جرت الانتخابات النيابية والبلدية في البحرين – التي نُظمت في جولتين الأولى في 24 تشرين الثاني/نوفمبر والثانية في 1 كانون الأول/ديسمبر – في ظل ظروف مدارة بإحكام بما فيها حلّ المعارضة السياسية التي كانت بارزة في المملكة. وتمّ حظر أفراد هذه الجمعيات السياسية، بما فيها “الوفاق” الإسلامية الشيعية و”الوعد” العلمانية، من الترشح؛ وكان تمّ الحكم على الأمين العام لحركة “الوفاق” الشيخ علي سلمان بالحبس مدى الحياة عشية الانتخابات. كما جرت في ظل عدم استقرار اقتصادي، في وقت يبدو فيه أن حكومة البحرين المثقلة بالديون ستفرض تدابير أكبر لخفض التكاليف على شعب يتكيّف أساسًا مع تدابير التقشف.
وفي غياب الجمعيات المعارضة، تعيد القيادة السياسية في البحرين رسم معالم دور مجلس النواب، متطلعةً إلى سياسة ظاهرها السماح بالتمثيل السياسي، أكثر منها أن تكون تطبيقا حقيقيا لنظام التمثيل السياسي. وتتضمن هذه الخطوة هيكلة الانتخابات وإدارة المرشحين من أجل الخروج ببرلمان يقوّض الحركات الإسلامية السنّية والشيعية ويحتوي المظالم الاقتصادية مع توفير فرص تمثيلية في الوقت نفسه إلى النساء والشباب. ولا شكّ في أن القصة الرئيسية التي ستنبثق من البحرين ستكون الحملة الناجحة لست نساء، أي ضعف العدد في البرلمان السابق. كما تمّ انتخاب شخصيات مشهورة من الشباب والوجوه الإعلامية. غير أن الخطوة الأكثر إبهارًا هي التحوّل المذهل في المجلس: فقط 3 من أصحاب المناصب سيعودون إلى هذه الهيئة المؤلفة من 40 عضوًا حيث أن القيادة بكاملها رفضت الترشح. كما سيشغل المجلس مستقلون سياسيون – في نتيجة تأتت من إلغاء الجمعيات السياسية المعارضة المهيمنة، إلى جانب قواعد وإعادة تقسيم المعارضين للحركات الإسلامية السنّية، بخاصةٍ جماعة “الإخوان المسلمين”، التي لن يكون لها وللمرة الأولى منذ إعادة تشكيل البرلمان في 2001، أي ممثل على الإطلاق.
بشكل عام، إن استثناء المعارضة وقلة خبرة النواب وغياب حركات مترابطة لصالح “مستقلين”، كلها عوامل تسهّل إدارة البرلمان إذ تشدّد الحكومة التي تقودها العائلة الحاكمة على تدابير مفروضة بموجب رزمة إنقاذ مالي وافقت عليها الدول المجاورة للبحرين.
نهاية تجربة المعارضة
تمثّل هذه الانتخابات عملية التصويت الثانية لكامل البرلمان منذ الانتفاضة السياسية في 2011، التي شكّلت نهاية تجربة الاتفاق الذي كان يمهد للاندماج السياسي في البحرين. وشهدت تلك الفترة، انطلاقًا من بداية حكم الملك حمد بن عيسى آل خليفة، عودة المنفيين السياسيين وإدماج جمعيات معارضة مشكلة حديثًا في مؤسسات مدنية وسياسية أعيد تشكيلها. وفي أوج مجدها بين العاميْن 2006 و2011، كان لحركة “الوفاق” الكتلة الأكبر في البرلمان وسيطرت على العديد من مجالس البلدية، بما في ذلك في العاصمة المنامة وكذلك على قيادة الاتحاد العمالي في البلاد.
ومنذ 2011، تمّ سجن الآلاف من أفراد المعارضة أو نفيهم من جديد كما تمّ سحب الجنسية من المئات، بمن فيهم أبرز رجل دين شيعي في البحرين. ولجأ بعض أفراد المعارضة إلى المقاومة العنيفة. وفي تموز/يوليو، صنّفت الحكومة الأمريكية رسميًا كتائب “الأشتر” الصغيرة الحجم جماعة إرهابية مدعومة من إيران، في وقت اتهمت فيه حكومة البحرين في أيلول/سبتمبر مجموعة متباينة من 169 بحرينيًا بتأليف جماعة “حزب الله البحريني“. هذا وقد أُقفل المجال السياسي في وجه المعارضة الإسلامية الشيعية والجماعة العلمانية المتحالفة معها على السواء منذ 2016 حين حلّت الحكومة حركة “الوفاق” وجمعية “وعد“، كما منعت أفرادهما من الترشح للانتخابات. والآن، بات المجلس البلدي في المنامة معيّنًا وليس منتخبًا. وعشية الانتخابات الراهنة، حُكم على سلمان، الأمين العام لحركة “الوفاق”، بالسجن مدى الحياة بتهم التواصل مع قطر خلال انتفاضة 2011.
وتبدو الحياة البرلمانية اليوم مختلفة تمامًا عمّا كانت عليه حين استخدمت “الوفاق” صلاحياتها المحدودة للحث على مساءلة أكبر وتمكين المؤسسات المنتخبة في البحرين. وأتى برلمان 2014-2018، المنتخب في ظل مقاطعة المعارضة، مواليًا إلى حدّ كبير مع نسبة عالية من حديثي العهد في السياسة. وقدّمت الحكومة برامجها بدعم من كتلة برلمانية ذات “مشاركة وطنية” كبيرة التي اعتبرت التزامها بتجنّب السياسة لصالح الوحدة الوطنية كوسام شرف. ولكن، رغم هذا التحالف البرلماني الإيجابي وقدرة مجلس الشورى المعيّن على عرقلة تشريع المجلس المنتخب، لا تزال الحكومة تلجأ إلى تغيير القواعد من أجل مواجهة مساعي بعض الأفراد لممارسة الإشراف الحكومي.
البحرين وبرلمانها في مواجهة التقشف
وجّهت بيئة أسعار النفط المنخفضة والحاجة إلى التحوّل بعيدًا عن الاعتماد على التوظيف الحكومي والإعانات الشعبية ضربة إلى البحرين أقسى من تلك التي تلقتها الدول المجاورة الأغنى. فخلال السنوات العديدة الماضية، خفضت البحرين إعانات الوقود والمواد الغذائية بينما زادت الرسوم والضرائب. وعلى الرغم من هذه الخطوات، لا تزال الحكومة تواجه أزمة مالية في ظل تضخم الدين العام ليصل إلى 89 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في 2018.
وفي تشرين الأول/أكتوبر، تلقت البحرين وعودًا بضخ مساعدات كبيرة تصل قيمتها إلى 10 مليارات دولار من دول خليجية مجاورة على غرار السعودية والإمارات والكويت. وتمّ التفاوض بشأن اتفاق التوازن هذا، المعروف باسم “برنامج التوازن المالي”، إلى جانب التزامات من البحرين بخفض التكاليف بشكل أكبر وزيادة الإيرادات. وبغية تحقيق ذلك، اعتمدت الحكومة إلى حدّ كبير على البرلمان، حيث دعته إلى عقد جلسة استثنائية في 9 تشرين الأول/أكتوبر من أجل تمرير ضريبة القيمة المضافة الموحدة لمجلس التعاون الخليجي، إضافةً إلى إصلاح معاش التقاعد.
وتُظهر الخطوات المتخذة لتمرير هذه التدابير في وجه معارضة شعبية حدّة التحديات التي تواجه الحكومة، حتى في ظل برلمان مرن. ورفض البرلمان اقتراحًا للحكومة يرمي إلى إنشاء هيئة مستقلة ممكّنة لاتخاذ قرار بشأن معاشات تقاعد المواطنين بشكل أحادي باعتباره غير دستوري وذلك في حزيران/يونيو. وعلى نحو مماثل، أوصت لجنة الشؤون المالية والاقتصادية برفض تمرير قانون الضريبة على القيمة المضافة، ومن ثم غيّرت موقفها في اليوم نفسه بعد اجتماع مع رئيس مجلس النواب. وتمّ تمرير التدبيرين في جلسة سرية انتهت بسرعة من دون مناقشة ومن دون الإعلان عن الأصوات.
ومن الواضح أن عدم الرضا عن أداء البرلمان وعدم قدرته على ترك أثر للتدابير الاقتصادية بشكل فعال شاخص في أذهان الناخبين. وستقدّم الجلسة البرلمانية المقبلة مجموعة وافرة من القرارات الاقتصادية الصعبة التي تتضمن معاشات التقاعد والتقاعد المبكر، التأمين الصحي وغيرها من التدابير التي من المرجّح أن تثقل كاهل الشعب. يُذكر أن هذه المسائل اليومية هي التي حرّكت العديد من الحملات السياسية وأنارت رغبة الناخبين في معاقبة أصحاب المناصب.
ولم تكن مقاطعة الانتخابات ردًا سياسيًا مرحبًا به. فقد هدّد وزير الداخلية بإحالة دعوات عدم المشاركة هذه إلى النيابة العامة، منفذًا وعده من خلال توقيف برلماني سابق أعلن عن نيّته في مقاطعة الانتخابات على تويتر. وقبل أيام من إجراء الانتخابات، أحدث رئيس مجلس النواب حالة من الارتباك في أوساط العامة عبر الثناء على قرار حكومي بتحميل المواطنين الذين لا يشاركون في الانتخابات المسؤولية من خلال تأجيل طلباتهم للإسكان والتقاعد المبكر، معتمدًا على هذه المزايا الاقتصادية الأساسية لإبقاء الشعب منخرطًا في الحياة السياسية. في النهاية، أعلنت الحكومة عن نسبة مشاركة مرتفعة جدًا في الجولة الأولى من التصويت بلغت 67 في المائة، وهو رقم من الصعب تأكيده نظرًا إلى وجود مواقع تصويت عامة وغياب مشرفين دوليين. واعترض زعيم المعارضة المنفي إلى بيروت على هذا الرقم، رغم أنه لم يعلن عن مصدر الرقم الذي قدّمه وبالتالي يستحيل التحقق منه.
النساء والمستقلون يهيمنون على برلمان من حديثي العهد في السياسة
ترك هذا الانسحاب السياسي، سواء كان طوعيًا أو قسريًا من قبل الحكومة والناخبين، البرلمان الجديد مجردًا من المشرعين المتمرسين. وما يثير الدهشة هو عودة ثلاثة فقط من أصحاب المناصب من برلمان 2014. فقد اختار نحو 50 في المائة من الأعضاء الدائمين عدم الترشح أو أن الحكومة رفضت ترشحهم. وتلقى معظم الذين تنافسوا هزيمة. وبشكل ملحوظ، اختار رئيس المجلس ونائباه عدم خوض الانتخابات، ما يعني وجود قيادة جديدة بالكامل.
ومن بين الذين منوا بهزيمة أعضاء الجمعيات السياسية البحرينية المثقلة أساسًا بالمشاكل. ويكمل هذا الأمر منحى، شجعته الحكومة، من التمثيل السياسي للـ”المستقلين” – وهم أفراد غير ملتزمين بإيديولوجيات سياسية أو جماعات سياسية. وتردد صدى حل حركة “الوفاق” من خلال إعادة التقسيم الذي يضرّ بمصلحة الجمعيات السياسية الإسلامية السنّية. فقانون يمنع الخطباء من العمل في البرلمان يقوّض بدوره بعض الإسلاميين الشيعة والسنّة. وفي هذه الانتخابات، كان أداء جمعية “الأصالة” السياسية السلفية جيدًا نسبيًا، ففاز ثلاثة من مرشحيها الستة واستعادت مقعدًا واحدًا. كما فازت جمعية سياسية سنّية موالية تأسست في الوقت الذي اندلعت فيه انتفاضة 2011 وتدعى “تجمع الوحدة الوطنية” بمقعدها الأول في البرلمان. في المقابل، خسرت “جمعية المنبر الوطني الإسلامي” المدعومة من “الإخوان المسلمين” والتي كانت قوية في ما مضى مقعديها، ما يعني أنه للمرة الأولى منذ إعادة تشكيل البرلمان، لن يتمّ تمثيلها. ومن المرجح أن ترحب الحكومة بهذه النتيجة، علمًا بأنها ترزح تحت وطأة ضغوط الحلفاء في أبوظبي والرياض من أجل الحدّ من أنشطة الإخوان.
وقد مهّد هذا المجال المفتوح من خلال استبعاد أو تعثّر الجمعيات السياسية الإسلامية الشيعية والسنّية الطريق أمام مشاركة وجوه جديدة: اليساريون والنساء والشباب. متصديةً للشعور الشعبي ضد الجمعيات السياسية، تمّ انتخاب عضوين من “جمعية المنبر الديمقراطي التقدمي” اليسارية، بمن فيهم زعيمها والبرلماني السابق عبدالنبي سلمان. واختارت هذه الحركة، التي تعمل بشكل رئيسي في دوائر انتخابية كانت تهيمن عليها المعارضة الشيعية البحرينية في الماضي، إنهاء مقاطعة الانتخابات في 2014.
كما تمّ انتخاب ست نساء – جميعهن جديدات – وهو رقم قياسي في البرلمان، لتضاعفن بذلك تمثيلهن من الجلسة السابقة. وربما قد يحققن نجاحًا أكبر بعد: فقد أعلنت واحدة منهن وهي فوزية زينل، عن نيّتها في المنافسة على مقعد رئيس المجلس. إن نجاحها محتمل للغاية، نظرًا إلى رغبة الحكومة في جعل النساء يتبوأن المزيد من المناصب البارزة وإلى الشغور الحالي في منصب رئيس المجلس. وعلى نحو مماثل، سيرحب البرلمان بالعديد من المرشحين الشباب، بعضهم صنع له اسمًا في مجال الإعلام والبعض الآخر يشق طريقه إلى مجلس النواب بعدما بدأ مسيرته المهنية في المجالس البلدية.
حصانة سياسية مفيدة
عزّزت الانتخابات النيابية في 2018 عددًا من الاتجاهات التي كانت بدأت في البحرين في 2014: إلغاء أو رفض الجمعيات السياسية الإسلامية التي هيمنت على البرلمان مطلع العقد الماضي؛ تشجيع النساء والشباب، علمًا بأنهم بالتأكيد ليسوا من ذوي النزعة المعارضة؛ وكذلك تفضيل الوحدة الوطنية على الحوار الوطني. وقد ترافق القمع السياسي لجزء من العامة مع قبول وجوه جديدة. وبذلك، بدأت السياسة الجديدة في البحرين تشبه إلى حدّ أكبر السياسة التمثيلية التي تنتهجها العاصمتين الراعيتين لها أي أبوظبي والرياض وإلى حدّ أقل الأخذ والردّ البرلماني الفوضوي في الكويت.
وسترحب العائلة الحاكمة بهذه النتائج، فهي التي رفضت مطالب معارضة تسعى إلى نفوذ سياسي أكبر ومساءلة، وهي أيضا تبحث عن تخطي السياسة الطائفية العلنية التي كانت قد أطلقتها. وسيسمح هذا التحوّل على صعيد النواب – والإقبال من قبل جهور ساخط – بتحرّك محدود للمظالم الشعبية والمساءلة في حين سيكون بمثابة حصانة سياسية ممتازة لحكومة تقودها العائلة الحاكمة وتحضّ على تقشف اقتصادي أكبر.