تمثل زيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إلى طهران في 17 يونيو/حزيران، وهي أول زيارة يقوم بها مسؤول سعودي رفيع المستوى منذ عام 2016، محورًا للنشاط الدبلوماسي المتزايد والجهود المتعلقة بالحد من التصعيد في الخليج منذ أواخر الربيع. التقى فيصل بن فرحان بوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، والتقى بالرئيس إبراهيم رئيسي بشكل منفصل. بعد ذلك، شدد أمير عبد اللهيان في تصريحات علنية على أهمية زيادة التعاون التجاري والاستثماري، فيما شدد فيصل بن فرحان على الأمن البحري، والالتزام بمبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة، والحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل.
جاءت زيارة طهران بعد أسابيع فقط من إعادة فتح إيران لسفارتها في الرياض وقنصليتها في جدة، قام الإيرانيون بتعيين علي رضا عناياتي سفيرًا لهم في السعودية. ويذكر أن السعوديين لديهم فريق في طهران، يعمل من أحد الفنادق من أجل التحضير لإعادة فتح سفارتهم هناك.
جاءت زيارة فيصل بن فرحان إلى طهران بعد أسبوع واحد من زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين إلى الرياض ما بين 8-10 يونيو/حزيران، والتي يُنظر لها كجزء من الجهود الأمريكية المتواصلة لتعزيز العلاقة الصعبة مع السعوديين. وسلط الجانبان الضوء على شراكتهما الأمنية القوية وتعاونهما الوثيق بشأن القضايا الإقليمية التي تتراوح بين مكافحة الإرهاب والطاقة النظيفة.
جولة شاملة من النشاط الدبلوماسي المحموم
تشير زيارة فيصل بن فرحان لطهران أيضًا إلى جولة شاملة من النشاط الدبلوماسي شبه المحموم في الخليج في الآونة الأخيرة. تشير هذه التحركات إلى تركيز دول الخليج العربية على الحد من التصعيد والتخلص من الصراع، وإقامة علاقات تجارية، وضمان حرية الحركة من أجل إقامة الشراكات والتحالفات، مع تجنب الوقوع في شرك منافسة صفرية بين القوى العظمى. يبرر قادة الخليج هذا النهج بناءً على موقعهم في عالم متعدد الأقطاب تتنافس فيه القوى العظمى على النفوذ، ويجب على القوى الإقليمية والمتوسطة العمل على التنويع الاستراتيجي. قال وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح مؤخرًا، إن “المملكة جزء مهم من هذا العالم متعدد الأقطاب الذي ظهر، وسوف نقوم بدورنا”. كما إن تعامل إيران مع هذه الزوبعة الدبلوماسية يكشف عن جهودها الحثيثة لكسر العزلة الإقليمية، ومواجهة تأثير العقوبات الأمريكية والأوروبية الخانقة، واستغلال مواردها المجهزة جيدًا والمدعومة من وكلائها من أجل النفوذ والتأثير الإقليمي. مع تكرار حوادث استيلاء البحرية الإيرانية على ناقلات النفط في مضيق هرمز في الآونة الأخيرة، يبدو واضحًا أن الإيرانيين قد التزموا، جزئيًا، فقط بالتركيز على الحد من التصعيد في الخليج؛ ومن المرجح أن يستمروا في الانخراط في أحداث غير متكافئة لزيادة نفوذهم على الصعيد الدبلوماسي، ومحاولة التأثير على صناعة القرار في دول الخليج العربية.
وفي هذه الأثناء، تتواصل الجولات المذهلة من لعبة الكراسي الموسيقية في الدبلوماسية والحنكة السياسية.
في منتصف شهر يونيو/حزيران، استعادت قطر والإمارات العربية المتحدة العلاقات بينهما، وأعادا فتح سفارتهما لدى بعضهم البعض، وهي التطورات التي بشّرت بها زيارة مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد آل نهيان إلى الدوحة في مارس/آذار. وأكدت وزارة الخارجية الإماراتية على أن اتفاقية العلا عام 2021، التي أنهت مقاطعة قطر، كانت عامل أساسي في التحركات الهادفة لاستعادة العلاقات. والمثير للدهشة، أنه نظرًا للتقدم الذي أحرزه الإماراتيون والقطريون في الأشهر الماضية ونظرًا للقضايا الثنائية المستعصية التي طالما ألقت بظلالها على العلاقات البحرينية القطرية، أبرمت الدوحة والمنامة اتفاقية لاستعادة العلاقات الدبلوماسية قبل ثلاثة أشهر، في منتصف شهر أبريل/نيسان. ولطالما تنازعت الجارتان على حدودهما البحرية، وأظهرت المنامة غضبًا بسبب علاقات قطر الدافئة، نسبيًا، مع إيران، التي طالما اتهمتها البحرين بزعزعة الاستقرار في البلاد.
مركزية النشاط المتعلق بإيران
كما تنشط إيران من جانبها على صعيد الدبلوماسية والحنكة السياسية. قام أمير عبد اللهيان بجولة إقليمية في يونيو/حزيران، اختتمها في أبوظبي بلقاء الرئيس الإماراتي محمد بن زايد آل نهيان، بعد أن قام بجولات في الدوحة ومسقط والكويت. ووجه وزير الخارجية الإيراني دعوة من رئيسي إلى محمد بن زايد لزيارة طهران، وهو ما فعله بالمثل مع قادة الخليج الآخرين.
منذ ما يقرب من شهر، وفقًا لتقارير إعلامية وتصريحات إيرانية، تعقد إيران والولايات المتحدة محادثات غير مباشرة في مسقط بوساطة مسؤولين عمانيين. حيث كان منسق مجلس الأمن القومي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا بريت ماك جورك (Brett McGurk ) يمثل الولايات المتحدة، بينما يتحدث مفاوض الملف النووي علي باقري كني نيابة عن الإيرانيين. وأفادت التقارير أن المحادثات تركزت على البرنامج النووي الإيراني، وإطلاق سراح السجناء الأمريكيين، والإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة. وأفادت تقارير إعلامية، نقلاً عن مصادر إسرائيلية، أن الولايات المتحدة تسعى إلى نوع من الاتفاق الانتقالي أو غير الرسمي مع إيران بشأن برنامجها النووي. يُنظر إلى هذا الجهد على أنه جزء من جهدٍ أمريكيٍ شاملٍ يهدف “للتخفيف من التوترات، والتقليل من مخاطر المواجهة العسكرية” مع إيران.
كما تواصل إيران جهودها الدبلوماسية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتفيد التقارير بأن إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية تمضيان نحو حل المسائل المتعلقة بموقع ماريفان، حيث اكتشف المفتشون من قبل مادة نووية غير معلن عنها. وفي زيارة له إلى طهران في مارس/آذار، حصل مدير عام الوكالة، رافائيل ماريانو جروسي (Rafael Mariano Grossi)، على تعهدات إيرانية بالتعاون مع التحقيقات.
استعداد تركيا والصين وروسيا للتدخل
ولكيلا يتم استبعادها، يبدو أن تركيا، اللاعب الرئيسي في المنطقة، متأهبة لجولة أخرى على مستوى عالٍ من الدبلوماسية، حيث من المتوقع أن يعود الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الخليج قريبًا بهدف جذب الاستثمار، وغيره من الموارد المالية التي لم يكن من السهل على تركيا الحصول عليها من الغرب. ومع ذلك، فإن التقارير الأخيرة التي تفيد بأن تركيا قد أذعنت لانضمام السويد لحلف الناتو قد تبشر بزيادة مثل هذه الحوافز المالية من الغرب. من المتوقع أن يقوم أردوغان بزيارة الإمارات والسعودية وقطر في الأيام القليلة القادمة. وقد تم الإعلان عن زيارته المرتقبة للإمارات في يونيو/حزيران عندما زار وزير المالية التركي محمد شيمشك أبوظبي لبحث التعاون الاقتصادي. ومن المرجح أن تأتي الزيارة المرتقبة لأبوظبي استكمالاً لاجتماع أردوغان مع محمد بن زايد في اسطنبول في يونيو/حزيران. وكان البلدان قد وقعا، في مارس/آذار اتفاقية شراكة اقتصادية شاملة، مؤكدين بذلك على التعاون الاستراتيجي إلى جانب الشراكة الاقتصادية. كانت زيارات أردوغان إلى أبوظبي والرياض (والتي قام قادة الإمارات والسعودية بردها) في عامي 2021 و2022 بمثابة انطلاقة في مستهل التحول الخليجي نحو المناورة الدبلوماسية والتخلص من الصراع الذي غيّر المشهد الإقليمي بشكل جذري.
كما أن الروس والصينيين كانوا موجودين في هذه الجولة الأحدث من النشاط الدبلوماسي والحنكة السياسية. على صعيد مجال الطاقة، أعلن الروس والسعوديون مؤخرًا عن اتفاقية للإبقاء على التخفيضات الطوعية في إنتاج النفط، في دعم شامل للجهود التي يبذلها تحالف أوبك بلس مع المنتجين من داخل منظمة أوبك وخارجها مع إشارة إلى الدور المحوري الذي وضعته روسيا لنفسها في الخليج منذ تدخلها في سوريا عام 2015. على الصعيد الدبلوماسي الروتيني، التقت روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي في العاشر من يوليو/تموز في موسكو لحضور الاجتماع الوزاري المشترك السادس للحوار الاستراتيجي. في منتصف شهر يونيو/حزيران، استضافت السعودية مؤتمر الأعمال العربي-الصيني، للتذكير بقوة بالدور الكبير والمتصاعد الذي تلعبه الصين في الدبلوماسية الاقتصادية والأعمال التجارية في الخليج. كما يعد هذا المؤتمر بمثابة تذكير غير مباشر بالدور الدبلوماسي البارز الذي لعبته الصين في الوساطة لتحقيق التقارب السعودي-الإيراني، الذي غذى الكثير من النشاط الدبلوماسي في المنطقة.
يعزى الأساس في هذا النشاط الدبلوماسي المحموم إلى الثقة المتزايدة لقادة الخليج، وتأمين اقتصاداتهم بسبب أسعار النفط المرتفعة نسبيًا على مدى فترة طويلة، وإدراكهم الراسخ بأن العالم قادم إليهم. فهم يشعرون بنفوذهم الكبير الذي يجب استخدامه ومشهد جيوسياسي ممزق، ولكنه مستقر، يوفر لهم قدرة متزايدة على المناورة والإصرار والتحوط. لا شيء يدوم إلى الأبد، ولكن في الوقت الحالي، فإن اللحظة تظل خليجية، سواء في الشرق الأوسط الكبير أم على مستوى العالم. يعد النشاط الدبلوماسي المحموم في المنطقة في الآونة الأخيرة بمثابة أحد المؤشرات الحاسمة على منطقة مفعمة بالثقة والإمكانيات المستقبلية وتشكلها. سوف تساعد هذه الثقة في تشكيل المراحل الانتقالية الصعبة التي تمر بها هذه البلدان في سعيها لإعادة تجهيز اقتصاداتها المحلية، والابتعاد عن الاعتماد على الهيدروكربونات، وتنفيذ رؤى اقتصادية طموحة للعقد المقبل.