ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
هل أمريكا وإيران تسيران على طريق الحرب؟ هل التقارير الاستخباراتية الأمريكية التي استند عليها البيت الأبيض لإرسال التعزيزات العسكرية البحرية والجوية إلى منطقة الخليج مبررة، أم مبالغ فيها كما يقول مسؤولون في واشنطن؟ هل تفجير ناقلات النفط قرب شواطئ دولة الإمارات العربية المتحدة، وإطلاق الحوثيين في اليمن لطائرات دون طيار لضرب محطات ضخ النفط في العمق السعودي رسالة إيرانية بأن المرحلة المقبلة سوف تشهد المزيد من هذه الهجمات المحدودة عسكريا ولكن ذات الأهمية السياسية والنفسية الكبيرة؟ هل هذه التطورات المقلقة تعني أن المتشددين أو الصقور في واشنطن وفي طهران، وفي الرياض وتل أبيب هم الذين سيقررون طبيعة الخطوات المقبلة؟ ولعل السؤال الأهم، وخاصة في واشنطن، هو ما الذي يريده الرئيس ترامب؟ هل هدفه الأقصى من تصعيد ضغوطه الاقتصادية والسياسية والعسكرية هو إسقاط النظام الإسلامي في طهران؟ أم هدفه الآني والبعيد المدى هو تضييق الخناق على إيران، والتمني بأن تساهم مشاكل النظام الاقتصادية والمرشحة للتفاقم أكثر بسبب العقوبات الأمريكية، في دفع الإيرانيين إلى الشارع كما حدث في 2009؟
هذه الأسئلة تطرح بإلحاح كبير في واشنطن، وإلى حد أقل في عواصم دول الشرق الأوسط وأوروبا في الأيام الماضية. المسؤولون الأمريكيون يقولون إن التفكير الجدي في مجلس الأمن القومي وفي وزارة الدفاع بإرسال تعزيزات عسكرية إلى منطقة الخليج جاء في أعقاب الكشف عن تقارير تحدثت عن تعليمات إيرانية لعملائهم في العراق بالتحضير لعمليات ضد القوات الأمريكية المنتشرة هناك، وفي أعقاب التقاط صور لسفن إيرانية تم تزويدها بصواريخ بحر- بحر يمكن استخدامها لضرب سفن حربية أمريكية تبحر في مياه الخليج أو ضد ناقلات نفط لعرقلة الملاحة الدولية. هذه المعلومات الاستخباراتية التي امتنعت الحكومة الأمريكية في البداية عن مناقشتها حتى مع اللجان المختصة في الكونغرس كما هي العادة الا في اليومين الماضيين وبعد احتجاجات المشرعين الأمريكيين وخاصة أعضاء الحزب الديمقراطي الذي يسيطر على مجلس النواب. ما رشح عن هذه المناقشات هو وجود اجتهادات مختلفة حول ما إذا كانت هذه المعلومات الاستخباراتية تستدعي ردود الفعل الأمريكية التي تخطت حشد المزيد من القوات في المنطقة، ووصلت إلى ترحيل جزئي للدبلوماسيين من سفارتها في بغداد وقنصليتها في كردستان، أم أن مثل هذه الخطوة غير ضرورية ويمكن أن يساء تفسيرها على أنها مقدمة لإجراء عسكري. مثل هذه الإجراءات ساهمت في بروز انتقادات وتساؤلات عديدة من المشرعين في الكونغرس، ومن المحللين والمراقبين، حول ما تريده بالفعل إدارة الرئيس ترامب من مثل هذه القرارات. وفي هذا السياق طالب الديمقراطيون الإطلاع على المعلومات الاستخباراتية، وشددوا على أن لا تقوم إدارة ترامب بأي إجراء عسكري إلا بعد التشاور مع الكونغرس. ويوم الخميس التقى مسؤولون كبار في أجهزة الاستخبارات مع قيادات الكونغرس لمناقشة التقارير الاستخباراتية.
التسريبات التي كشفت أن مستشار الأمن القومي جون بولتون طلب من وزارة الدفاع وضع خطط طارئة لنشر 120 ألف عسكري في الخليج لردع إيران، والتي كشف عنها في أعقاب تفجير الناقلات، ذّكرت بعض المراقبين بالحشود الأمريكية التي سبقت غزو العراق في 2003 (حين حشدت الولايات المتحدة حوالي 150 ألف عسكري آنذاك). ولكن حتى أكثر المتشددين في عدائهم لإيران في واشنطن لا يتحدثون عن غزو أمريكي لإيران، وهو خيار يوصف بأنه “لا يمكن التفكير” به، لأن إيران هي ثلاثة أضعاف حجم العراق مساحة وسكانا، ولأن أي اجتياح بري لإيران سيكون مكلفا جدا، وسوف يواجه معارضة أمريكية قوية ليس فقط من الطبقة السياسية بل من قبل الشعب الأمريكي، الذي لا يزال يراقب بقلق الكلفة البشرية والمادية المستمرة لأطول حربين في تاريخ الولايات المتحدة : حرب أفغانستان التي بدأت في 2001 وحرب العراق التي بدأت في 2003.
طريق طويل من الدم
قرع طبول الحرب من قبل المتشددين، على خلفية الحشود العسكرية والتهديدات المتبادلة وتفجير الناقلات، ذّكرت بعض المراقبين في واشنطن بحقيقة بديهية، ولكن يتم تجاهلها عن قصد وغير قصد، وهي أن الولايات المتحدة هي عمليا في “حالة حرب” في منطقة الخليج منذ حوالي أربعين سنة. عندما قرر صدام حسين غزو إيران في أيلول – سبتمبر 1980 لم يكن يدري أنه قام بخطوة متهورة، كارثية وتاريخية ستكون لها مضاعفات طويلة الأمد ليس فقط على العراق إيران، بل دول ومجتمعات المنطقة، وأنها ستجر إلى أتونها دول بعيدة من بينها الولايات المتحدة، والأهم من ذلك أن تلك الحرب ستكون الأولى التي ستضع المنطقة على طريق طويل من الدم كونها ستولد حربا مدمرة تلو الأخرى على مدى أربعة عقود. الحديث عن احتمال حرب، أو على الأقل اشتباكات أمريكية-أيرانية ذّكر الذين عايشوا الحرب العراقية-الإيرانية بأن البحرية الأمريكية خلال الحرب العراقية-الإيرانية استهدفت البحرية الإيرانية ودمرت بعضا من سفنها وزوارقها وقصفت منصات النفط الإيرانية في الخليج، لا بل أنها في صيف 1988 أسقطت طائرة إيرانية مدنية قتل فيها 290 راكبا وملاحا، في خطأ مأساوي أحرج واشنطن لزمن طويل. غزو إيران خلق أطول حرب نظامية في القرن العشرين، وأدى إلى قتل مئات الآلاف من العسكريين والمدنيين في البلدين، قبل انتهاء الحرب في 1988 بعد انهاك البلدين بشكل شامل. خرج العراق من الحرب في حالة إفلاس تام ومثقل بالديون لجيرانه العرب، ومن بينهم الكويت ولمصارف أجنبية. هذا الإفلاس، شجع صدام حسين على غزو الكويت في صيف 1990، وإلى وضع العراق في مواجهة من العالم وتحديدا مع الولايات المتحدة أدت إلى قيام واشنطن بتشكيل أهم أئتلاف عسكري منذ الحرب العالمية الثانية لتحرير الكويت في 1991، في أول حرب خرجت من رحم الحرب العراقية-الإيرانية. خلال تسعينات القرن الماضي واصلت القوات الأمريكية الجوية عملياتها في اجواء العراق لحظر الطيران العراقي، حيث واصلت قصف المواقع العراقية للضغط على بغداد لوقف عرقلة عمل فرق التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل. هذه العمليات الجوية انتهت، لحظة بدء الغزو الأمريكي للعراق في 2003. هذه الحرب خرجت من رحم حرب تحرير الكويت التي رأى الرئيس جورج بوش الأبن أنها لم تنته كما كان يفترض أن تنتهي بسقوط نظام صدام حسين وتدمير ترسانته من أسلحة الدمار الشامل. انسحاب القوات الأمريكية من العراق في 2011، عقبه في 2014 عودة محدودة للقوات الأمريكية البرية إلى هذا البلد، صاحبها حملة جوية دولية وشاملة ضد إرهابيي ما سمي “بالدولة الإسلامية” التي اجتاحت واحتلت مناطق واسعة من سوريا والعراق، بما فيها مدينة الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق. هذه الحرب الأخيرة انتهت قبل بضعة أشهر بعد نجاح القوات الأمريكية التي تعاونت مع قوات محلية عراقية وسورية في تحرير آخر المدن التي كانت خاضعة لدولة “الخلافة” الإسلامية المزعومة في سوريا.
خيارات عسكرية أحلاها مرّ…للطرفين
قبل سنة قرر الرئيس ترامب أن الوقت قد حان لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الموقع بين إيران والدول الخمسة ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، زائد ألمانيا في 2015 والذي فرض قيودا هامة على البرنامج النووي الإيراني. انسحاب واشنطن من الاتفاق صاحبه إعادة فرض العقوبات الاقتصادية التي كانت قد علقت في 2015. وقبل أسابيع أنهت واشنطن فترة السماح لحلفائها بشراء النفط الإيراني دون تعريضها للعقوبات الأمريكية. ومع بداية الأسبوع الثاني من الشهر الجاري استأنفت واشنطن فرض العقوبات على أي دولة حليفة أو صديقة تقرر شراء النفط أو الغاز من إيران. وحتى قبل فرض هذه العقوبات الشاملة، كان الاقتصاد الإيراني يدفع ثمنا كبيرا لهذه العقوبات. قرار ترامب قبل سنة، كان بمثابة رمي قفاز التحدي في وجه النظام الإيراني، وإن لم يكن واضحا قبل سنة ما إذا كانت المواجهة بين البلدين ستبقى في السياق الاقتصادي والسياسي، أم ستتطور إلى نزاع عسكري. إخفاق إدارة الرئيس باراك أوباما في فرض قيود قوية على برنامج الصواريخ الإيراني الطموح، والأهم من ذلك عجز أو عدم استعداد الرئيس أوباما ردع النشاطات التخريبية لإيران في العراق وسوريا واليمن، وتحديدا مواجهة وحشية النظام السوري ضد المدنيين، كانت من بين ابرز إخفاقات أوباما خلال ولايتيه. ويسعى ترامب الى قلب سياسات وقرارات اوباما في المنطقة رأسا على عقب.
بعد تعيين بولتون المعروف بعدائه السافر للنظام الإيراني ودعواته المستمرة لتغيير النظام مستشارا لشؤون الأمن القومي، وبعد تعيين مايك بومبيو المعروف أيضا بتصلبه القوي تجاه النظام الإسلامي وزيرا للخارجية أصبح معسكر الغلاة في العداء لإيران في واشنطن أكثر نفوذا، لأن بولتون وبومبيو أصبحا أقرب من أي وقت مضى إلى أذن الرئيس ترامب. ولا يخفى أن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو الذي يدعو لمواجهة إيران عسكريا منذ سنوات والتي يراها خطرا وجوديا على إسرائيل قادر هو الآخر على الوصول إلى أذن الرئيس ترامب، وهو لا يدعو بالضرورة إلى حرب شاملة ضد إيران، ولكنه يرى أن توجيه ضربة عسكرية موجعة للترسانة الصاروخية الإيرانية، وما تبقى من بنيتها النووية التحتية، عبر غارات جوية وصاروخية مكثفة، قد يرغم النظام على التراجع عن نفوذه السلبي في المنطقة، بما في ذلك وقف دعم الميليشيات التي يمولها ويسلحها في المنطقة، ويؤخر البرنامج النووي إلى أمد طويل نسبيا. ولكن ما هو غير معروف على وجه اليقين، هو كيفية رد إيران على مثل هذا الخيار العسكري. هل سترد بشكل محدود ودفاعي فقط، أم ستلجأ إلى استخدام حلفائها في لبنان وسوريا والعراق واليمن لفتح الجبهات ضد أعداء إيران في المنطقة، ما يعني تحويل أي هجوم أمريكي ضد إيران إلى مواجهات على مستوى المنطقة كلها. وفي السنوات الماضية كشفت تقارير استخباراتية موثقة أن إيران زودت الميليشيات المتعاونة معها في العراق وسوريا واليمن بصواريخ متوسطة المدى، إضافة إلى الترسانة الصاروخية الضخمة التي زودت بها حزب الله في لبنان.
وهناك محللون يرون أنه حتى في حالة توجيه ضربات من هذا النوع ضد إيران، فإنها لن ترغم النظام على تعديل سلوكه بشكل جذري، وربما أدت إلى تقويته في المدى المنظور، على الرغم من وجود نقمة شعبية ضد النظام وممارساته القمعية وسياساته الاقتصادية الفاشلة، والفساد المستشري في أوساط الطبقة السياسية والدينية الحاكمة. وهذا يعني أن لدى الولايات المتحدة خيارات عسكرية تلحق أذى كبيرا بإيران، ولكنها لا ترقى بالضرورة إلى مستوى الحل العسكري.
ماذا يريد ترامب؟
المعروف عن الرئيس ترامب أنه بشكل عام لا ينطلق في قراراته من قناعات ايديولوجية أو سياسية عميقة أو راسخة، وأنه يغير آرائه وفقا لتوجهات الرأي العام وقاعدته الانتخابية الضيقة نسبيا. ولكن هناك استثناءات لذلك تُظهر أن لترامب قناعات وميول معروفة أيضا ولم تتغير منذ سنوات، أبرزها مثلا موقف ترامب القديم والسلبي والثابت من اتفاقات التجارة الدولية، وإيمانه العميق بأن الدول الأخرى تستغل أمريكا اقتصاديا، ومن هنا ايمانه العميق بفرض رسوم الحماية التجارية (فرض التعريفات) لإعادة التوازن لميزان المدفوعات الأمريكي. أيضا لترامب مواقف سلبية من توفير “الحماية” الأمريكية العسكرية “المجانية” لحلفاء واشنطن مثل اليابان وكوريا الجنوبية، كما أن ترامب يعارض بقاء القوات الأمريكية في افغانستان، وقال مرارا خلال حملته الانتخابية أنه سيسحب القوات الأمريكية من سوريا بعد هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية”. وليس سرا أن ترامب يريد أن يقول لناخبيه أنه هو الرئيس الذي أخرج أمريكا من أتون الحروب التي تسبب بها أو واصلها أسلافه من الجمهوريين والديمقراطيين في الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب آسيا.
سجل ترامب في البيت الأبيض يبين بوضوح أنه يبالغ ويصعد ويغالي ويهدد ولكن فقط بكلامه وليس بسيفه. ترامب هو الرئيس الأمريكي الذي هدد في خطاب ألقاه في الأمم المتحدة “بتدمير” كوريا الشمالية، وقام لاحقا بعقد قمتين مع كيم يونغ أون خلال سنة واحدة. صحيح أنه لم يتوصل إلى اتفاق للتخلص من الترسانة النووية لكوريا الشمالية، إلا أنه أعترف بتبادل الرسائل الرقيقة والجميلة مع كيم يونغ أون، والتي أدت إلى وقوعهما في غرام بعضهما البعض على حد قوله. هذا السجل، وهذه الميول عززت التقويم القائل بأن ترامب الذي هدد في بداية التوتر مع إيران بأنه سيعاقبها بشدة إذا لجأت الى القوة، عاد تقريبا في الوقت ذاته إلى القول إنه مستعد للتفاوض معها، وطالب قادتها علنا بالاتصال به هاتفيا، لا بل قيل إنه أعطى الإيرانيين عبر وسطاء رقما هاتفيا للاتصال به. وفي اليومين الماضيين سرب مسؤولون في البيت الأبيض الى صحفيين كلاما نسب الى ترامب جاء فيه أنه أبلغ وزير الدفاع بالوكالة أنه لا يريد حربا مع إيران، إضافة إلى تسريبات أخرى إشارت إلى انزعاج الرئيس من مواقف المستشار بولتون المتشددة وتلويحه بالخيار العسكري ضد إيران، وشملت التسريبات تنكيت ترامب بأنه لو كان بولتون قادرا على اتخاذ قرارات الحرب، لكانت الولايات المتحدة اليوم في حالة حرب في أكثر من مكان. مشكلة ترامب مع حكام إيران، وخاصة المرشد علي خامنئي، هي أنهم ليسوا مهتمين بالتفاوض معه. وليس من المتوقع أن يغيروا موقفهم في أي وقت قريب.
في اليومين الماضيين تراجعت وتيرة التكهنات بشأن الخيارات العسكرية، على خلفية لقاء ترامب بالرئيس السويسري في البيت الأبيض واحتمال استخدام سويسرا –التي تمثل مصالح واشنطن لدى إيران- كقناة اتصال مع إيران، والاتصالات التي أجراها الوزير بومبيو مع المسؤولين العمانيين، أيضا لإستشراف امكانية التوسط لتخفيف حدة التوتر. وكانت عمان في 2013 قد استضافت الأمريكيين والإيرانيين الذين بدأوا مباحثاتهم النووية التي أدت بعد سنوات إلى اتفاق 2015 الذي وقعته إدارة الرئيس أوباما. يوم الخميس سأل مراسل في البيت الأبيض الرئيس ترامب ما إذا كانت أمريكا وإيران تسيران على طريق الحرب. رد ترامب كان مقتضبا “آمل أن لا يحدث هذا”.