التعديلات التي أعلنها الرئيس دونالد ترامب في بنية فريقيه الديبلوماسي والاستخباراتي قبل أيام، بما فيها إقالة وزير الخارجية ريكس تيلرسون وتعيين مدير وكالة الاستخبارات المركزية مايك بومبيو مكانه، والتغييرات الجديدة المتوقع الإعلان عنها في الأسابيع المقبلة، سوف يكون لها تأثير ملحوظ، وربما جذري، على مجمل سياسات ومصالح واشنطن في الشرق الأوسط، وتحديدا مستقبل الاتفاق النووي مع إيران، واحتمال اتخاذ مواقف وإجراءات متشددة أكثر في التصدي لنشاطات طهران والميليشيات التابعة لها والمعادية لواشنطن وحلفائها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
تغيير العلاقة مع إيران، سيؤدي حتما إلى تشدد أكثر في التعامل مع حزب الله، وذلك في الوقت الذي تتزايد فيه التوقعات والتكهنات في المنطقة وفي أوساط المحللين الاستراتيجيين في واشنطن، باقتراب التوتر بين إسرائيل وحزب الله من نقطة الانفجار .
وأعربت مصادر خليجية عن ارتياحها لتعيين بومبيو وزيرا للخارجية، مشيرة إلى أنه خلال إدارته لوكالة الاستخبارات المركزية سعى إلى تعزيز التعاون والتنسيق الاستخباراتي وتحديدا مع السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. وقال أحد المصادر إن “العالم سوف يرى في مايك بومبيو وزيرا للخارجية منسجم سياسيا وايديولوجيا مع الرئيس ترامب، وقادر على التحدث باسمه”، وذلك في إشارة ضمنية إلى المواقف السياسية المتباينة بين ترامب ووزير خارجيته المقال تيلرسون حول عدد من القضايا الخارجية والأمنية الحساسة، إضافة إلى التباين في المزاج وأسلوب العمل. وليس سرا أن علاقات تيلرسون مع الرياض وأبو ظبي قد اتسمت بالفتور، وأحيانا بالتوتر، بعد القطيعة بين السعودية والإمارات ومصر والبحرين من جهة وقطر من جهة أخرى في حزيران/يونيو 2017، حيث أبدى تيلرسون تعاطفا ملحوظا مع قطر بسبب علاقاته القديمة مع القيادة القطرية خلال رئاسته لشركة إكسون- موبيل للطاقة، بينما وقف الرئيس ترامب وراء الرباعية العربية وخاصة طلبها الرئيسي من قطر المتمثل باتهامات دعم وتمويل التنظيمات والحركات الإسلامية المتشددة التي تتهمها الرباعية العربية وواشنطن بممارسة الإرهاب. إحباط تيلرسون في تعامله مع السعودية والإمارات ازداد بعد أن أدرك أن الدولتين لن تتعاونا مع جهوده الأولية للتوسط لحل النزاع. جاء تعيين بومبيو وزيرا للخارجية في الوقت الذي انعدمت فيه كليا إمكانية عقد قمة خليجية-أمريكية في كامب ديفيد بسبب الأزمة مع قطر، في الوقت الذي ألمحت فيه مصادر أمريكية بعد عودة المبعوث الخاص الجنرال المتقاعد أنتوني زيني، ومسؤول شؤون الخليج في الخارجية تيموثي لينديركينغ من جولتهما الخليجية، بأن الجولة أكدت أن فرص حل الأزمة الخليجية غير متوفرة في المستقبل المنظور.
تيلرسون وحيدا
منذ أن وصف تيلرسون في لحظة غضب الرئيس ترامب “بالأحمق” (التي سبقتها شتيمة) أمام عدد من المسؤولين في وزارة الدفاع في تموز/يوليو الماضي، أصبحت إقالته مسألة وقت فقط، خاصة وأنه لم ينف صحة ما نُسب إليه. وتحول وفقا لتعبير أمريكي معروف بالرجل الميت الماشي Dead man walking. وسعى ترامب إلى إحراج تيلرسون علنا لإرغامه على الاستقالة، وكان يفعل ذلك في تغريداته، ومنها قوله لتيلرسون بأن لا “يضيع” وقته بعد أن دعا وزير الخارجية إلى اتباع السبل الديبلوماسية لحل أزمة الترسانة النووية والصاروخية لكوريا الشمالية. ولم يتردد ترامب في قبول دعوة كوريا الشمالية للقاء قمة بينه وبين زعيم كوريا الشمالية كيم يونغ أون، دون أن يستشير تيلرسون الذي كان يجول في افريقيا لإصلاح سمعة الولايات المتحدة بعد إهانة ترامب للقارة بكاملها حين وصفها “بحفرة القاذورات”. ووفقا لتقارير صحفية، أراد ترامب أن يقيل تيلرسون خلال جولته الافريقية ليزيد من حدة إهانته، ولكن مدير البيت الأبيض الجنرال جون كيلي تمنى عليه تأجيل توجيه الضربة القاضية لحين عودة الوزير إلى واشنطن. وهكذا علم تيلرسون مثله مثل ملايين الأمريكيين أن ترامب أقاله من منصبه في تغريدة صباحية. وحين شرح ترامب للصحفيين خلفية قراره أثنى على ذكاء بومبيو، مضيفا “ونحن دائما نفكر بالطريقة ذاتها”. وأشار ترامب إلى أن لتيلرسون “عقلية مختلفة” عن عقليته، واختار أن يركز على اختلافهما حول الاتفاق النووي مع إيران، قائلا “عندما ننظر إلى الاتفاق مع إيران، أنا اعتقد أنه فضيع، بينما يقول (تيلرسون) أنه مقبول”، مضيفا أنه كان يريد “إما تفكيكه” أو تعديله، بينما دعا تيلرسون إلى صيانته “ولذلك لم نكن نفكر بالطريقة ذاتها”. الخلافات السياسية بين تيلرسون وترامب عديدة، حيث عارض وزير الخارجية المُقال قرارات ترامب بالانسحاب من اتفاقية باريس للبيئة، كما عارض إجراءات الحماية التجارية، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب في إسرائيل إلى القدس والاعتراف بها كعاصمة لإسرائيل. وكان ترامب يعتبر ذلك تفكيرا دبلوماسيا “تقليديا”. لم يذرف أحد الدموع على إقالة تيلرسون لأنه فرّغ وزارة الخارجية من أفضل كوادرها، وترك مناصب عديدة شاغرة، كما قبل قرار البيت الأبيض تخفيض ميزانية الوزارة بثلاثين بالمئة. كما لم يفلح تيلرسون بتطوير علاقات جيدة مع أعضاء الكونغرس، وأمضى سنة كاملة في واشنطن …وحيدا.
ترامب وتحديات آيار/مايو النووية
خلال حملته الانتخابية تعهد ترامب مرارا في حال انتخابه بالانسحاب من الاتفاق النووي الذي كان يصفه بأنه أسوء اتفاق وقعت عليه أمريكا في تاريخها. ولذلك لم يكن مرتاحا حين اضطر تحت ضغوط تيلرسون ووزير الدفاع جيمس ماتيس وأجهزة الاستخبارات للتصديق – وإن بتردد كبير – على التزام إيران ببنود الاتفاق، وفقا لقرار بهذا الشأن من الكونغرس. وفي تشرين الأول/أكتوبر أبلغ ترامب الكونغرس أنه سيرفض التصديق على التزام إيران ببنود الاتفاق (وهو أمر اكدته اجهزة الاستخبارات الأمريكية) ولكنه لن ينسحب من الاتفاق.
ولكن ترامب أصدر في كانون الثاني/يناير تحذيرا للكونغرس والدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) من أنه إذا لم ينجحوا في “إصلاح الأخطاء الكارثية في الاتفاق” فإنه سينسحب منه. وتعتبر التعديلات التي يريدها ترامب جذرية وتتمحور حول تقييد برامج الصواريخ (الاتفاق لا يتطرق إلى الصواريخ) وتشديد قوانين الرقابة على المنشآت الإيرانية، وإعطاء فرق التفتيش الدولية حرية دخول المنشآت الإيرانية العسكرية، وهي شروط رفضتها إيران بشكل قاطع. ومع ذلك سعى تيلرسون للبحث مع الأوروبيين في سبل التوصل إلى تسوية، وتم الاتفاق على عقد اجتماع لجميع الأطراف الموقعة على الاتفاق بما فيها إيران وروسيا والصين اليوم (الجمعة). ويعتبر يوم الثاني عشر من آيار/مايو المقبل الموعد الذي يفترض أن يتخذ ترامب فيه قراره النهائي بشأن الاتفاق، أي أما التصديق على الاتفاق في حال نجح الكونغرس والدول الاوروبية في اقناع إيران وبقية الأطراف الموقعة على الاتفاق بقبول التعديلات التي طلبها ترامب وهو أمر غير متوقع، أو الانسحاب من الاتفاق، إذا أراد ترامب أن ينفذ التحذير الذي أطلقه في مطلع السنة. ولكن آيار/مايو يتضمن تاريخا هاما يمكن أن يؤثر على قرار ترامب بشأن مستقبل الاتفاق النووي مع إيران، أي موعد القمة الأمريكية-الكورية الشمالية التي يفترض أن تعقد في نهاية الشهر، وأن لم يحدد موعدها النهائي حتى الآن. والسؤال المطروح الآن هو : هل يجازف ترامب ببعث رسالة مسبقة لكوريا الشمالية، إذا قرر الانسحاب من الاتفاق الإيراني، تقول بأن أمريكا لا تحترم توقيعها على اتفاقية دولية؟ وأن يفعل ذلك قبل اسبوعين من القمة، ومع دولة معروفة بتقلباتها وخوفها من العالم الخارجي؟
معارضو الاتفاق النووي مع إيران رأوا في تعيين بومبيو المعروف بسجله كعضو جمهوري محافظ في مجلس النواب، وكمدير لوكالة الاستخبارات المركزية بمواقفه المتشددة تجاه إيران ورفضه القوي للاتفاق النووي، مؤشرا واضحا بأن الرئيس ترامب يريد، كما قال “تفكيك” الاتفاق، من خلال إعادة فرض العقوبات الاقتصادية التي رفعت عن إيران بعد توقيع الاتفاق في 2015. إعادة فرض العقوبات، سوف يضع الدول الأوروبية في وضع حرج، وسوف يفرض عليها أما أن تختار مواصلة التعامل التجاري مع إيران والمجازفة بأن تطال العقوبات الأمريكية مصارفها، او أن توقف تعاملها التجاري مع إيران. وفي حال انهيار الاتفاق، واذا قررت الدول الاوروبية وقف التعامل التجاري مع إيران، عندها يمكن أن تعلن طهران أنها لم تعد ملتزمة بالاتفاق، وأن تستأنف بسرعة احياء برنامجها النووي بكامله بما في ذلك عسكرته. واذا استأنفت إيران برنامجها النووي بكامله واقتربت من تصنيع قنابل نووية وطورت صواريخ قادرة على حملها، عندها ستزداد احتمالات قيام اسرائيل، أو الولايات المتحدة، أو الاثنين معا باللجوء إلى الخيار العسكري لتدمير قدرات إيران النووية والصاروخية، في معركة ستكون مكلفة وتؤدي إلى تغيير موازين القوى بشكل جذري في المنطقة.
ومن المتوقع أن يواجه ترامب وبومبيو، المعارضة ذاتها من وزير الدفاع جيمس ماتيس والمؤسسة العسكرية للانسحاب من الاتفاق. وقبل أيام قال الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية المسؤولة عن القوات الأمريكية المنتشرة في الشرق الأوسط أن الاتفاق النووي، قد لعب دورا هاما في تقييد طموحات إيران النووية. ورأى أن الغاء الاتفاق ” يعني أننا يجب أن نعثر على وسيلة اخرى لمعالجة برنامج الأسلحة النووية ” الإيرانية. ولكن الرئيس ترامب، بعد مرور أكثر من سنة على وجوده في البيت الأبيض قد اثبت أنه لا يتصرف بطريقة تقليدية ولا يتخذ قراراته بما فيها القرارات الخارجية وفقا للاعراف المعمول بها، وهذا يعني أن مستقبل الاتفاق النووي مع إيران غير مضمون، لا بل في خطر، وأن ترامب يمكن أن ينسحب منه… وأن يعلن عن ذلك في تغريدة.
التحدي الإيراني الإقليمي
ولكن التحدي الإيراني ليس محصورا بطموحات إيران النووية، لا بل يمكن القول إنه في المستقبل المنظور، يشكل السلوك الإيراني الاقليمي، مصدر الخطر الآني الذي تشعر به دول الخليج وغيرها من دول المشرق بما فيها اسرائيل القلقة من نجاح إيران في إقامة وجود عسكري ثابت لها ولحزب الله في جنوب سوريا، وهو تطور الزمت حكومة إسرائيل نفسها برفضه، وكذلك الولايات المتحدة. ويوم أمس (الخميس) كشف مستشار الأمن القومي إتش آر ماكماستر أن “إيران منذ 2012 قدمت 16 مليار دولار لنظام الأسد ولغيره من القوى التي تحارب بالوكالة عنها في سوريا والعراق واليمن”. وأضاف الجنرال ماكماستر في خطاب ألقاه في متحف المحرقة النازية بمناسبة الذكرى السابعة لبدء الحرب في سوريا، أن إيران تنقل أفراد الميليشيات الشيعية الأجنبية مع أسلحتها من إيران إلى سوريا في رحلات جوية غير شرعية تستخدم فيها الطائرات المدنية. وراى ماكماستر أن هدف إيران هو أن تضمن لنفسها وجودا عسكريا ثابتا في سوريا سوف يشكل خطرا على إسرائيل ويقوض مصالح الولايات المتحدة ويعزز من قوة الإرهابيين والقوى التي تستخدمها إيران في حروب الوكالة لإضعاف الدول العربية. وأضاف “ونحن لا يمكننا أن نقبل بذلك”.
اللافت أنه بعد ساعات من القاء هذا الخطاب، نشرت صحيفة واشنطن بوست تحقيقا أكدت فيه صحة تسريبات وتكهنات نشرت في الأسابيع الماضية تفيد بأن الرئيس ترامب يريد إقالة مستشاره لشؤون الأمن القومي الجنرال إتش آر ماكماستر، وأنه يبحث عن البديل وتوقيت إعلان القرار، وأنه يعتقد أن ذلك سيتم قبل لقاء القمة بين ترامب وكيم يونغ أون. ومن بين الأسماء المرشحة لخلافة ماكماستر، السفير الأمريكي السابق لدى الأمم المتحدة جون بولتون الذي يعتبر من غلاة المحافظين والمتشددين والمتحمسين لتوجيه ضربة عسكرية لإيران. تعيين بولتون في مثل هذا المنصب الحساس، سوف يقرب أمريكا وإسرائيل من مواجهة مع إيران، سوف تشعل في حال حدوثها جبهة قتال تمتد من مياه البحر المتوسط وبرا حتى الحدود الإسرائيلية-الأردنية، لأن حزب الله سوف يطلق صواريخه ضد إسرائيل من الأراضي اللبنانية والسورية معا.
المحللون العسكريون في المنطقة وفي الولايات المتحدة، يتحدثون الآن عن سير إسرائيل وحزب الله معا، وإن ببطء على طريق المواجهة العسكرية الحتمية، خاصة وأن إيران قد زودت حزب الله مؤخرا بآليات جديدة مصممة لتحسين دقة الصواريخ التي يملكها. وحتى الآن لا يوجد هناك تأييد في وزارتي الخارجية والدفاع لأي حرب إسرائيلية شاملة ضد لبنان، وخاصة في غياب عمل استفزازي كبير. وصحيح أن المسؤولين المدنيين والعسكريين الأمريكيين يدركون أن الجيش اللبناني لن يتصدى عسكريا لحزب الله، ولكنهم يشيدون بدور الجيش اللبناني في التصدي لإرهاب تنظيم “الدولة الإسلامية” وتنظيم القاعدة في السنوات الماضية. وتقول مصادر مطلعة إن هناك ضباطا أمريكيين متواجدون في قاعدة القليعات الجوية في شمال لبنان يقدمون المشورة للجيش اللبناني. مسؤولون في واشنطن يقولون إن أي حرب جديدة بين إسرائيل وحزب الله ستكون كارثية للطرفين، واذا استمرت لأسابيع، فإنها ستخلق موجة جديدة من اللاجئين اللبنانيين، الذين سيجدون طريقهم إلى أوروبا، وهذا آخر ما تريده أمريكا والاتحاد الأوروبي. ولكن هذه المخاوف الشرعية، لا تكفي لردع إسرائيل أو حزب الله. ويذكر المسؤولون الأمريكيون بأن الحرب قد تنشب بسبب حوادث مفاجئة وغير مقصودة كما حدث في 2006. ويشيرون إلى التطورات العسكرية الخطيرة التي شهدتها سوريا في الأسابيع الأخيرة وأدت إلى سقوط مروحية تركية، ومقاتلة روسية، وقاذفة إسرائيلية، وطائرة إيرانية من دون طيار، ومواجهة أمريكية كبيرة ضد مرتزقة روس في شمال شرق البلاد (وأدت إلى مقتل عدد كبير منهم على يد الأمريكيين)، في تطور عسكري نوعي ومقلق للغاية. ويضيف هؤلاء أن أي من هذه الحوادث يمكن أن يؤدي إلى نزاع أشمل.
كل هذه التطورات، تأتي عشية أول زيارة يقوم بها الأمير محمد بن سلمان بصفته وليا للعهد السعودي إلى واشنطن، والذي سيكون الوضع الأمني في الخليج، ونشاطات إيران الإقليمية في طليعة القضايا التي سيناقشها مع الرئيس ترامب وفريقه السياسي والأمني، ومن بينهم وزير الخارجية المعين مايك بومبيو، إضافة إلى قيادات الكونغرس.