أثارت زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى واشنطن في أغسطس/آب ضجة إعلامية كبيرة. وازدادت التوقعات بشأن إعادة المواءمة بين العراق ودول الخليج العربية من خلال الاستثمار وربط شبكة الكهرباء الوطنية العراقية بمجلس التعاون الخليجي كسبيل لتقليل اعتماد بغداد على الكهرباء الإيرانية.
وتعد استراتيجية إدارة الرئيس دونالد ترامب باستمالة العراق نحو دول الخليج امتداداً لدبلوماسية الرئيس باراك أوباما، التي بدأت عام 2013 تحت إشراف المبعوث الخاص للتحالف الدولي لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بريت ماك جورك (Brett McGurk) من أجل مكافحة النفوذ الإيراني في العراق. ومع ذلك، فقد كانت إدارة ترامب هي الأقوى في مساعيها لإعادة اندماج العراق في العالم العربي. وقد لعب نهج “الضغوط القصوى” لاحتواء سلوك إيران المزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط دوراً رئيسياً في إصرار الإدارة على مساعدة العراق والمملكة العربية السعودية في إصلاح العلاقات فيما بينهما.
واجهت الولايات المتحدة معضلة مماثلة عندما حاول الرئيس دوايت أيزنهاور احتواء مصر في عام 1956. كانت استراتيجيته تتمثل في تشكيل تحالف بين العراق والمملكة العربية السعودية والأردن ولبنان كقوة موازنة لصعود الرئيس جمال عبد الناصر وعلاقاته مع الاتحاد السوفييتي. في هذا السياق، التقى الملك سعود بن عبد العزيز عاهل السعودية بالملك فيصل ملك العراق في بغداد لإرساء أُسس الثقة بين الخصمين بعد أن تخلى فيصل عن مطالبة عائلته بالحجاز، وهو ما ساعد على حل القضايا القديمة المتعلقة بترسيم الحدود بين السعودية والعراق.
وشجعت واشنطن المصالحة بين البلدين المتجاورين من خلال الدعم المالي والعسكري. وقدمت حوالي 50 مليون دولار للملك السعودي، وقدمت للعراق مساعدات عسكرية. ومع ذلك، لم يتحقق التحالف أبداً على أرض الواقع؛ بسبب التطورات الداخلية وانعدام الثقة المتبادل، والأحداث الدراماتيكية الجيوسياسية، مثل تشكيل الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا والأزمة السياسية في لبنان عام ،1958 التي آلت إلى تدخل عسكري أمريكي. علاوة على ذلك، فقد أدى انقلاب 1958، الذي أنهى حكم السلالة الهاشمية في العراق، إلى توسيع فجوة الثقة بين بغداد والرياض. وازدادت التوترات مع تهديد العراق بغزو الكويت، وفي عام 1961، أرسلت المملكة العربية السعودية قوة طوارئ للدفاع عن الدولة الخليجية الصغيرة.
تغيرت الديناميكية الإقليمية مع الثورة الإيرانية في عام 1979. فقد عمل التهديد الذي تشكله قوة غير عربية على جمع المملكة العربية السعودية والعراق معاً، ومع ذلك، قامت الرياض عمداً “بإرساء مسافة” بين دول الخليج العربية والعراق، من خلال استبعاد بغداد من عضوية مجلس التعاون الخليجي في عام 1981. وما كان من غزو العراق للكويت بعد 10 سنوات إلا أن عزز من مخاوف المملكة العربية السعودية بشأن طموحات بغداد الإقليمية.
في عراق ما بعد عام 2003، مهدت استقالة رئيس الوزراء نوري المالكي، واستبداله بحيدر العبادي في عام 2014، الطريق أمام إقامة علاقات دبلوماسية بين المملكة العربية السعودية والعراق. واعتمدت واشنطن بشكل كبير على شخصية العبادي للتقدم بنهجها الجديد تجاه العراق، حيث زار العبادي الرياض مرتين. كما زار الرئيس العراقي فؤاد معصوم الرياض، وأدت هذه المحادثات مع المسؤولين السعوديين إلى تعيين ثامر السبهان في يونيو/حزيران 2015 كأول سفير مقيم للمملكة العربية السعودية في العراق منذ عام 1991. وبعد بضعة أشهر، أرسل العراق سفيره الخاص إلى الرياض. ومع ذلك، فقد كان هنالك ضعف جوهري في استراتيجية واشنطن. كان التركيز على العبادي وحده، وروجته الولايات المتحدة على حساب الحلفاء الرئيسيين الآخرين في العراق، بمن فيهم الأكراد، وبشكل خاص في عام 2017، عندما أجرى إقليم كردستان استفتاء الاستقلال المشؤوم.
كلفت إدارة ترامب وزير الخارجية آنذاك ريكس تيلرسون بالترويج لأهمية وجود علاقة أعمق بين بغداد والرياض، وانضم إلى العبادي في الاجتماع الافتتاحي للجنة التنسيق السعودية-العراقية، إلى جانب العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، مشددين على أهمية العلاقات السعودية-العراقية للأمن المشترك والازدهار في المنطقة.
لكن هزيمة العبادي في الانتخابات البرلمانية العراقية عام 2018 أوقفت التقدم بين العراق والسعودية. في أغسطس/آب، قام وفد عراقي بزيارة للولايات المتحدة، وكان من بينهم ممثلون من إقليم كردستان. في العقود الأخيرة، كانت علاقات الخليج مع الأكراد أقوى منها مع بغداد، لذا فإن إدخال وجهة النظر الكردية ساعد في الاستفادة من العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية القائمة.
وأدت الزيارات المتبادلة بين المسؤولين العراقيين والسعوديين إلى تشكيل مجلس التنسيق السعودي العراقي في أكتوبر/تشرين الأول 2017 من أجل تنسيق وتسهيل التجارة والاستثمار وفتح منفذ عرعر الحدودي. إلا أن المجلس لم يكن فعالاً بشكل كبير. وعلى الرغم من الموافقة على فتح منفذ عرعر الحدودي، إلا أنه بقي مغلقاً ما عدا أثناء موسم الحج بالرغم من تجديده من الجانب السعودي. علاوة على ذلك، فقد استغرقت المملكة العربية السعودية ما يقارب العامين لتحديد موعد الاجتماع الثاني للمجلس.
وفي حين أن هذه المبادرات قد أسفرت عن تحسن العلاقات الرسمية بين السعودية والعراق، إلا أنه لم يتغير شيء يذكر على أرض الواقع، والاستثمار السعودي في العراق مثال على ذلك. ويرجع ذلك إلى حد كبير لعدم التوافق ما بين أولئك الذين يمسكون بالسلطة على المستوى الرسمي في بغداد وأولئك الذين يمسكون بزمام السلطة على الأرض في جميع أنحاء العراق. فالطرف الأول يبدو جاداً في إعادة بناء علاقات العراق مع دول الخليج. ولكن الطرف الآخر، الذي يتكون من ميليشيات شيعية، ينظر إلى المملكة العربية السعودية كتهديدٍ لسلطته. إذا لم يحصل تغيير جذري في المشهد السياسي العراقي، فإن هذا الانقسام الداخلي سيواصل عرقلة التقارب الهادف بين بغداد والرياض.
لقد اقترح السعوديون، في الواقع، عدداً من المبادرات لتعزيز مكانة الدولة العراقية. ومع ذلك، لا تملك المملكة العربية السعودية مسارات فعالة حتى الآن لتوجيه الحوافز الاقتصادية نحو الجهات الصحيحة في بغداد. فقد تعطل تعهد بقيمة مليار دولار لقروض تنموية للعراق منذ عام 2017، وكذلك تعطلت خطة لبناء مدينة رياضية كهدية لبغداد. بالإضافة إلى ذلك، تعثر التقدم في فتح قنصليتين في النجف والبصرة.
قد تكون الاضطرابات السياسية مسؤولة جزئياً عن عدم إحراز تقدم، لكن العوامل الأكثر أهمية بالنسبة للسعوديين هي على الأرجح انعدام الأمن في عقر دار الشيعة، والعراقيل التي تضعها العناصر المناهضة للسعودية في الحكومة العراقية. من المرجح أن تقدم المملكة العربية السعودية مساعدات مالية إذا توفرت لديها القنوات المناسبة لتقديم التمويل، وإذا كان هناك نظامٌ للمساءلة. لقد ابتلي العراق بالفعل بالنزاعات والفساد وعدم الاستقرار، وتهدد التدفقات المتزايدة للأموال بتعميق الخلافات السياسية بين مختلف الفصائل المتنافسة على السلطة.
ما يزال العراق بلدًا معادياً للاستثمار السعودي وغيره من المصالح. ولا يزال وجود قوات الحشد الشعبي يشكل تهديداً خطيراً. وقد هددت بعض فصائل الحشد الشعبي السعودية، وتعهدت بمهاجمة المملكة بعد هزيمة داعش في العراق وسوريا، وهنالك تواجد لفصائل الحشد الشعبي المعروفة باسم المقاومة الإسلامية على الحدود العراقية السعودية.
لا يزال النفوذ العسكري لهذه الفصائل في المناطق التي يسيطر عليها السنة يشكل تهديدات خطيرة حتى بالنسبة لإيصال المساعدات الدولية إلى المناطق المنكوبة بالحرب. على سبيل المثال، أعلنت جماعة حراس الدم، وهي جماعة مسلحة تابعة للمقاومة الإسلامية، مسؤوليتها عن هجوم على قافلة تابعة لبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، زاعمة أنها تخفي عناصر من وكالة المخابرات المركزية، أثناء محاولتها إيصال المساعدات إلى محافظة نينوى. وتعمل الميليشيات على عرقلة الجيش الأمريكي، وتجعل الحركة والعمليات اللوجستية صعبة. علاوة على ذلك، فإن مقتل النشطاء العراقيين مؤخراً في بغداد، والبصرة، ومناطق أخرى والإفلات من العقاب، خصوصاً أثناء وجود الكاظمي في واشنطن، هو رسالة واضحة من هذه الميليشيات حول السيطرة والسلطة التي تمارسها في العراق.
ومع ذلك، فإن اقتراح ربط شبكة الكهرباء في العراق بشبكة دول مجلس التعاون الخليجي، إذا نجح، قد يمكّن دول الخليج من ممارسة نفوذها في العراق، وإلى حد ما، دحر نفوذ الجماعات الشيعية المسلحة بشكل تدريجي. ووقع العراق على صفقة مع دول مجلس التعاون الخليجي في عام 2019 لاستيراد حوالي 500 ميجاوات من الكهرباء للبصرة بحلول عام 2020. وبحسب الحكومة العراقية، فقد أوفت بغداد بـ 80٪ من الالتزامات المترتبة عليها في الاتفاقية، وهو ما أثار الانتباه إلى استعداد دول الخليج للقيام بدورها في ربط العراق بشبكة دول مجلس التعاون الخليجي.
إذا سارع مجلس التعاون الخليجي في استكمال محطات تحويل الطاقة لتوفير حاجة العراق من الكهرباء، فإن ذلك سيؤتي ثماراً كبيرة. وستذهب هذه الفوائد مباشرة إلى الشعب العراقي، الذي عانى من الحرارة اللاهبة بسبب انقطاع التيار الكهربائي وقلة مياه الشرب. إذا تم إيصال الطاقة الكهربائية للمنازل، فسيكون من الصعب على الفصائل المناهضة للسعودية في العراق تعطيلها دون إثارة غضب السكان. لذلك، ستحتاج الشرطة الاتحادية العراقية إلى توفير الحماية الكاملة لهذه البنية التحتية الحيوية، ويمكن للولايات المتحدة، بصفتها ظهيراً قوياً للمشروع، استخدام الطائرات دون طيار للمراقبة إذا لزم الأمر.
تواصل الميليشيات الشيعية سيطرتها على الأجهزة الأمنية المهمة في الدولة العراقية. ويتمتع الكاظمي بنفوذ ضعيف منذ تعيينه من قبل الأحزاب السياسية ذات المصلحة في الحفاظ على ديناميكيات السلطة الحالية. وفي الوقت الذي يحظى فيه بدعم شعبي ملحوظ، إلا أنه لا يزال من المحتمل أن يواجه تحدياً في الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في يونيو/حزيران 2021. ومع ذلك، إذا تمكنت قائمته من الفوز بعدد كافٍ من المقاعد، فإن ذلك قد يمنحه التفويض الذي يحتاجه للتعامل مع التحديات الأمنية، وفي نهاية المطاف إنشاء بيئة أكثر مواءمةً للقوة السعودية الناعمة في العراق. لكن الإجراءات الصارمة في التعامل مع الفصائل الشيعية الموالية لإيران قد تأتي بنتائج عكسية، وتغرق البلاد في حرب أهلية.
يظهر التاريخ أن العراق لا يتجاوب بشكل جيد مع الضغوط الخارجية التي ستؤدي، بدلاً من ذلك، إلى تفاقم الانقسامات العرقية والطائفية التي تقوم عليها البلاد. ستكون عملية ربط شبكة الكهرباء الوطنية العراقية بشبكة دول مجلس التعاون الخليجي هي البداية. ولكن في نهاية المطاف، ستكون الحلول المحلية ضرورية للتنمية الاقتصادية والاستقرار الوطني.