قرار الرئيس ترامب عدم الرد العسكري على إسقاط إيران لطائرة الاستطلاع الأمريكية الأسبوع الماضي أبعد البلدين عن حافة مواجهة عسكرية خطيرة كان يمكن أن تشعل منطقة الخليج بأكملها، ولكنه لم يلغ أي من الأسباب التي وضعت البلدين على طريق التصادم.
تفادي الاشتباك العسكري، لم يوقف الاشتباك أو التصعيد اللفظي أو حتى تبادل الإهانات. وبدا ترامب وكأنه يخفض من سقف التسامح الأمريكي مع أي تصعيد إيراني حين قال إن ” أي هجوم إيراني ضد أي شيء أمريكي سوف نرد عليه بقوة ساحقة، وفي بعض الحالات القوة الساحقة ستعني محي” مناطق إيرانية. تهديد ترامب يعني أنه إذا اسقطت إيران في المستقبل طائرة مسيّرة، ولم تكن هناك خسائر أمريكية بشرية، فانه سيرد عسكريا دون أن يردعه أي قلق جراء وقوع خسائر بشرية إيرانية، كما حدث فور اسقاط طائرة الاستطلاع من طراز RQ-4A Global Hawk التي تبلغ كلفتها 110 مليون دولار.
لجوء الرئيس ترامب إلى استخدام لغة غيبية-إنجيلية تصف نهاية العالم بتدمير شامل، ليست جديدة فهي تعكس ميله الطبيعي للمبالغة والمغالاة وتضخيم الأمور بغرض ترهيب خصومه من غضبه القادم لسحقهم، ولكن أيضا لطمأنة أنصاره من قدرته على حمايتهم. وقبل سنتين صعق المجتمع الدولي عندما هدد ترامب من وراء منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة كوريا الشمالية بالتدمير الشامل حيث قال إنه سيتعامل معها بالنار والغضب الجامح. طبعا، هذا كان قبل لقائه بزعيمها كيم يونغ أون في قمتين وبعد تبادل الرسائل “الجميلة” بينهما، وبعد وقوعهما – كما قال ترامب – في الغرام.
شكوك ومخاوف
قرار ترامب تفادي التصعيد العسكري قوبل بالارتياح حتى من قبل معارضيه وخصومه في الداخل وفي الخارج، وإن برزت أصوات في الداخل اتهمته بأنه أضر بقدرته في المستقبل على إقناع خصومه باتخاذ مواقفه وتهديداته على محمل الجد، ورأى بعضهم أنه ارتكب خطأ فادحا مماثلا لخطأ الرئيس السابق باراك اوباما عندما تراجع عن تهديده بتسديد ضربة عقابية لنظام بشار الأسد في سوريا في صيف 2013. وحذر بعض المراقبين من أن تراجع ترامب عن تنفيذ الضربة العسكرية قد يشجع القيادة الإيرانية على مواصلة مجازفاتها ليس فقط في تحدي الوجود العسكري في الخليج، بل أيضا مواصلة ضربها لمصالح حلفاء واشنطن في المنطقة وتحديدا دولة الإمارات العربية المتحدة والسعودية، أما بشكل مباشر أو من خلال القوى التي ترعاها إيران، مثل الحوثيين في اليمن.
ويعتقد أن هذه التساؤلات هي التي تفسر قرار وزير الخارجية مايك بومبيو إضافة السعودية ودولة الإمارات إلى جولته الآسيوية التي كانت مقررة مسبقا، لكي يشرح لقادة الدولتين ملابسات قرار ترامب وأبعاده، ولطمأنتهما بأن الردع الأمريكي لا يزال قائما. بومبيو تحدث عن ضرورة “تعزيز التحالف الاستراتيجي، وكيفية بناء ائتلاف لا يشمل دول الخليج العربية فحسب، بل دول آسيا وأوروبا، التي تدرك أهمية هذا التحدي وهي تقوم بالتحضير لصد أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم”. ولكن، تراجع ترامب عن تنفيذ الضربة العسكرية لمعاقبة إيران على اسقاط طائرة استطلاع أمريكية، سوف يعزز من قلق حلفائه في الخليج، من أن ترامب لن يتدخل عسكريا، للدفاع عن مصالحهم التي تستهدفها إيران مباشرة أو بشكل غير مباشر. وقال مصدر خليجي مطلع على الاتصالات الأمريكية-الخليجية، أن السعودية ودولة الإمارات والولايات المتحدة مقتنعون بأن إيران هي الطرف المسؤول عن تفجير ناقلات النفط في مياه الخليج.
مخاطر استمرار الوضع الراهن
انحسار احتمالات المواجهة العسكرية، لا يلغي أيضا حقيقة أن مختلف الأطراف المعنية لا تريد أو تقول إنها غير قادرة على التعايش مع الوضع الراهن لوقت طويل. المسؤولون الإيرانيون يقولون إنهم يعتبرون العقوبات الاقتصادية الأمريكية القاسية والشاملة بمثابة نوع آخر من الحروب، وإنهم لن يقبلوا بأن تكون إيران هي الدولة الوحيدة في الخليج غير القادرة على تصدير نفطها، ويهددون بأن حرمان إيران من تصدير النفط يجب أن يؤدي إلى حرمان الدول الأخرى. وللتدليل على أثر العقوبات الأمريكية على الاقتصاد الإيراني، تجدر الإشارة إلى أن إيران قبل سنة كانت تصدر مليونين ونصف برميل من النفط عبر الخليج، ولكن صادراتها انهارت في الأشهر الأخيرة حتى وصلت اليوم إلى تصدير حوالي 300 ألف برميل في اليوم. ولا يحتاج المرء لأن يكون خبيرا اقتصاديا ليدرك أن استمرار الوضع الراهن سيؤدي إلى شلّ الاقتصاد الإيراني.
في المقابل، استمرار تعطيل الملاحة في الخليج، وتفجير ناقلات نفط تملكها السعودية ودولة الإمارات، إضافة إلى ناقلات تملكها دول تستورد النفط من الخليج مثل اليابان، واستمرار الهجمات الصاروخية أو عبر الطائرات المسيرة من قبل الميليشيات الحوثية في اليمن ضد أهداف مدنية أو اقتصادية في العمق السعودي، يؤدي ليس فقط إلى خسائر مادية، ولكنه يتسبب أيضا بإحراج سياسي للبلدين. كما أن استمرارية جهوزية القوات الأمريكية في منطقة الخليج إضافة إلى التعزيزات الجديدة من عناصر بشرية وعتاد، مكلفة أيضا للولايات المتحدة. هذه العوامل مجتمعة توضح بشكل لا لبس فيه أن مختلف الأطراف المعنية مباشرة بالأزمة لن تتحمل عبئها الاقتصادي والسياسي والنفسي لوقت طويل، ما يطرح مرة أخرى السؤال الجديد- القديم والملح دائما: كيف يمكن إبعاد ظلال المواجهة العسكرية، حتى ولو لم يؤد ذلك إلى حل الخلافات القديمة بين واشنطن ودول الخليج العربية وإيران؟
البحث عن وسيط أو آلية للحوار
ترى الباحثة البارزة في مؤسسة بروكينغز للابحاث تمارا كوفمان ويتس أن التطورات التي أعقبت إسقاط طائرة الاستطلاع الأمريكية أظهرت أن الطرفين يدركان فداحة المواجهة العسكرية، وإن أشارت أيضا إلى احتمال حدوث مواجهة غير مقصودة نتيجة سوء في التقدير أو في الحسابات لا تزال عالية وتدعو للقلق. وتضيف ويتس، التي خدمت كمسؤولة في قسم الشرق الأوسط خلال الولاية الثانية للرئيس السابق أوباما في حوار خاص، أن حلفاء الولايات المتحدة في الخليج، وحتى إسرائيل لا يريدون حربا شاملة بين الولايات المتحدة وإيران، لأن خرابها سوف يطال الجميع، لأن إيران – كما يهدد قادتها – سوف تستهدف المنشآت الاقتصادية للدول العربية، كما يمكن أن تطلب من حزب الله في لبنان إشعال الجبهة اللبنانية-الإسرائيلية وشلّ الحياة في شمال إسرائيل. ومع أن ويتيس تقول إن حلفاء واشنطن في المنطقة يريدون ويدعون إلى ردع أمريكي أقوى لإيران، الا أنهم يدركون ايضا الثمن الباهظ لحرب شاملة في المنطقة. وهناك مخاوف مشروعة لهؤلاء الحلفاء تتعلق بقلقهم من مدى ثبات الرئيس الأمريكي على مواقفه أو مدى تنفيذه لأي وعود يقطعها لهم، أو تنفيذه لأي تهديدات يوجهها لإيران. وتشير ويتيس إلى أن هذه المخاوف بدت لهم بشكل سافر حين أعلن الرئيس ترامب في نهاية السنة الماضية عن سحب القوات الأمريكية من سوريا بعد مكالمة هاتفية مع الرئيس التركي طيب رجب أردوغان ودون الأخذ بنصائح العسكريين ووزير الدفاع حينها جيمس ماتيس، الأمر الذي فاجأ حلفاء واشنطن الأوروبيين والشرق أوسطيين.
وعلى الرغم من قتامة الصورة الراهنة، إلا أن تمارا كوفمان ويتس ترى أن هناك مؤشرات قد تكون واعدة. وهي تشير إلى أن الرئيس ترامب يكرر دائما رغبته بالتحاور مع إيران، ويكرر أنه مستعد لذلك “دون شروط مسبقة”. وترى أن الوزير مايك بومبيو الذي ألقى خطابا في السنة الماضية وطالب فيه إيران بتنفيذ 12 شرطا أمريكيا للحوار معها، يدعو الآن أيضا إلى مفاوضات “دون شروط”. طبعا، إيران تقول إنها لن تتحاور مع واشنطن في ظل العقوبات الراهنة ورفض العودة إلى الاتفاق النووي الدولي الذي انسحب منه الرئيس ترامب في السنة الماضية.
ولكن كيف يمكن كسر هذا المأزق؟ ترى الباحثة ويتس أن هناك احتمالين لخلق آلية لحوار أولي تتبعه مفاوضات أوسع. الاحتمال الأول هو بدء حوار إقليمي يشمل السعودية ودولة الإمارات من جهة وإيران من جهة أخرى، وربما شمل دول خليجية أخرى لا تزال بينها وبين طهران جسور مفتوحة. مثل هذا الحوار سوف يخفف وبسرعة من احتمالات المواجهات العسكرية. أما الآلية الأخرى المحتملة، فهي في تحرك تقوم به الأطراف الأخرى الموقعة على الاتفاق النووي الدولي مع إيران، وتحديدا الدول الأوروبية: ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. ولكن ويتيس تشير إلى أن الإيرانيين قد يقبلون بالوساطة الاوروبية ولكن الرئيس ترامب، الذي تربطه علاقات فاترة مع الاوروبيين قد لا يرغب بمثل هذه الوساطة.
وتوافق الباحثة ويتس، مع ما يقوله محللون آخرون من أنه على الولايات المتحدة وحلفاؤها المؤيدين لما يسمى سياسة فرض “الضغوط القصوى” التي أدت إلى شلّ الاقتصاد الإيراني أن يوضحوا للعالم وإيران ما هي الأهداف التي تريد واشنطن تحقيقها من سياسة الضغوط القصوى؟ إذا كان الهدف اتفاق نووي جديد، فما هي خطوطه العريضة؟ إذا كان أحد الأهداف هو انسحاب إيران من سوريا ووقف دعم طهران ورعايتها للحوثيين في اليمن، فليتم إذن طرح الإجراءات الدبلوماسية والسياسية والأمنية التي ستعقب وقف الدعم الإيراني. غياب هذه الآليات السياسية والوسطاء المحتملين والمقبولين من الأطراف المتنازعة، سوف يُبقي على التوتر الراهن في منطقة الخليج مع ما يحمله ذلك من إمكانية تحول أي شرارة تنجم عن حادث غير مقصود إلى نزاع مدّمر.