تتطلّع موسكو بشكل متزايد إلى الاضطلاع بدور الوسيط في الشرق الأوسط، ولكن ما جديّة هذا الأمر؟ فلطالما تحاول روسيا، بالتعاون مع تركيا وإيران، أن تؤدي دور الوسيط بين نظام الرئيس السوري بشار الأسد وبعض أعدائه في المفاوضات التي تجري في العاصمة الكازاخية أستانة وفي جنيف. كما تفيد بعض المصادر بأن موسكو لم تتطوّع فقط للتوسط بين المملكة العربية السعودية وإيران، بل واستضافت أيضًا بعض المباحثات التي جرت بينهما. وعلاوة على ذلك، اقترحت موسكو أن تؤدي دور الوسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وبين الفصائل المتحاربة في اليمن. وأشارت بعض التلميحات إلى احتمالية اضطلاع روسيا بدور الوسيط بين الفصائل المتحاربة في ليبيا أيضًا.
ويبدو أن موسكو ترغب في أن تظهر بصورة الحل الملائم لكل مشكلة تعاني منها المنطقة، أو على الأقل أن تظهر بحلّة المُحاور الأمثل الذي تلجأ إليه الدول نظرًا إلى قدرته الفريدة على تبديد مخاوف كافة الجهات المعنية. إن الحجّة التي تقدمها موسكو لتبرهن أنها الوسيط الأمثل للشرق الأوسط تتمثّل في حقيقة أن روسيا تتحاور مع أطراف أي نزاع ينشب في الشرق الأوسط (طبعًا باستثناء تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام وتنظيم القاعدة). وخلافًا لذلك، فإن الولايات المتحدة لا تتحاور مع بعض الجهات الفاعلة في الشرق الأوسط (كالنظام السوري أو حزب الله) أو لا تتحاور مع البعض الآخر بشكل فعال للغاية (كإيران ومنظمة التحرير الفلسطينية).
وبات المراقبون الروس، الذين يقيّمون الدبلوماسية السوفيتية المُعتمدة سابقًا في الشرق الأوسط، يعتقدون أن موسكو قد أخطأت التصرّف عندما قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل على خلفية الحرب العربية الإسرائيلية التي نشبت عام 1967. ويعزون ذلك إلى أن الحكومات العربية قد طلبت نجدة الولايات المتحدة عندما قررت أنها تحتاج إلى التوصل إلى تسوية تفاوضية مع إسرائيل، نظرًا إلى العلاقات الوطيدة التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل، في حين لم تستعين بالاتحاد السوفياتي الذي لا يتمتع بعلاقات جيدة مع إسرائيل. وحتى عندما اضطلعت موسكو بدور رسمي في عقد الكثير من جلسات مفاوضات السلام في الشرق الأوسط، أدّت قدرة الولايات المتحدة التي تفوق قدرة موسكو على التعاون مع إسرائيل إلى تهميش موسكو في هذه المفاوضات. ولقد بلغت هذه العملية ذروتها عندما اعتمدت الولايات المتحدة، بإدارة وزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر، خلال الحرب التي نشبت عام 1973 وبعدها، دبلوماسية ضمنت فيها الولايات المتحدة انتصار إسرائيل ومعاقبتها، وهزيمة العرب من دون أن يشعروا بالذل، ومشاركة الروس التي اقتصرت على كونها جهة داعمة فحسب، واستعداد واشنطن للتحاور بشكل جدّي مع كافة الأطراف ومدّ يد العون لها لتساعدها في تحقيق أهدافها لمرحلة ما بعد النزاع. واستشهد كيسنجر بجملة رئيسه، ريتشارد نيكسون المتورط في فضيحة “ووترغيت”، فوصف هذا التموضع بـ “مقعد طائر الكاتبيرد“.
إلا أن موسكو تعتبر أن الوضع الحالي أصبح عكسيًا. فلقد باتت موسكو هي التي تستطيع أن تتحاور مع شتى أطراف العديد من النزاعات (باستثناء الجهاديين) في حين أصبحت واشنطن غير قادرة على ذلك أو غير عازمة على القيام بذلك. وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على إيران. فعلى الرغم من أن إدارة أوباما تفاوضت مع طهران حول موضوع الاتفاق النووي الإيراني، فلقد أعلن المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي أن الجمهورية الإسلامية لن تتفاوض مع واشنطن في أي مسألة أخرى. ولقد أوضحت إدارة ترامب أنها غير مهتمة بالتفاوض مع إيران على أي حال. ونظرًا إلى أن موسكو قادرة وتتواصل بشكل دائم مع إيران وبطريقة إيجابية في معظم الأحيان، فإنها، وفقًا للمنطق الروسي، في موقع يسمح لها أكثر بكثير أن تساعد الآخرين أيضًا على تسوية خلافاتهم مع إيران.
إلا أن قدرة روسيا على التحاور مع كافة أطراف النزاع (أو أبرزها) ليست بحد ذاتها كافية للسماح لروسيا بالاضطلاع بدور الوسيط بشكل فعال في الشرق الأوسط. فلعل الوسيط بحاجة أيضًا إلى أن يكون في وضعية تسمح له أن يحفز الأطراف المتنازعة على التوصل إلى اتفاق. فلقد سهّلت إدارة كارتر، على سبيل المثال، عملية إبرام اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، عبر إلزام الولايات المتحدة بتقديم مساعدات سنوية بقيمة مليارات الدولارات إلى كل من مصر وإسرائيل، وما زالت الولايات المتحدة تقدم هذه المساعدات منذ ذلك الحين. وحتى عندما لم يكن لواشنطن دور جوهري في تقدّم سير المفاوضات، كما جرى في المحادثات السرية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو التي لم تشارك فيها الولايات المتحدة بشكل مباشر، فإن مساعي الولايات المتحدة الحميدة والحوافز المالية وغير المالية التي قدمتها أدّت دورًا لا يقدّر بثمن في ترجمة التفاهمات الإسرائيلية-الفلسطينية إلى سلسلة من الاتفاقيات المعقدة، التي وإن لم تكن مثالية، ما زالت نافذة حتى يومنا هذا.
ومن المستبعد جدًا أن تكون روسيا راغبة أو قادرة على تقديم ما يكفي من المساعدات، التي تقلّ بأشواط عن تلك التي قدّمتها الولايات المتحدة لمصر وإسرائيل، لحثّ الجهات المتناحرة في الشرق الأوسط على وقف القتال. وبالفعل، تسعى روسيا إلى إقناع الغرب والدول العربية بتقديم المساعدات التي لا تقوى موسكو على منحها أو التي لا ترغب في تقديمها متحججة باعتبارات عدّة، نذكر منها على سبيل المثال أن “السلام في سوريا هو مصلحة عامة عالمية”. إلا أن ردود فعل المشاركين الغربيين والخليجيين العرب السلبيّة على هذه الاعتبارات في نادي النقاش الدولي “فالداي”، الذي انعقد في شهر شباط/فبراير في موسكو وتناول موضوع الشرق الأوسط، تشير إلى أنه من غير المرجح أن يكون الآخرون مستعدّين لتكبّد الأثمان المترتبة عن نجاح الوساطة الروسية وبالتالي السياسة الخارجية الروسية.
ولا شك في أن إقدام روسيا على مساعدة العديد من الأطراف المتنازعة قد لا يكون كافيًا لتسوية النزاع الناشب بينها على أي حال. فعلى سبيل المثال، لا تبدو مسألة حلّ الخلاف السعودي-الإيراني ممكنة عبر هذه الطريقة، حتى وإن كانت روسيا قادرة على تقديم المساعدات إلى الولايات المتحدة وإيران (بشكل منفرد أو بالتعاون مع دول أخرى). ولعل ما تقتضيه الحاجة في هذه الحالة يتمثل في مساعدة الرياض وطهران على القبول بتحديد واحترام نطاق نفوذ كلّ منهما في منطقة الشرق الأوسط. ولكن ما لم يُبد الطرفان استعدادًا للتفكير مليًا في إبرام مثل هذه الاتفاقية، التي تُلزم في الواقع كل من الطرفين بالتنازل عن بعض مجالات هيمنته للفريق الآخر وبالقبول بالقيود المفروضة على مصالحه وطموحاته، فمن غير المرجح أن ينجح أي وسيط خارجي، بما في ذلك روسيا، في إقناعهما بالقيام بذلك عبر الترغيب والتملّق.
وتتمثّل المشكلة الثانية التي تواجهها موسكو في أنه حتى إذا ما كان أحد أطراف النزاع يتمتع بعلاقات لا بأس بها مع روسيا، فقد لا يرغب في أن تؤدي روسيا دور الوسيط. ويقال إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في آخر لقاء له مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قد ذكر أن موقف موسكو يخوّلها بشدة أن تؤدي دور الوسيط بين إسرائيل والفلسطينيين نظرًا إلى العلاقات الوطيدة التي تربط روسيا بمنظّمة التحرير الفلسطينية كما عرض أن يتدخّل لتسوية النزاع، ويكون بذلك قد استخدم الأسلوب عينه الذي استخدمته واشنطن في ادعائها أن “علاقتها المميزة” بإسرائيل تجعل من الولايات المتحدة الوسيط الأمثل. وعلى ما يبدو، لم يثر عرض بوتين إهتمام نتنياهو الذي يبدو أنه رفضه. وفي هذه الحالة، لا يتوقف الأمر على أن روسيا لا تمتلك الموارد الكافية لتحفيز إسرائيل على المساومة مع الفلسطينيين، بل إن موسكو لا تقوى بتاتًا على إقناع نتنياهو، بالترغيب أو بالترهيب، بأن يسعى إلى التوصل إلى تسوية إن لم يكن راغبًا في ذلك.
وثمة مشكلة أخرى تعيق اعتبار موسكو وسيطًا فعالًا في الشرق الأوسط تتمثل في الدول التي تنافس موسكو على هذا الدور والتي لا تقتصر على واشنطن. فيقال إن الصين، على سبيل المثال، قد تطوّعت لتأدية دور الوسيط بين المملكة العربية السعودية وإيران. فإن كانت الرياض وطهران مستعدتين فعلًا لتسوية خلافاتهما، فقد يجد الطرفان أن الصين ملائمة، أكثر بكثير من روسيا، لتكون طرفًا ثالثًا. فما يمكن لبكين أن تقدمه للطرفين في مجالي التجارة والاستثمار يفوق قدرة موسكو بأشواط. ولكن حتى وإن لم تقبل الرياض وطهران بعرض بكين لجهة تأدية دور الوسيط بينهما، يشير عرض الصين إلى أن بكين لا تعتقد أن موسكو قادرة على تأدية هذا الدور بشكل فعال وأنها لا تشعر بالقلق إزاء أي تحفظ قد يصدر عن موسكو على تأدية الصين دور الوسيط الذي تتوق روسيا إلى الاضطلاع به.
لا يثقل كاهل بكين إرثًا تاريخيًا مماثلًا لذاك الذي تراكم جراء تدخّل موسكو منذ القدم في الشرق الأوسط وتاريخها المثير للجدل في المنطقة. وقد يجعل هذا التاريخ الحافل بالأحداث جدول أعمال روسيا الإقليمي شائكًا. فعلى سبيل المثال، إن الروايات المتجذرة في عمق تاريخ الإمبريالية الروسية التي طبعت القرن التاسع عشر، جعلت من الصعب جدًا، على المستوى السياسي، على النظام الإيراني أن يسمح لموسكو أن تنشر قاذفات روسية في قاعدة همدان الجوية الإيرانية لتُستخدم في التدخل الإيراني الروسي المشترك في سوريا. وفي شهر آب/أغسطس 2016، تراجعت إيران عن مثل هذا الإذن الذي منحته قبل أسبوع واحد فقط لروسيا. وعلى الرغم من المكاسب الاستراتيجية الواضحة التي قد يجنيها الطرفان من مثل هذه الخطوة، فلقد أجاد أحد الخبراء التعبير عندما قال إن “تداعياتها تفوق قدرة السياسات المحلية الإيرانية على التحمّل.” وتزعم التقارير الإعلامية الروسية أن روسيا قد استأنفت سرًا استخدام قاعدة همدان، ولكن إن دل هذا الأمر على شيء فهو أن موسكو، على غرار واشنطن، تزرع بذور الشك وحتى الكراهية في صفوف الحلفاء والمحاورين السابقين في الشرق الأوسط.
في الوقت الذي تجني فيه روسيا، في الوقت الحالي على الأقل، ثمار تموضعها “كبديل” عن الولايات المتحدة في مجموعة من المسائل والأدوار، فسيترتب عليها عاجلًا أم آجلاً أن تتحمّل وحدها مسؤولية سياساتها وأعمالها. وحول ما إذا كانت موسكو ستكثّف جهودها “لتخلق” دبلوماسية خاصة بها تهدف إلى تسوية النزاعات في سوريا وليبيا واليمن وغيرها من ساحات المعارك الإقليمية، ولاسيما حيث تُعتبر عدوانية أكثر من مجرد متفرّج ذي نوايا حسنة، فسرعان ما ستدفع أثمانًا تفوق المكاسب التي ستجنيها، ولاسيما إن لم تكن المفاوضات مجدية أو الأسوأ من ذلك إذا اعُتبرت جزءًا من استراتيجية روسية مدروسة جيدًا تخدم مصالحها الخاصة. أما الصين، التي لا يعيقها أي إرث ثقافي والتي لا تتدخل حاليًا بشكل مباشر في النزاعات التي تنشب في الشرق الأوسط والتي قد تقوّض المبادرات الدبلوماسية الأمريكية والروسية، فهي قادرة أكثر بكثير من روسيا على إقناع دول الشرق الأوسط بأنها “وسيط نزيه”، إن أرادت بكين فعلًا أن تضطلع بمثل هذا الدور.
وقد تشكّل القدرة على التحاور مع شتى أطراف النزاع شرطًا أساسيًا لتأدية دور الوسيط بشكل فعال. إلا أن هذا الشرط ليس كافيًا. وبالتالي، ولأسباب شتّى، لا تبدو موسكو ملائمة لتأدية دور الوسيط في الشرق الأوسط في هذا الكمّ الهائل من حالات النزاع وبتلك الفعالية التي يوهمنا بها الكرملين.