ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
تسببت الأزمة الخليجية، التي بدأت في يونيو/حزيران 2017، في خلق نظام سياسي جديد داخل الشرق الأوسط على نطاق أوسع عندما بدأت الرباعية المكونة من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين ومصر مقاطعة قطر. لم تقتصر المضاعفات الناجمة عن هذا الانقسام السياسي على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إنما طال تأثيرها الروابط السياسية والأمنية لكلا الجانبين في القرن الأفريقي وجنوب آسيا والعالم الإسلامي على نطاق أوسع.
في حين حثت دول الرباعية شركاءها لاتخاذ موقف استباقي ضد قطر، أعلنت تركيا على الفور عن دعمها الكامل للدوحة ضد إجراءات جيرانها في مجلس التعاون لدول الخليج العربية. فأرسلت أنقرة طائرات محملة بالإمدادات، وسرّعت من نشر المزيد من القوات التركية المزمع إجراؤه في منشآتها العسكرية في قطر. وأسفرت هذه الخطوة عن زيادة التعقيد في علاقات تركيا بدول الرباعية، والتي كانت مضطربة بالفعل نظراً لدعم أنقرة للجماعات السياسية المتحالفة مع جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة، ولا سيما حكومة الرئيس المخلوع محمد مرسي في مصر. ولرأب الصدع مع قطر، قدمت الرباعية في البداية 13 طلباً، ومن بينها إغلاق القاعدة العسكرية التركية في قطر، ما يوضح رفض الرباعية للوجود العسكري التركي هناك.
ومع كون العلاقات الثنائية السعودية-التركية متوترة، إلا أنها لم تصل لدرجة الانهيار حتى مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية المملكة في إسطنبول عام 2018. يبدو أن الإدارة التركية للقضية كانت تهدف إلى حشد ما يكفي من الضغوط على الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز والحلفاء الرئيسيين للسعودية في كافة أرجاء العالم – الولايات المتحدة بشكل خاص- للقيام على الأقل بقص أجنحة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إن لم يكن إزاحته عن السلطة بشكل كامل. وأسفرت محاولات تركيا لإلقاء اللوم في عملية القتل على “دولة الظل” في الرياض عن جعل الأمور شخصية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومحمد بن سلمان.
تصاعد هذا العداء بين الرياض وأنقرة تدريجياً ليصل إلى الساحة الجيوسياسية، حيث حاول كلا الجانبين تشكيل تحالفات جديدة من خلال تشكيل بنى سياسية وأمنية مستجدة في محاولة من كلا الطرفين لاحتواء النفوذ السياسي للطرف الآخر. وبدأت السعودية بالتعامل الدبلوماسي مع حكومة قبرص اليونانية في الوقت الذي كثفت تركيا من عمليات التنقيب عن النفط والغاز في البحر الأبيض المتوسط. وقام وزير الخارجية السعودي آنذاك، إبراهيم العساف، بزيارة إلى نيقوسيا، وأعرب عن دعم المملكة الكامل لـ “شرعية وسيادة حليفتها قبرص”. وفيما يتعلق بتدخلها في الحرب الليبية، عملت السعودية، إلى جانب الإمارات، على زيادة دعمها لخليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، ضد حكومة الوفاق الوطني، المدعومة من الأمم المتحدة ومقرها طرابلس، والتي تحظى بدعم تركيا. على جبهة القرن الأفريقي، أطلقت السعودية مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن من أجل مزيد من التنظيم للأمن البحري في المنطقة، ولكن أيضًا لصد الجهات الخارجية، وبالأخص تركيا، عن التورط في الشؤون الأمنية للقرن الأفريقي. وفيما يتعلق بسوريا، استمرت السعودية في تعاملها مع قوات سوريا الديمقراطية، التي تشارك الولايات المتحدة في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، الذي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردي (YPG) – الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)، والذي تم تصنيفه كمنظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة وتركيا.
كما اتخذت تركيا خطوات لمواجهة هذه التحركات السياسية من قبل السعودية. وإدراكاً منها للتغييرات السياسية والاجتماعية التي تجتاح عالم السياسة الداخلية والخارجية للمملكة، والتي أسفرت عن تهميش المؤسسة الدينية السعودية القوية، وتصاعد القومية السعودية، وتخفيف النظرة التقليدية للسياسة الخارجية الإسلامية الشاملة، تركزت الجهود الجيوسياسية التركية على تحدي مكانة القيادة السعودية داخل العالم الإسلامي السني الأوسع. إن الإدانة السعودية المهذبة لخطوة إدارة الرئيس دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والإشارات المتضاربة بشأن اتفاقيات إبراهام، التي وقعتها حليفتاها الخليجيتان، الإمارات والبحرين، مع إسرائيل- أدت إلى تراجع مكانتها في الشارع الإسلامي.
مستفيداً من هذه الفرصة السياسية ومستغلًا لجهود القوة الناعمة التركية عبر الشارع الإسلامي، سارع أردوغان إلى إبراز تركيا كأنها المُنقذ للمسلمين في جميع أنحاء العالم. واقترن ذلك بمحاولة تركيا ترسيخ تحالفاتها، خاصة في الدول الإسلامية التركية وغير العربية. لتسليط الضوء على القضايا الإسلامية ومكافحة الإسلاموفوبيا عزفت حملة أردوغان على وتر حساس لدى رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان ورئيس الوزراء الماليزي مهاتير بن محمد، واتفق الثلاثي على إطلاق مبادرة إسلامية شاملة، والتي تضمنت قمة كوالالمبور في 2019. وفي نهاية المطاف، انسحبت باكستان من هذا التجمع بسبب الضغط السعودي، لكن إيران وقطر انضمتا إلى تركيا وماليزيا في القمة. يُنظر إلى مبادرة كوالالمبور على أنها محاولة لخلق بديل لمنظمة التعاون الإسلامي، التي تتخذ من جدة مقراً لها، وتحدياً لادعاء السعودية بقيادة العالم الإسلامي.
لقد فشلت المبادرة التركية، في نهاية المطاف، بسبب اعتماد باكستان الاقتصادي على السعودية وإقالة حكومة مهاتير في ماليزيا. وهذا يعني أنه لم يبق لقطر سوى تركيا كحليف سياسي وحيد يمكن الاعتماد عليه في المنطقة، وأن مبادرتها الإسلامية الشاملة أصبح يعوزها الثقل الدولي. وفي غضون ذلك، لم تحقق استراتيجية السعودية المتمثلة في إنشاء بنية تحتية أمنية جديدة مع الجهات الأوروبية الفاعلة في حوض البحر الأبيض المتوسط سوى نجاحٍ محدود. كان أحد الإنجازات المهمة هو التوافق بشأن المخاوف الأمنية لدى بعض الدول الأوروبية، بما في ذلك فرنسا واليونان وقبرص في مواجهة تركيا – حليفتهم في الناتو– إلى جانب السعودية والإمارات ومصر. ومع ذلك، لم تكن هذه التحركات السياسية كافية لردع تركيا، التي تدخلت بنجاح في الحرب الليبية وغيرت مسارها، وذلك بمساعدتها للقوات المتحالفة مع حكومة الوفاق الوطني لدحر قوات حفتر في غرب ليبيا، وبالتالي الاستيلاء على قاعدة الوطية الجوية، ذات الأهمية الاستراتيجية. وعلى الرغم من أن تركيا قد تكون محاصرة سياسياً في القرن الأفريقي، إلا أن أحداث العنف الأخيرة في إثيوبيا، وتصاعد التوترات بين السودان وإثيوبيا قد جددت من جدواها السياسية.
وفي حين شنت القوتان المحركتان في الشرق الأوسط تحركات احتواء متوازية لتقويض بعضهما البعض، وظلت قياداتهما تضمران الاستياء الشخصي، قررت السعودية فجأة إنهاء الخلاف وتطبيع العلاقات مع قطر. استقبل محمد بن سلمان أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني بحرارة لدى وصوله إلى السعودية لحضور قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية التاريخية في العلا. كان التقارب الخليجي يعني استعادة السعودية مكانتها باعتبارها الأخ الأكبر الذي يتزعم دول مجلس التعاون لول الخليج العربية، كما يعني التقارب أن قطر، التي قادت الكتلة المناهضة للسعودية إلى جانب تركيا، لم تعد عدواً. وتم تعليق التنافس على قيادة العالم الإسلامي، حيث تمكنت السعودية من استمالة معظم حلفاء تركيا إما من خلال العناق الحار كما هي الحال مع قطر أو ليّ الذراع الاقتصادية كما هو الحال مع باكستان. علاوة على ذلك، تقلصت إلى حد كبير مساحة المغامرة السياسية لكل طرف في محاولته تقويض نفوذ الطرف الآخر، لأنهما أدركا عدم حصولهما على الموافقة السخية من إدارة ترامب، وإنما سيواجهان ضوابط سياسية تفرضها الإدارة الجديدة للرئيس جوزيف بايدن.
واستشعاراً بهذا التغيير في أهم المتغيرات الخارجية للنظام السياسي في الشرق الأوسط والإدارة الأمريكية الجديدة والتطورات الجيوسياسية داخل المنطقة، بدأت كل من السعودية وتركيا درجة من الشراكة الحذرة. وفي اتصال بين أردوغان والملك سلمان، اتفق الطرفان على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة. كما حدث هناك انخفاض ملحوظ في التشهير بولي العهد السعودي في وسائل الإعلام التركية، وتفهّم الجانب التركي أن الوقت قد حان لتجاوز قضية خاشقجي. وكان هنالك ادعاءات بوجود محاولات عامة وخاصة من قبل السعودية والإمارات لتحسين العلاقات مع أنقرة، ولكن البلدان لم يتخذا أي خطوات عملية بهذا الصدد. فقد شهدت المقاطعة السعودية غير الرسمية للبضائع التركية تقدماً، حيث انخفضت الصادرات التركية إلى المملكة بنسبة 92٪ بين ديسمبر/كانون الأول 2019 وديسمبر/كانون الأول 2020. كما واصلت السعودية شراكتها مع اليونان وحضر وزير الخارجية السعودي مؤخراً اجتماعاً لـ “منتدى الصداقة” في أثينا، الذي انتقدته تركيا واصفة إياه بمحاولة لتشكيل تحالف “معادٍ” ضد تركيا. وبالمثل، لم تعدل الصحف السعودية من افتتاحياتها العدوانية التي تستهدف أردوغان.
يبدو أن تركيا مستعدة لبدء فصل جديد مع السعودية، وهو ما قد يحدث في نهاية المطاف إذا تعرضت الرياض لمزيد من الضغوط من الولايات المتحدة، وخاصة إذا أعادت إدارة بايدن الدخول في الاتفاق النووي، خطة العمل الشاملة المشتركة، مع إيران. ومع ذلك، ربما لا تزال تركيا تريد اعتذاراً من القيادة السعودية بشأن مقتل خاشقجي. بالنسبة للسعودية، فإن التقارب قد يكون من الممكن تحقيقه إذا قدمت تركيا تنازلات فيما يتعلق بالإخوان المسلمين، وبالأخص ما يتعلق بالحالة المصرية وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين المصريين المقيمين الآن في تركيا، وإذا قبلت تركيا أن ولي العهد السعودي – الحاكم الفعلي للسعودية- هو واقع سياسي، ويجب على أنقرة التعامل مباشرة مع محمد بن سلمان من أجل إصلاح العلاقات الثنائية. ومع تصاعد التحديات على جبهة السياسة الخارجية وتغير الحقائق الجيوسياسية على المستويين الإقليمي والعالمي، قد يضطر كلا الطرفين في نهاية المطاف إلى وضع هذا التنافس عديم الجدوى على السلطة جانبًا والاتفاق على انفراج سياسي. ولكي يحدث هذا التقارب الشامل، يحتاج أردوغان ومحمد بن سلمان إلى المضي قدماً واعتبار ما فات قد مات.