض الدلائل بالفعل إلى أن المعنويات تتدهور في صفوف “حزب الله” نتيجة الأثمان الباهظة التي يتكبّدها مقاتلوه في سوريا، وبسبب وضع قائد “فيلق القدس” الإيراني اللواء قاسم سليماني لهم في مقدمة القطعات المحاربة وكأنهم حطب للنار. وبمعزل عن فتح المجالات أمام التصدي لاستخدام الميليشيات الشيعية، قد تكون المناقشات الثلاثية السرية مع الولايات المتحدة وإسرائيل والدول العربية مجديًة من ناحية بذل المزيد من الجهود لدمج الدفاعات الصاروخية واستعراض الدروس المكتسبة والنظر في الممارسات الفضلى واعتماد أكثر أشكال التدريب فعاليًة.
وبعبارةٍ أخرى، إن قامت الولايات المتحدة بنشر بذور مثل هذا التعاون المستتر بين القوات الأمنية والاستخبارية الإسرائيلية والعربية، فقد يثمر هذا الأمر في مكاسب إضافية في التعامل مع التهديدات الإيرانية، و تنظيمي “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) والقاعدة والمجموعات التابعة لها. وبطبيعة الحال، قد يخدم التلاقي في المصالح الإسرائيلية والسنيّة أيضًا قضية السلام الإسرائيلي-الفلسطيني. وفي الوقت الراهن، يحتاج الفلسطينيون والإسرائيليون على حدٍ سواء إلى غطاء عربي للقيام بأي خطوة إيجابية تجاه بعضهم البعض. وإنّ الفلسطينيين مشتتون جدًا (بين الضفة الغربية وقطاع غزة) وضعفاء جدًا. أمّا جميع زعمائهم فبعيدين كل البعد عن شعبهم ولا يرون في إجراء مفاوضات مع إسرائيل إلا تنازلًا. وبكل بساطة، تعتبر أي تسوية فعلية في المفاوضات غير واردة في هذه المرحلة إن لم يقدم العرب على تغطية الفلسطينيين أو على الأقل على تحمّل جزء من المسؤولية المترتبة عن أي خطوة يقوم بها الفلسطينيون تجاه الإسرائيليين. إلّا أنّ الإسرائيليين أيضًا يحتاجون إلى غطاء. ولا تثق الهيئة السياسية الإسرائيلية بتاتًا بالفلسطينيين إلى حد أنها تعتبر أن أي تنازل تقوم به سيعتبره الفلسطينيون حقًا مكتسبًا. ومن منظار الشعب الإسرائيلي، لن تحصل إسرائيل على أي شيء من الفلسطينيين، فما الجدوى من أن تكون إسرائيل “فراير” في اللغة العبرية أو ساذجة؟ وما الجدوى من تقديم التنازلات للفلسطينيين؟ ويعتبر الإسرائيليون حاليًا، أن أي تنازل للفلسطينيين لا يكون مبررًا إلا إذا أسفر عن أمرٍ ملموس تقدمه الدول العربية، ويضمن العلاقات الطبيعية والتعاون العلني في الشق الأمني.
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه ما إذا كان يهمّ الدول العربية الرائدة في هذه المرحلة أن توفّر غطاءً سياسيًا لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين على حدٍ سواء. ويعبّر كل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني عبدالله الثاني عن اهتمام دولتيهما بمثل هذا الأمر. إلّا أنّ دول الخليج العربية تبدو من جهتها منهمكًة في دراسة التهديدات الإيرانية المحدقة بها. أمّا السعوديون فمنشغلون ببرنامج التحول الوطني الخاص بهم. ومع ذلك، ونظرًا للتلاقي العام في المصالح الاستراتيجية، لم لا يتم النظر في إمكانية كسر الجليد بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟ ويبدو أن هذا هو حتمًا التفكير الكامن وراء مفهوم يسعى إلى ضخّ جهود جديدة ليحلّ السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين “من الخارج إلى الداخل”. ويرمز مفهوم نشر السلام هذا “من الخارج إلى الداخل” إلى تسخير مقاربة التعاون مع الدول العربية لتسوية الصراع الفلسطيني بدلًا من تسخير قضية الفلسطينيين لإنشاء علاقات بين إسرائيل والعرب. وكما ذكرتُ سابقًا، يحتاج الفلسطينيون والإسرائيليون على حدٍ سواء إلى غطاء عربي، ما يدعو الدول العربية إلى الاضطلاع، للمرة الأولى في تاريخها، بدورٍ في صنع السلام بين الحركات الوطنية الإسرائيلية والفلسطينية.
وتحدّث ترامب، في المؤتمر الصحفي الذي جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عن “اتفاق أكبر” ردًا على استشهاد نتنياهو بالدول العربية و بإحتمالية نشر السلام. وفيما تبدو فرص الاضطلاع بدور عربي أو إقليمي في نشر السلام وفيرًة، لا يجب المغالاة في هذا الأمر. فلا سبيل لتسوية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني من دون تكبّد أثمان باهظة. فإن كانت الدول العربية مستعدًة للاضطلاع بدورٍ جديد وتحمّل المسؤولية في هذا الصراع، سترغب في برهنة أنها تقدّم للفلسطينيين ما يعجز عن تقديمه لأنفسهم. ولن تتخلى عن التطلعات الفلسطينية القومية بل ستسعى إلى تحقيقها. ولن تقبل بنتيجة لا تضمن قيام دولة فلسطينية.
وفي نهاية المطاف، تتشارك إسرائيل والدول العربية السنية الرائدة التصورات عينها في ما يتعلق بالتهديدات المتربصة بها، كما يخلق تعاونها الضمني تطورًا جديدًا هامًا في المنطقة. فهل ستتمكن إدارة ترامب من الاستفادة من هذا التطور لمواجهة التهديدات الإيرانية والإسلامية السنية المتطرفة في المنطقة وتسخيره بنجاح لتسوية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني؟ ستتطلب الإجابة على هذا السؤال بعضًا من الوقت ودبلوماسيًة سريّةً فعالًة.
دينيس روس مستشار وزميل “وليام ديفيدسون” المتميّز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.