سعى الرئيس جوزيف بايدن في خطابه الأول حول رؤيته للسياسة الخارجية، إلى إعادة ترتيب أولويات الولايات المتحدة في أعقاب ما يراه أربع سنوات عجاف من ولاية سلفه دونالد ترامب، وبعد شهر كامل من أخطر تحد داخلي للديموقراطية الأميركية، حين اجتاح متطرفون وعنصريون مبنى الكابيتول لإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية. كانت رسالة بايدن للعالم واضحة للغاية، وهي إن أكثر من 80 مليون أميركي قد انتخبوه لمحاولة محو آثار سلفه النافرة، والانقلاب على سياساته في الداخل وفي الخارج معا.
أراد بايدن أن يقول للعالم ببساطة، جئت لانقض ما حاول ترامب أن يؤسسه، لا لأكمل أي شيء حاول أن يبنيه، جئت لإنهاء عزلة الولايات المتحدة في العالم، عبر تأكيده بصوت عال “لقد عادت أميركا”. عادت الولايات المتحدة للوقوف مع حلفائها التقليديين، عادت للتصدي لخصمها السلطوي القديم، روسيا، ولخصمها المتسلط الجديد، الصين. وهكذا سارع بايدن، إلى القيام بحركة تصحيحية، إن لم نقل انقلابية، لإصلاح أخطاء وأضرار ترامب السافرة، مثل إلغاء حظر سفر رعايا بعض الدول ذات الاكثرية المسلمة، والعودة إلى اتفاقية باريس حول التغيير البيئي، كما العودة إلى منظمة الصحة العالمية.
في الشرق الأوسط، وكذلك في العالم، فعل بايدن بترامب، ما فعله ترامب بسلفه أوباما، أي محاولة نقض وإلغاء السلف، وإعادة النظر بقراراته وأولوياته ووعوده. أعلن الرئيس بايدن وقف دعم الولايات المتحدة “للعمليات الهجومية” في اليمن، في إشارة إلى الغارات الجوية السعودية في اليمن، والتي تستخدم فيها المملكة الطائرات الحربية الأميركية الصنع، “بما في ذلك مبيعات الأسلحة” للسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، لم يكن مفاجئاً، لأن انتقاداته لحرب اليمن كانت معروفة. وكانت إدارة الرئيس بايدن في أيامها الأولى قد جمدت مبيعات الأسلحة إلى السعودية والإمارات، بعد أن وافقت عليها ادارة الرئيس السابق ترامب قبل أفولها.
بايدن، كان يتحدث باسم أكثرية المشرعين الديموقراطيين، وبعض المشرعين الجمهوريين النافذين في الكونغرس، حين قال إن حرب اليمن “قد خلقت كارثة إنسانية واستراتيجية”، في أفقر دولة عربية. من الصعب الاختلاف مع بايدن بشأن فظاعة وفداحة حرب اليمن على ضحاياها ومعظمهم من المدنيين، كما من الصعب التغاضي عن عدم اهتمام دونالد ترامب بضحايا حروب المنطقة من اليمن مروراً بسوريا وانتهاءً بليبيا. ولكن كان من اللافت أن بايدن تحدث عن حرب اليمن وكأن ادارة الرئيس السابق دونالد ترامب هي التي بدأت بتوفير الدعم اللوجستي والاستخباراتي لسلاح الجو السعودي، وليس الرئيس الأسبق أوباما هو الذي بارك، وربما بتردد، هذه الحرب، لأنه كان يريد دعم دول الخليج لاتفاقه النووي مع إيران، الجار اللدود لدول الخليج الحليفة للولايات المتحدة.
في السنوات الماضية خفضت الولايات المتحدة من دعمها للعمليات العسكرية في اليمن، بما في ذلك وقف عمليات تزويد الطائرات الحربية السعودية بالوقود في الجو في 2018 (خلال ولاية ترامب)، وإن واصلت تدريبها وارشاداتها للطيارين السعوديين بهدف تفادي قصف المدنيين.
إعلان بايدن عن تعيين الديبلوماسي المخضرم تيموثي لينديركينغ مبعوثاً خاصاً لليمن، للعمل على تحقيق حل سلمي للنزاع، وفقاً لمبادرة الأمم المتحدة الرامية لفرض وقف لإطلاق النار، وفتح القنوات لتوفير المساعدات الإنسانية، واستئناف محادثات السلام، هو خطوة ايجابية لأكثر من سبب، أبرزها امتحان رغبة المتحاربين بأنهم يريدون حلاً سلمياً، ولأن تيموثي لييندركينغ يتمتع بخبرة واسعة في شؤون اليمن ومنطقة الخليج بشكل عام.
حاول بايدن موازنة انتقاده للسعودية، بتوجيه انتقاد، ولكن مبطن، للحوثيين، حين أشار إلى أن السعودية تواجه خطر الهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة وغيرها من الأخطار الآتية من قبل قوى مختلفة، تسلحها إيران في عدد من الدول، التي تفادى ذكرها بالاسم، وتابع “وسوف نواصل دعم ومساعدة السعودية للدفاع عن سيادتها وحرمة أراضيها وشعبها”. وليس من الواضح لماذا لم يذكر بايدن حقيقة أن الحوثيين، الذين تزودهم إيران بصواريخ باليستية، دربهم حزب الله اللبناني، نيابة عن إيران، على كيفية استخدامها، وقد أطلقوا عدداً من هذه الصواريخ بشكل متهور ضد أهداف ومنشآت مدنية في السعودية لأكثر من مرة.
جاء قرار بايدن بوقف الدعم الأميركي للحرب في اليمن، بعد قراره تجميد مبيعات الأسلحة للرياض وأبو ظبي، بعد أسابيع من تصنيف إدارة الرئيس السابق ترامب لحركة الحوثيين، كتنظيم إرهابي. وكان وزير الخارجية انطوني بلينكن قد انتقد هذا التصنيف، لأنه يؤثر سلباً على العمليات الدولية لإغاثة اليمنيين، خاصة وأن الحوثيين يسيطرون على مناطق واسعة في اليمن. وتعكف إدارة بايدن على مراجعة هذا التصنيف، ربماً تمهيداً لتعديله.
مواقف بايدن خلال حملته الانتخابية، ومنذ وصوله للبيت الأبيض، حول قضايا الشرق الاوسط، بدءاً من رغبته بإحياء المسار الديبلوماسي مع إيران، تمهيداً للعودة إلى الاتفاق النووي معها، بهدف تطويره كما يقول، وهو موقف تتحفظ أو تعترض عليه إسرائيل والسعودية والإمارات. وكذلك انتقاداته المباشرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بسبب انتهاكاته لحقوق الانسان وشرائه لمنظومة صواريخ أس-400 الروسية الصنع، ورغبة الرئيس الجديد إحياء “حل الدولتين” للنزاع الفلسطيني-الاسرائيلي، كلها مواقف توحي بأن علاقاته مع حلفاء واشنطن التقليديين سوف يشوبها الفتور والشكوك المتبادلة.
خطاب بايدن هام لما جاء فيه، ولكنه أيضا مهم لما لم يذكره الرئيس الأميركي. بايدن ركز، وعن حق، على الكارثة الإنسانية في اليمن وضرورة حل ذلك النزاع في عملية تفاوضية. ولكنه لم يتطرق ولو بشكل عابر إلى المأساة الإنسانية الأفظع من مأساة اليمن في المنطقة، أي الحرب الطويلة والرهيبة في سوريا، والمستمرة منذ عقد من الزمن. هذه حرب تتصارع فيها تركيا وروسيا وإيران على أرض سوريا، في الوقت الذي تهيمن فيه إسرائيل على الفضاء السوري. كما تفادى بايدن الإشارة إلى الحرب بين القوى الليبية المتقاتلة، والتي تدعمها دول، مثل تركيا وروسيا والإمارات. وكأن بايدن أراد تفادي النزاع الليبي، على الرغم من أن إدارة الرئيس الأسبق أوباما، والتي كان بايدن مسؤولاً بارزاً فيها، لعبت دوراً قياديا في الحرب الجوية، التي خاضتها الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين والعرب، للمساهمة في الإطاحة بنظام معمر القذافي البائد.
الرئيس بايدن أشار بشكل عابر إلى إيران، بصفتها الدولة التي تسلح قوى عسكرية في المنطقة، ولكنه لم يشر إلى العلاقات المباشرة مع إيران، ولم يكشف عن أوراقه بشأن المفاوضات النووية. كما تفادى بايدن الإشارة، ولو بشكل عابر إلى إسرائيل، التي انتقدت رغبته بإحياء المفاوضات النووية مع إيران، والتي لا تريد البحث بأي طروحات جدية لحل النزاع مع الفلسطينيين. كما غابت تركيا عن خطاب بايدن، على الرغم من تدخلها السافر في سوريا وليبيا. كما تفادى بايدن الإشارة إلى مصر. وبعكس الرئيس السابق ترامب الذي كانت تربطه علاقة شخصية بالرئيسين أردوغان وعبد الفتاح السيسي، ليس من المتوقع أن يقيم بايدن علاقات حميمة مع هذين الرئيسين.
بعد ساعات قليلة من خطاب بايدن، أصدر وزير الخارجية انطوني بلينكن بياناً أدان فيه اغتيال المثقف اللبناني لقمان سليم، المعروف بانتقاداته القوية لتسلط وفساد حزب الله. البيان تحدث عن لقمان سليم وكأنه يعيش في كوكب أخر ويحارب طواحين الهواء، وليس تنظيماً مسلحاً يخدم إيران ويحارب أعدائها. بلينكن طالب القضاء اللبناني، غير المستقل، بالتحقيق في الجريمة، وطالب الدولة اللبنانية بالكشف عن الفاعلين، وكأنها كشفت عن الاغتيالات الكثيرة السابقة، التي يتهم العديد من اللبنانيين حزب الله بارتكابها.
البيان لم يذكر، حتى بشكل عابر، ترهيب حزب الله لما تبقى من دولة في لبنان، أو دور إيران التخريبي وتسليحها لحزب الله، وهي الأخطار التي ناضل ضدها واغتيل بسببها لقمان سليم. تفادي بايدن ذكر الحوثيين ودور إيران في تسليحهم، مثله مثل تجاهل الوزير بلينكن لإرهاب حزب الله للبنانيين، بمن فيهم الشيعة المناضلين ضد تسلطه، مثل لقمان سليم، لا يمكن إلا أن يُفَسر في إيران، وفي أوساط أدواتها في المنطقة مثل حزب الله، على أنه تردد من إدارة بايدن في تسمية الأشياء بأسمائها. أو ما هو أسوأ، ضعف الإدارة الأميركية الجديدة في مواجهة نشاطات طهران التخريبية في المنطقة، لأنها تضع أمام أعينها إحياء الاتفاق النووي مع إيران، على أنه الهدف الرئيسي لإدارة بايدن في الشرق الأوسط، تماماً كما فعل الرئيس الأسبق أوباما في ولايته الثانية.