يواجه الرئيس المنتخب جوزيف بايدن أولويات داخلية ملحّة وتحديات خارجية ضاغطة، تتطلب اهتماماً سريعاً قل ما واجهها رئيس أميركي في العقود الأخيرة: جائحة كورونا (الأخطر منذ أكثر من قرن، والتي تحصد يومياً حوالي 2500 أميركي)، وأزمة اقتصادية هي الاسوأ منذ الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الماضي، على خلفية أزمة سياسية خلقها الرئيس ترامب، الذي لا يزال بعد أكثر من شهر من هزيمته الانتخابية يرفض الاعتراف رسمياً بشرعية الرئيس المنتخب، الذي حصل على أكثر من 81 مليون صوت. خارجياً يواجه بايدن علاقات متوترة سياسياً وتجارياً واستراتيجياً مع كل من الصين، المنافس الاقتصادي الأول للولايات المتحدة في العالم، وروسيا التي تهدد مصالح حلفاء واشنطن في أوروبا، والتي تعتمد سياسات عدائية تجاه بعض جيرانها، مثل أوكرانيا وغيرها. وفي السنوات الأخيرة زادت موسكو من تدخلها العسكري والسياسي في الشرق الأوسط، وتحديداً في سوريا وليبيا على حساب مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، الذين يخشون من سعي واشنطن في المدى البعيد إلى تخفيض حضورها العسكري ودورها السياسي في المنطقة الممتدة من جنوب آسيا إلى شمال افريقيا.
بايدن تعهد باتخاذ قرارات تنفيذية لنقض قرارات اتخذها سلفه ترامب لا تتطلب موافقة مجلس الشيوخ، مثل العودة إلى اتفاقية باريس حول التغيير البيئي، والغاء قرار حظر سفر رعايا عدد من الدول ذات الأكثرية المسلمة، وغيرها من القرارات المتعلقة بالهجرة وغيرها، التي أثارت، ولا تزال تثير، الكثير من الجدل. وبما أن ترامب، الذي حصل على تأييد أكثر من 74 مليون ناخب سوف يبقى قوة سياسية لا يمكن الاستهانة بها، سوف يواجه بايدن صعوبة بالغة في إعادة تحصين وتعزيز المؤسسات والأعراف والتقاليد الديموقراطية التي أضعفها ترامب، بما فيها استقلالية القضاء الأميركي، والتشكيك بصدقية الأجهزة الحكومية، مثل أجهزة الاستخبارات التي يدعي ترامب أنها جزء من “الدولة العميقة” التي تريد حرمانه من ولاية ثانية، وتحريض أنصاره ضد الصحافة الحرة ونعتها “بعدوة الشعب”، وذلك على خلفية وجود 75% من الأميركيين الذين يقولون أن ثقتهم بالسلطات الفيدرالية قد انحسرت، وفقا لأحد استطلاعات الرأي.
إذا بقي مجلس الشيوخ في أيدي الجمهوريين – وهي مسألة سوف تقررها انتخابات فرعية في ولاية جورجيا في مطلع يناير المقبل – لن يستطيع الرئيس الجديد اتخاذ أي مبادرات خارجية هامة، مثل إعادة النظر بالعلاقات مع الصين، التي ازدادت توتراً منذ الجائحة والعقوبات الاقتصادية التي فرضها عليها الرئيس ترامب، أو إحياء وتطوير الاتفاق النووي مع إيران، الذي وقعته في 2015 إدارة الرئيس أوباما (ونائبه بايدن)، والذي انسحب منه ترامب في 2018، دون موافقة الأكثرية الجمهورية في المجلس.
أي محاولة من قبل بايدن لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، ستواجه معارضة من كتلة عربية-خليجية بالتحديد، واسرائيل سوف تعرب عن معارضتها علناً، كما فعل رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو قبل يومين. ولكن بايدن سيجد هذه الكتلة تقف ورائه وتدعمه في أي مواجهات متوقعة مع تركيا لردع “السياسات العدائية” التي يعتمدها الرئيس رجب طيب أردوغان، وفقا لما قاله لنا مسؤول خليجي بارز، ترى حكومته أن تركيا تشكل اليوم خطراً عليها وعلى دول عربية أخرى، مثل سوريا وليبيا، يفوق حتى خطر النظام الإيراني والميليشيات التابعة له في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بسبب امتدادها السنّي، من خلال علاقاتها مع التنظيمات الاسلامية العربية المتعاونة مع أنقرة.
خلال حملته الانتخابية أكد بايدن، وفي أكثر من مناسبة، تصميمه في حال انتخابه على محاولة احياء الاتفاق النووي مع إيران كمقدمة لتوسيعه، ولضبط البرنامج الصاروخي الذي تواصل إيران تطويره، إضافة إلى التنسيق مع الحلفاء لردع سياسات طهران العدائية في عدد من الدول العربية. في سبتمبر/أيلول الماضي، قال بايدن أنه ليس لديه أوهام بشأن التحديات التي يمثلها النظام الإيراني لمصالح الولايات المتحدة الأمنية ولأصدقائها وللشعب الايراني، ولكنه أضاف إن “هناك طريقة ذكية لاعتماد موقف قوي تجاه إيران، وهناك طريقة ترامب…”. “الطريقة الذكية تقتضي إعلانه عن التزام قوي بمنع إيران من الحصول على سلاح نووي، ثم فتح طريق أمام إيران للعودة إلى التزام قوي بالاتفاق النووي، يتبعه عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق كنقطة بداية لمفاوضات لاحقة”. ورأى بايدن في مقال نشره في موقع شبكة سي إن إن، أنه سيعمل عندها مع الحلفاء لتعزيز وتقوية وإطالة بنود الاتفاق.
وقبل يومين، كرر بايدن هذا الموقف في مقابلة أجراها مع المعلق في صحيفة نيويورك تايمز توماس فريدمان. قال بايدن أنه بعد العودة إلى الاتفاق النووي، الذي سيؤدي إلى إلغاء العقوبات الاقتصادية، التي أعاد الرئيس ترامب فرضها على طهران في 2018، سوف “ننسق مع حلفائنا وشركائنا لإجراء مفاوضات لاحقة للتوصل إلى اتفاقات لتضييق القيود النووية المفروضة على إيران، إضافة إلى معالجة برنامجها الصاروخي”. وكذلك التصدي لسياسات إيران السلبية في الدول العربية. ورأى بايدن أن واشنطن سوف تحتفظ بخيار “إعادة فرض العقوبات إذا دعت الضرورة، وإيران تدرك ذلك”.
خلال أقل من 24 ساعة بعد مقابلة بايدن مع نيويورك تايمز، كرر بنيامين نتنياهو معارضته لعودة الرئيس بايدن للاتفاق النووي، وقال في حوار معه عبر الاقمار الاصطناعية مع الباحث مايك دوران “من الخطأ العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة [الاتفاق النووي]”. وأضاف نتنياهو أن الاتفاق وفر المال “والذهب” لإيران للقيام “بحملة للسيطرة” على المنطقة، خاصة في العراق وسوريا.
وحول ما إذا كان نتنياهو قلقاً من احتمال “مغادرة” الولايات المتحدة لمنطقة الشرق الأوسط، قال نتنياهو “نعم بالطبع. أعتقد انه سيكون من المؤسف جداً حدوث ذلك بالنسبة لنا، ولكن أيضاً للولايات المتحدة. وأيضا لحلفائنا العرب الجدد”، وذلك في إشارة إلى اتفاقيات إقامة العلاقات السياسية والاقتصادية بين اسرائيل وكل من دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين. وتابع نتنياهو “نرى انفراج السلام الآن، وأنا أعتقد أن مصلحة الولايات المتحدة تقتضي توسيع هذا السلام”. ووصف هذه العلاقات الجديدة بأنها تمثل تحالف الدول المعتدلة في المنطقة في مواجهة إيران والتطرف الديني بشقيه السنّي والشيعي.
ما عبّر عنه نتنياهو علناً، يتطابق مع ما تقوله مصادر خليجية سياسية وأكاديمية، وما يعبر عنه محللون كثر في واشنطن، إن اتفاقات تطبيع العلاقات بين اسرائيل وبعض الدول العربية مبنية على عدد من المسلمات، أبرزها توقع قادة هذه الدول ان تسرّع الولايات المتحدة من وتيرة انسحابها العسكري من المنطقة، وهي مسألة بدأت خلال ولاية الرئيس السابق باراك اوباما، الذي سحب القوات الأميركية من العراق في 2011 (قبل أن يضطر إلى إعادة بضعة آلاف جندي إلى العراق والقيام بحملة جوية دولية للتخلص من تنظيم ما سمي بالدولة الإسلامية (داعش) في 2014)، والذي حاول أيضا تقليص عديد القوات الأميركية في أفغانستان. وهذا ما فعله ترامب في الأسابيع الماضية، حين خفضّ عديد القوات الأميركية في البلدين إلى النصف، على أن تنسحب جميع القوات الأميركية من أفغانستان في منتصف 2021. وكان ترامب قد حاول سحب القوات الأميركية من سوريا، الأمر الذي تسبب بأزمة بينه وبين وزير دفاعه الأول جيمس ماتيس، ما أدى إلى استقالة ماتيس.
وهناك دعم قوي في الحزب الديموقراطي لتخفيض كبير في عديد القوات الأميركية في المنطقة ككل، ويحظى هذا الموقف بدعم من أقطاب جمهوريين في الكونغرس. وهناك معارضة متنامية في الكونغرس وفي أوساط الحزبين الديموقراطي والجمهوري لتخفيض المبيعات العسكرية لبعض دول المنطقة مثل تركيا والسعودية والإمارات ومصر لأسباب مختلفة، من بينها انتهاكات حقوق الانسان وحرب اليمن، التي خلقت معارضة قوية في الكونغرس، ولمعاقبة تركيا لشرائها لمنظومة S-400 الصاروخية الروسية، ولتدخلها السافر في سوريا ضد حلفاء واشنطن، وتحديداً الأكراد، الذين شاركوا بشكل فعال في القتال ضد تنظيم داعش.
تخفيض “البروفيل” الأميركي العسكري والسياسي في المنطقة، سوف يعجّل من عملية تنسيق المواقف والتعاون بين اسرائيل ودول عربية خليجية وغير خليجية ضد النظام الإيراني وعملائه من الميليشيات الشيعية في المنطقة، وضد تركيا وعملائها في الحركات الإسلامية السنية في المنطقة، حيث بدأت أنقرة باستخدام الجهاديين السنة في سوريا في حروبها بالوكالة في ليبيا، وفي دعمها لأذربيجان في صراعها مع أرمينيا، تماما كما تفعل إيران منذ سنوات طويلة.
حتى الآن ليس من الواضح كيف سيقوم بايدن بإحياء الاتفاق النووي مع إيران بعد 3 سنوات من العقوبات الأميركية القاسية، والتي ردت عليها طهران بزيادة كميات اليورانيوم المخصب لديها. وإذا بقي مجلس الشيوخ في أيدي الجمهوريين، سوف تبرز معارضة قوية ضد محاولة احياء الاتفاق النووي مع إيران دون تنازلات إيرانية واضحة، تشمل ليس فقط برنامجها النووي، بل أيضاً برنامجها الصاروخي، ووقف تدخلها التخريبي في العراق وسوريا ولبنان واليمن. ولن يكون بوسع بايدن إلغاء العقوبات ضد إيران دون موافقة الكونغرس. وسوف يحظى بايدن بدعم الديموقراطيين في الكونغرس لإحياء الاتفاق النووي مع إيران. وهذا ما عبر عنه الرئيس الجديد للجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب غريغوري ميكس، الذي قال إنه سيتعاون مع بايدن لإحياء الاتفاق النووي، بعكس الرئيس الديموقراطي السابق للجنة أليوت أينغلز، الذي عارض الاتفاق.
العلاقات الشخصية التي أقامها الرئيس ترامب مع قادة السعودية والإمارات ومصر وإسرائيل وتركيا، ومحاولاته ردع اجراءات وقرارات الكونغرس للضغط على هذه الدول، لن تتكرر مع الرئيس الجديد بايدن. ولن يكون من المستغرب ان تتسم علاقات بايدن مع قادة هذه الدول بالفتور، وربما بالتوتر إذا بدأ بالفعل في مراجعة علاقات واشنطن مع هذه الدول من منظور نقدي أكثر.