جاء اندلاع الموجة الأخيرة من العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين بعد توقيع اتفاقيات أبراهام بين إسرائيل وأربع دول عربية. وجاءت موجة العنف هذه كاختبار مبكر، غير مرغوب فيه، لشركاء إسرائيل الخليجيين الجدد. لن تلجأ الإمارات العربية المتحدة ولا البحرين لقطع العلاقات الدبلوماسية، ولن تضحيا بالروابط الاستراتيجية الوليدة مع إسرائيل. لكن هذه الموجة كشفت عن حقائق صعبة، وضاعفت من الثمن السياسي الداخلي والإقليمي.
أولاً، كشفت موجة العنف الأخيرة هذه عدم قدرة هذه الدول عن كبح جماح التوسع الإسرائيلي، لا سيما في القدس، المدينة التي تتمتع بأهمية دينية وسياسية. ثانيًا، عملت على احياء التضامن العربي والإسلامي، وأعادت القضية مجددًا لارتكاز الهوية السياسية على القومية والتداخل مع الديني. حيث أدخلت نشاطًا جديدًا على وسائل التواصل الاجتماعي، يقوم على أفكار المساواة والعدالة الاجتماعية، ويتردد صداه لدى الشباب. أخيرًا، أدت موجة العنف الأخيرة إلى تفاقم التوترات مع الجمهور المحلي. في الإمارات، قد يؤدي هذا القلق، لتعقيد الأجندة الطموحة للقيادة في توسيع الروابط بين الشعبين والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية مع إسرائيل. في البحرين، أدت موجة العنف إلى توسيع الفجوة بين الحكومة والمجتمع المدني، الذي أعرب عن رفضه الواضح لاتفاقيات أبراهام على الرغم من محاصرته.
الديناميكيات الحكومية
جاءت اتفاقيات أبراهام تتويجًا لسنوات من التنسيق الأمني والاستخباراتي الوثيق بين دول الخليج العربية الرئيسية وإسرائيل. نتجت هذه الخطوة، التي أضفت الطابع الرسمي على العلاقات الثنائية مع إسرائيل، من اعتبارات استراتيجية كبيرة مفادها أنه مع ضعف المظلة الأمنية الأمريكية وتصاعد التنافس الإقليمي، يمكن للشراكة المفتوحة مع إسرائيل أن تجلب فوائد اقتصادية وأمنية ملموسة. لكنها كانت أيضًا تنطوي على مقامرة مفادها أن تطوير الروابط السياسية والاجتماعية يمكن مع مرور الوقت أن يضع حدًا لطموحات إسرائيل التوسعية، أو على الأقل يكبحها، إلى حد ما، لكي يتيح للعلاقات أن تنضج.
وهكذا، فإن اشتعال الأحداث مؤخرًا يمثل تدخلاً غير مرغوب فيه وتحديًا لهذه الافتراضات. فقد نقلت هذه الأحداث الاهتمام من الصفقات الاقتصادية والشراكات الجديدة، التي تميل لها الإمارات والبحرين، إلى المشكلة الفلسطينية المستعصية، التي لا ترتاح لها هاتان الدولتان. إن الرهان الإماراتي – أو الذريعة على الأقل – بأن التقارب مع الإسرائيليين سيفضي إلى مزيد من السلام، وتحسين الظروف الأمنية، ونتائج أفضل للفلسطينيين لم يؤتِ أُكُله بعد، على الأقل ليس في هذه المرحلة المبكرة. نقطة الاشتعال الأولى – وهي عمليات الإخلاء المخطط تنفيذها بحق الفلسطينيين من منازل في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية – هي ذلك النوع من النشاط التوسعي، الذي ادعى الإماراتيون أنهم سيحولون دونه في الاتفاقية التي تنص على وقف أي ضم إسرائيلي لأجزاء من الضفة الغربية.
ما إن تصاعد العنف ليشمل المسجد الأقصى، والهجمات الصاروخية لحركة حماس ضد إسرائيل، والضربات العسكرية الإسرائيلية ضد غزة، لم يعد لشركاء إسرائيل الجدد في الخليج دور مهم يلعبونه. حيث جاءت التدخلات الهادفة والدور المؤثر من دول عربية أخرى، كالأردن، التي لها مكانتها في القدس، ومصر وقطر، اللتين تحتفظان بعلاقات مع حركة حماس وغزة. وما تزال الإمارات والبحرين تدينان بشدة الاعتداء الإسرائيلي على الأقصى. كما تحركت الإمارات على نحو سريع لدعم موقف الأردن، باعتباره صاحب السلطة الرئيسية على الأماكن المقدسة في القدس، وضمت صوتها لأولئك الساعين لإنهاء إراقة الدماء، مطالبة بوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس. وتم عقد اجتماع بين وزير خارجية البحرين ووزير خارجية السلطة الفلسطينية، ربما في محاولة لدعم موقف داخلي متزعزع.
كما أنه ليس من المرجح أن يكون هذا هو الاختبار الوحيد للروابط الجديدة. فالتحركات في ظل حكومة يقودها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تختلف تمامًا عن تلك التي سادت الحقبة المبكرة لاتفاقيات أوسلو، عندما كان بإمكان الشركاء العرب تعزيز الجهود الإسرائيلية في التوصل لسوية مع الفلسطينيين. ليس من المرجح أن تنتهي الاستفزازات اليوم في ظل ضغط المستوطنين للحصول على امتيازات في القدس الشرقية، وقيام الحكومة القومية العنصرية بتنفيذ سياسات، مثل قانون يهودية الدولة، الذي يعلن إسرائيل وطنًا تاريخيًا للشعب اليهودي، ما يؤدي إلى تفاقم التوترات مع المجتمع العربي داخل إسرائيل.
الديناميكيات الشعبية
إن التوافق الاستراتيجي لدولة الإمارات مع إسرائيل يجلب لها شريكًا قويًا في مجالات الأمن والاستخبارات والتكنولوجيا والأعمال التجارية. ولكنه يمثل أيضًا محاولة لإعادة صياغة سياسات المنطقة.
تاريخيًا، خلقت الأزمة الفلسطينية تضامنٍ شاملٍ عربيٍ وإسلامي. وتجلت هذه المشاعر الصادقة والقوية بين الجماهير. لكنها تسببت كذلك في حروب “المزايدات”، حيث ناصرت الدول والحركات القضية الفلسطينية لتعزيز مواقفها السياسية أمام مواطنيها وأمام الجماهير العربية والإسلامية على نطاق واسع. يسعى النهج الإماراتي الجديد لإحباط هذه الاستراتيجية، التي غالبًا ما تعود بالنفع على إيران والحركات الإسلامية السنية، بمن في ذلك الجهاديون السلفيون.
لمواجهة ذلك، ولتسهيل التواصل الاستراتيجي مع قوى غير إسلامية (إسرائيل، وكذلك الهند وروسيا)، دأبت الإمارات على الترويج لأجندة الحوار بين الأديان وحملات التسامح. تعد أجندة “السلام” هذه محور الترويج لعلاقات جديدة بين الشعبين الإماراتي والإسرائيلي. جلبت الأشهر العديدة الأولى من اتفاقيات أبراهام عشرات الآلاف من السياح الإسرائيليين، إضافة إلى الوفود التجارية والاجتماعية الإسرائيلية الساعية لتوسيع العلاقات. وتم الانتهاء من وضع الخطط للتبادل التعليمي والتعاون الصحي جنبًا إلى جنب مع المشاريع التجارية الجديدة.
رحبت حسابات تويتر، ذات النزعة الوطنية، بهذا النوع من العلاقات بين الجانبين. وفي هذه الأثناء، تم إسكات الشكوك الشعبية أو صياغتها بعبارات لا تتعارض صراحة مع عملية صنع القرار الإماراتي- مراعاةً لتحذير تم توضيحه عندما انطلقت الاتفاقيات.
لم تشكل الاضطرابات الأخيرة تراجعًا جوهريًا عن هذا الالتزام، لكنها زادت من حدة تناقضاته الجوهرية. فهو من الناحية الخطابية يعيد احياء ويعزز التضامن العربي والإسلامي على حساب الأجندة الوطنية والدينية، التي تدعمها الحكومة، وتشكل سياستها الخارجية الطموحة. وأصبح الداعمون للفلسطينيين أكثر جرأة في التعبير عن تعاطفهم بشكل علني. واتخذت الحسابات ذات النزعة الوطنية، التي ترحب بالانخراط مع إسرائيل، موقفًا دفاعيًا، بل وتم توبيخها على الملأ.
في حين أن الفضاء الإعلامي الإماراتي يتم تنظيمه بشكل صارم، إلا أنه ليس بمقدور الإمارات السيطرة على المشهد العربي والخليجي الأوسع. فقد تم الترويج للمظاهرات المؤيدة للفلسطينيين أمام البرلمان في الكويت على نطاق واسع، ورافق ذلك نداءات للآخرين في جميع أنحاء الخليج للانضمام بشكل رمزي من خلال التعبير عن دعمهم على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي قطر تم تنظيم تظاهرة تضامنية عامة حضرها مئات الأشخاص، وتخللها خطاب ألقاه القائد السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية. لقد دعمت العديد من شبكات التواصل الاجتماعي العربية التقليدية الفلسطينيين بقوة، بما في ذلك رد حركة حماس العسكري، وأدانت علانية قيام الإمارات والبحرين بتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
توافقت المزيد من الدعوات الإسلامية والعربية التقليدية من خلال حملات شبابية نشطة على الإنترنت تركز على العدالة الاجتماعية وحقوق الأقليات. ووجدت صور الاحتجاجات الفلسطينية ووحشية الشرطة صدى لها لدى حملات العدالة الاجتماعية الأخرى مثل حياة السود مهمة ((Black Lives Matter في الولايات المتحدة، وأقامت جسورًا مع هذه الحملات. وتم كذلك توجيه نداء للعديد من سكان الحضر في الخليج، ما تسبب في جلب نشاط شبابيٍ جديدٍ، وهو ما أعاد الحيوية للقضية الفلسطينية من جديد.
يبدو أن القيادة البحرينية أكثر تحفظًا في تشكيل التصورات العامة. وقد يكون هذا ناجمًا عن الإرث الثقيل الواقع على الدولة جرّاء النشاط السياسي واندماج المجتمع المدني في القضية الفلسطينية. وعبّر قطاع كبير من المجتمع البحريني بشكل أقوى عن غضبه إزاء الأعمال الإسرائيلية. جرت احتجاجات متفرقة في القرى الشيعية، وتم نشرها على الإنترنت على الرغم من الضوابط الأمنية المشددة التي تم فرضها منذ انتفاضة 2011. قامت طائفة واسعة من المؤسسات السياسية والمنظمات غير الحكومية بالتنسيق فيما بينها لإصدار بيان جماعي يرفض اتفاقيات أبراهام، ويطالب بإنهاء العلاقات الدبلوماسية وطرد السفير الإسرائيلي.
يعد دمج الحركات الإسلامية السنية في هذا البيان – جمعية المنبر الوطني الإسلامي، المرتبط بالإخوان المسلمين، وجمعية الأصالة الإسلامية السلفية السياسية – أمرًا جديرًا بالملاحظة، لأن هاتين الحركتين كانتا تقليديًا من الركائز التي تدعم الحكومة. رفضت جمعية المنبر الوطني الإسلامي الاتفاقيات حين تم توقيعها، لكنها تراجعت عن ذلك، على الأرجح تحت ضغط من الحكومة، وتراجعت بذلك عن موقفها في رفض المشاركة في أنشطة التطبيع. أما الآن فقد عادت الجمعية لرفض موقف الحكومة بالكامل.
مستقبل الاتفاقيات
نجحت الإمارات في تجاوز النزاع على نحو يحافظ على سلامة علاقاتها الحساسة مع إسرائيل، وصولا لدعوة متوازنة لوقف إطلاق النار بما يتوافق تمامًا مع الموقف الأمريكي. ومع ذلك، فإن التدهور الأخير في النزاع المفتوح في القدس وغزة قد أكد مدى ضآلة تحكم الدول الخليجية الموقعة [على الاتفاقيات] في سلوك إسرائيل. وأدت عمليات الإخلاء الإسرائيلية المخطط إجراؤها في الشيخ جراح واقتحام المسجد الأقصى في شهر رمضان إلى تأجيج مشاعر التعاطف والتضامن الجماهيرية مع الفلسطينيين، الأمر الذي يؤدي لتعقيد حملة التطبيع الإماراتية العلنية والحازمة، وزيادة المسافة الفاصلة بين القيادة البحرينية والمشاعر العامة.
تعمل التوجهات القومية الجديدة على إزاحة التضامن العربي والإسلامي، ما يسمح للإمارات والبحرين بالسعي لتحقيق مصالحهما الوطنية بما في ذلك العلاقات الجديدة مع إسرائيل. أما في داخل إسرائيل، فإن صعود الوطنية العنصرية سيدفع باتجاه مزيد من التوسع الإسرائيلي والتشريد للفلسطينيين. ربما يكون هذا هو الاختبار الأول لاتفاقيات أبراهام، لكن من المؤكد أنه لن يكون الاختبار الأخير.