ادعم منشورات معهد دول الخليج العربية في واشنطن باللغة العربية
تبرع اليوم لمساعدة المعهد في توسيع نطاق تحليلاته المنشورة باللغة العربية.
تبرع
المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس بايدن لمراجعة إنجازاته في سنته الأولى في البيت الأبيض جاء في أعقاب بعض أسوأ النكسات السياسية التي مني بها داخليًا منذ انتخابه. كما أبرز أداء الرئيس خلال حوالي ساعتين من الأسئلة الصعبة والمناوشات بينه وبين الصحفيين خطوط التماس الحامية بينه وبين الجمهوريين، الذين وجه إليهم أقسى الانتقادات منذ انتخابه، وبينه وبين الديموقراطيين “المعتدلين” الذين يعملون على تقويض أبرز خططه الطموحة لتغيير المجتمع الأميركي اقتصاديًا واجتماعيًا. بايدن لم يخف إحباطه في وجه المقاومة الجمهورية الشرسة لطروحاته وسياساته، والتي تحدث عنها وكأنها كانت مفاجئة، متناسيًا المقاومة المماثلة التي واجهها كنائب للرئيس باراك أوباما على مدى ثمانِ سنوات. كما عكس إحباطًا مماثلًا في تعامله مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكأن تحدي بوتين في أوكرانيا لم يصل إلى أقصاه حين غزا وضم شبه جزيرة القرم في 2014 حين كان بايدن نائبًا لأوباما.
أراد بايدن من لقائه الطويل مع الصحفيين أن يقول لنقّاده المشككين بحيويته الصحية والذهنية أنه لا يزال قادرًا على منازلتهم في الحلبة السياسية بغض النظر عن سنه المتقدم (79 سنة)، ولكن ميله إلى الاسهاب في الأجوبة (والذي طوّره على مدى 36 سنة في مجلس الشيوخ)، وأسلوبه في قطع أجوبته قبل إنهائها، وعدم انضباطه خلال مناقشة قضايا حساسة وخطيرة، مثل الأزمة الأوكرانية، وميله للتكهن العلني بشأنها أوقعه في هفوات، وفي إعطاء بعض الأجوبة المبهمة أو القابلة لتفسيرات مختلفة، ما اقتضى “توضيحات” لاحقة ومحرجة من البيت الأبيض. ردود فعل المسؤولين الأوكرانيين، الأولية والقلقة، على تكهنات بايدن حول احتمال لجوء الرئيس بوتين إلى غزو “طفيف” أو محدود لأوكرانيا، وكيف أن مثل هذا الغزو المحدود قد يخلق خلافات بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين حول كيفية الرد عليه، بدلًا من غزو كبير مع ما يعنيه ذلك من رد أوضح وأقوى، أوضحت مدى الضرر الذي تسبب به بايدن بإسهاباته وتكهناته المستغربة من رئيس يفترض أن يكون من أكثر الرؤساء الأميركيين في العقود الأخيرة خبرة في الشؤون الخارجية. التوضيحات من البيت الأبيض تطرقت أيضًا إلى الانطباع الخاطئ الذي خلقه بايدن من أن الانتخابات النصفية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2022 يمكن أن تكون مزورة.
وإذا أراد بايدن أن يدحض من خلال مؤتمره الصحفي الرسمي الثاني خلال سنته الأولى اتهامات وتلميحات خصومه في الداخل وأعدائه في الخارج بأنه رئيس ضعيف يواجه تحديات تاريخية على أكثر من صعيد، ولن يكون قادرًا على معالجتها أو تخطيها، يمكن القول أنه نجح في ذلك، ولكن بشكل محدود، لأنه لم يقوض شكوك خصومه وأعدائه بقدراته القيادية. ردود الفعل السريعة تبين أن بايدن أعطى نقّاده ذخيرة جديدة للتشكيك بقدرته في السيطرة على حلف الناتو، وقيادته بشكل فعال لردع العدوانية الروسية في الخارج، أو قدرته على توحيد وقيادة حزبه الديموقراطي بجناحيه “التقدمي” و”المعتدل” المتنازعين لمواجهة الجمهوريين في الداخل.
الرئيس بايدن أوضح للأميركيين أن إدارته حققت إنجازات هامة في مجال مكافحة جائحة كوفيد-19، وإن شمل ذلك اعترافًا منه بأن إدارته لم تتوقع المتحور الجديد أوميكرون، وأنه بعد نجاحه بإقرار خطته لتحفيز الاقتصاد بأصوات الديموقراطيين فقط، نجح في الحصول على دعم جمهوري استثنائي لإقرار خطته لإعادة بناء البنية التحتية، وهو أمر أخفق فيه الرئيس السابق ترامب بشكل صارخ. المؤتمر الصحفي جاء في أعقاب اسبوع تعرض فيه بايدن لنكسات من المحكمة العليا التي قالت إن صلاحياته لا تشمل إلزام الشركات الكبيرة بتلقيح موظفيها، وبعد أن أوضح عضوي مجلس الشيوخ الديموقراطيين جو مانشين (Joe Manchin) وكيرستن سينما (Kyrsten Sinema) أنهما لن يصوتا على خطته الطموحة لتطوير “البنية التحتية البشرية” من خلال توسيع شبكات الضمانات الاجتماعية والصحية والتعليمية، كما أنهما لن يوافقا على تعديل قواعد مجلس الشيوخ للسماح بتصويت الأكثرية البسيطة – بدلا من أكثرية الستين صوتًا – على مشاريع المشرعين الديموقراطيين في مجلس الشيوخ لفرض قوانين فيدرالية تضمن حقوق التصويت للمواطنين، ونزاهة العملية الانتخابية في وجه محاولات الجمهوريين، في الولايات التي يسيطرون على مجالسها التشريعية المحلية، خلق العقبات الإدارية واللوجستية للحد من قدرة أفراد الأقليات أو تلك الشرائح الاجتماعية التي تصوت تقليديًا للمرشحين الديموقراطيين .في الأيام والأسابيع الأخيرة لم يسلم بايدن أيضًا من انتقادات الجناح “التقدمي” في الحزب الديموقراطي، الذي ادعى أن الرئيس قد تأخر كثيرًا في دعم جهودهم للتصدي للقيود التي يضعها الجمهوريون على الانتخابات.
مع نهاية سنته الأولى في الحكم، وجد بايدن نفسه في مواجهة مفاوضات ثنائية وجماعية مع روسيا لم تؤد إلى حلحلة الأزمة مع موسكو حول مستقبل أوكرانيا، بل أدت إلى تفاقمها أكثر ما دفعه للتكهن في مؤتمره الصحفي أن الرئيس بوتين “سوف يتحرك” باتجاه غزو أوكرانيا .أيضا مع نهاية السنة، وصلت المفاوضات النووية مع إيران إلى طريق مسدود، مع أن بايدن حاول في لقائه مع الصحفيين أن يقول أن الوقت لم يحن بعد للتسليم بفشل المفاوضات في فيينا، وأنه “تم تحقيق بعض التقدم”، وأن مجموعة الخمسة زائد واحد لها موقف موحد في المفاوضات.
وفي مؤشر آخر حول ثبات التحدي الذي تواجهه إدارة الرئيس بايدن من الثلاثي الأوتوقراطي، المتمثل بالتنسيق المتزايد بين روسيا وإيران والصين ضد الولايات المتحدة، تزامن مؤتمر بايدن الصحفي مع زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى موسكو، واجتماعه مع الرئيس بوتين، وقوله أن الوقت قد حان “لمواجهة القوة الأميركية من خلال زيادة التعاضد بين بلدينا”. وجاءت زيارة رئيسي إلى موسكو قبل أيام من بدء مناورات عسكرية بحرية مشتركة في منطقة الخليج بين إيران وروسيا والصين، في رسالة موجهة إلى واشنطن.
مواقف بايدن المبهمة حول روسيا وأوكرانيا، وخاصة إشارته الى احتمال قيام بوتين بغزو محدود، عرضته لانتقادات المعلقين، ناهيك عن الجمهوريين الذي ادعوا أنها يمكن أن تفسر على أنها “دعوة” لبوتين للقيام بمثل هذا الغزو المحدود. إشارة بايدن المقتضبة إلى أن إدارته تدرس إمكانية إعادة وضع حركة الحوثيين اليمنية على قائمة التنظيمات الارهابية في أعقاب قصفها لأهداف مدنية قرب مطار أبوظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة، وأن إنهاء حرب اليمن يتطلب مشاركة “الطرفين” في العملية، وأن إنهاء الحرب سيكون صعبًا، كانت ناقصة ومبهمة. بايدن فوّت فرصة انتقاد القصف الحوثي لأهداف مدنية في السعودية، والآن في الإمارات. كان بإمكانه أن يضع هذا النقد في سياق انتقاد قصف أي طرف لهدف مدني في هذه الحرب المدمرة، وأن يكرر الدعوة لجميع الأطراف للتفاوض دون شروط مسبقة، ولكنه أخفق في ذلك.
المشكلة المزمنة التي أبرزها أداء بايدن في مؤتمره الصحفي هي أنه لم يمحُ الانطباع الذي خلقه خصومه في الداخل وأعدائه في الخارج بأنه رئيس ضعيف، وهذا يتبين من محاولات بوتين المستمرة للتفاوض المباشر مع بايدن، لامتحان صلابته وقدرته على الحسم. قد لا يلجأ بوتين إلى القيام بغزو تقليدي جديد لأوكرانيا، لأن هدفه المباشر قد لا يكون احتلال المزيد من أراضي أوكرانيا، بل إرهاقها وإضعافها، من خلال شن الهجمات السيبرانية أو عمليات التخريب في الداخل، وإظهار عجز واشنطن وحلفائها في الناتو في حماية أوكرانيا. كما أن بوتين، من خلال تحديه لبايدن في أوكرانيا وفي أوروبا، يهدف إلى إضعافه وإضعاف الديموقراطيين أكثر في الداخل، وربما التمهيد لعودة الرئيس السابق ترامب إلى البيت الأبيض في الانتخابات الرئاسية في 2024.
قبل أيام نشرت صحيفة واشنطن بوست مقالًا حول الانزلاق السريع والخطير في شعبية الرئيس بايدن كما يتبين من مختلف استطلاعات الرأي العام منذ فصل الصيف، التي أظهرت أن حوالي 60 بالمئة من الأميركيين لا يوافقون على أدائه. وشمل المقال اشارة لافتة الى ما قالته عينة من الناخبات الأميركيات الديموقراطيات، حين طرح عليهن السؤال حول أول انطباع يخطر على بالهن حين ذكر اسم الرئيس بايدن. الأجوبة معبّرة ومحرجة. إحداهن قالت انه “متقلب” وغير قادر على الوقوف بوجه حزبه، ناخبة أخرى قالت أنه لا “يعطي الانطباع بأنه رئيس قوي، ويبدو أنه ضعيف”. ناخبة ديموقراطية أخرى قالت تعليقًا على أن بايدن يبدو متعبا، “إذا كان يحتاج لقيلولة، فليأخذها (قبل نشاطه العلني) لأننا نحتاجه أن يمثلنا”. الأوصاف الاخرى تراوحت بين “عجوز”، “كسول” و”غير متماسك”.
هذه تعليقات عينة من الناخبات الديموقراطيات، ولكنها بمعظمها مجحفة بحق الرئيس الأميركي. فهو قطعًا ليس كسولًا، وصحيح أنه لا يتحدث بفصاحة مماثلة لفصاحة الرئيس الأسبق أوباما، إلا أنه ليس أسوأ من الرئيس جورج بوش الابن في هذا الصدد، وقطعًا بايدن يتحدث بطلاقة لن يصل إليها مطلقًا سلفه دونالد ترامب. ولكن كل هذه العوامل، لا تخفي حقيقة وجود هذا الانطباع بأنه ليس رئيسًا قويًا، يرغم الحلفاء والأعداء على احترامه، أو قائدًا حاسمًا يسيطر على بيته الحزبي وائتلافه السياسي. هذا هو الارث الذي يحمله بايدن في بداية سنته الثانية في الحكم، وهي سنة سوف تكون حافلة بالتحديات الداخلية المتمثلة بجائحة أرهقت المجتمع الأميركي، وانقسامات سياسية وثقافية أضعفت كثيرًا الديموقراطية الأميركية، وانتخابات نصفية قد تكون كارثية على الديموقراطيين. كل هذا إضافة إلى تحديات خارجية ليس أقلها الثلاثي الأوتوقراطي الروسي–الصيني-الإيراني الذي يريد إضعاف الولايات المتحدة، التي لا تزال تعاني من أسوأ لحظة ضعف داخلي واجهته منذ نهاية الحرب الأهلية قبل أكثر من قرن ونصف.