واجه الرئيس دونالد ترامب خلال الأشهر الثلاثة الأولى له في الحكم تحديات داخلية معقدة عرقلت آماله بتحقيق انجازات كبيرة تشمل إقرار قوانين جديدة بشأن الضمان الصحي، أو إصلاح الأنظمة الضريبية، كما واجه خارجيا أزمات خطيرة أبرزها التوتر العسكري مع كوريا الشمالية، فضلا عن توتر العلاقات مع الجارتين كندا والمكسيك، ومع حلفاء تقليديين لأمريكا بمن فيهم المانيا واستراليا. ولذلك كان من المستغرب بعض الشيء أن يتحدث ترامب بثقة كبيرة خلال استقباله للرئيس الفلسطيني محمود عباس عن استعداده لبذل كل الجهود لتحقيق ما أخفق فيه كل أسلافه منذ نصف قرن في تحقيقه، أي ما يسميه “الصفقة النهائية” أو السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل. وقبل أيام من استقباله لعباس قال ترامب “أريد سلاما بين إسرائيل والفلسطينيين. لا يوجد هناك سبب لانعدام وجود سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، لا سبب على الإطلاق”. وواصل ترامب تفاؤله بحضور الرئيس عباس حين قال له “نريد أن نحقق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، وسوف نفعل ذلك”، وتابع “وسوف نعمل بجهد كبير لتحقيق ذلك، واعتقد أن هناك فرصة جيدة للغاية لذلك، وأعتقد أننا سنفعل ذلك”. ولاحقا، غالى ترامب في فرص تحقيق السلام، كما غالى بقدراته التفاوضية وقارنها ضمنا بالقدرات المحدودة لأسلافه حين قال إن تحقيق السلام “برأيي الصريح ربما ليس صعبا كما اعتقد الناس عبر السنين”.
هذه الثقة الزائدة بالنفس، والتي لا يبررها سجل ترامب كرجل أعمال، هي من أبرز الصفات الشخصية للرئيس الأمريكي الجديد الذي يحلو له أن يقول أن كل أزمة، أو مشكلة، أو نزاع تتضمن فرصة للتوصل إلى “صفقة” إذا توفر المفاوض المحنك ( أي ترامب نفسه) في الوقت الذي تكون فيه الظروف يانعة أو ناضجة. ما يجعل هذه الثقة بالنفس نافرة، هو أن معرفة ترامب بتاريخ القضية الفلسطينية، وتعقيدات النزاع العربي-الإسرائيلي محدودة للغاية، كما يتبين من أي مراجعة لتصريحاته ومواقفه المتناقضة بهذا الشأن منذ بداية حملته الانتخابية، وحتى بعد انتخابه. هذه المعرفة الضحلة بالسياسة الدولية وتحديدا النزاعات التاريخية والأمنية، بدت واضحة في تعامل الرئيس ترامب مع التوترات في شبه الجزيرة الكورية، ومع حروب ونزاعات الشرق الأوسط.
ترامب يكتشف فلسطين
تقليديا يقوم الرؤساء الأمريكيون خلال السنة الأولى لهم في الحكم بزيارة الحلفاء والأصدقاء التاريخيين وخاصة في أوروبا، فضلا عن الجارتين القريبتين: كندا والمكسيك. ولكن ترامب ارتأى أن تشمل أول جولة خارجية له آخر الشهر الجاري المملكة العربية السعودية وإسرائيل ورام الله، قبل التوجه إلى أوروبا لزيارة الفاتيكان، للمشاركة في اجتماع حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل، قبل أن ينهي جولته بالمشاركة في قمة الدول الصناعية السبعة المنعقدة في صقلية. لقاء ترامب وعباس في البيت الأبيض كان أول لقاء بين الرئيس الأمريكي ومسؤول فلسطيني، وسوف توفر زيارته إلى رام الله أول فرصة ليكتشف فلسطين والفلسطينيين ولو لساعات. اللافت هو أن ترامب لا يعرف إسرائيل أيضا، وزارها مرة واحدة في 1989 لبحث إمكانية بناء كازينو في مدينة إيلات، ولكنه عدل عن ذلك. ولم يتطرق ترامب أبدا إلى هذه الزيارة الوحيدة لإسرائيل حتى عندما كان يتحدث أمام جماهير يهودية أو منظمات سياسية مؤيدة لإسرائيل خلال حملته الطويلة. القليل الذي يعرفه ترامب عن إسرائيل حصل عليه من صهره جاريد كوشنر الذي تشده إلى إسرائيل روابط عائلية ودينية عميقة، وهو الذي خوله ترامب مهمة تحقيق السلام، المستحيلة حتى الآن، بين الفلسطينيين وإسرائيل، ومن محاميه ديفيد فريدمان الذي عينه سفيرا لدى إسرائيل، وهو المعروف بتأييده المتطرف لسياسات الاستيطان الإسرائيلية ولنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. ويفتقر كلا من كوشنر وفريدمان إلى أي خبرة دبلوماسية، أو أي معرفة بالشؤون الفلسطينية أو العربية.
خلال الحملة الانتخابية أدلى ترامب بمواقف متناقضة حول إسرائيل والفلسطينيين، يمكن أن يفسرها البعض على أنها تعكس استعداده لأن يتخذ مواقف غير تقليدية بشأن التعامل مع الطرفين، أو بشأن تصوره للصفقة التاريخية التي يتحدث عنها. وتساءل في إحدى المقابلات في ديسمبر 2015 عن رغبة الطرفين بالسلام، وتحديدا حول ما إذا كانت إسرائيل ترغب بالفعل بالتوصل إلى اتفاق “وأن تضحي ببعض الاشياء”. وفي فبراير 2016 آثار ترامب استياء أنصار إسرائيل حين قال في أحد مهرجاناته الانتخابية “دعوني أكون الطرف المحايد” في الوساطة بين الطرفين. والحياد الأمريكي هو أمر لا يتوقعه أنصار إسرائيل من مرشح أو من رئيس أمريكي. كما لترامب مواقف متباينة من بناء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، كما أن موقفه بشأن الحل النهائي مبهم ومتباين، فهو أعرب عن تأييده في السابق لحل الدولتين، ثم قال خلال استقباله لرئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو في مارس الماضي “أنا أتطلع إلى حل الدولتين، وحل الدولة الواحدة، ويعجبني الحل الذي يعجب الطرفين، واستطيع التعايش مع أي من الحلين”. ومن الواضح أن ترامب لم يدرك حين أدلى بهذا التصريح ما هي مضاعفاته. وما يقلق في تصريحات من هذا النوع هو أن الذي يدلي بها هو رئيس الولايات المتحدة، الذي يفترض به أن يدرس ويناقش مثل هذه المواقف مع كبار مساعديه قبل الإدلاء بها.
وخلال استقباله للرئيس عباس تحدث الرئيس ترامب عن تحقيق “السلام” بين الطرفين، ولكنه تفادى استخدام عبارة حل الدولتين، وهو ما ركز عليه عباس الذي قال “خيارنا الاستراتيجي الوحيد هو أن نحقق مبدأ الدولتين: دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية لتعيش بأمن وسلام واستقرار إلى جانب دولة إسرائيل وفقا لحدود سنة 1967”. وخلال الحملة الانتخابية تعهد ترامب ولأكثر من مرة بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، في حال انتخابه. ولكنه لم يفعل ذلك حتى الآن، كما توقف عن تكرار هذا الموقف، وإن كان نائبه مايك بنس قد كرر القول قبل أيام أن ترامب يعتزم نقل السفارة.
الفلسطينيون والعرب يكتشفون ترامب
جاء الفلسطينيون إلى واشنطن بتفاؤل غير مبرر، وإن كان يمكن إرجاع ارتياحهم هذا لعدة أسباب منها كون ترامب وضع حل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي من بين أبرز أولوياته الخارجية، بعد أن علقت المفاوضات في عام 2014 إثر إخفاق جهود وزير الخارجية السابق جون كيري، ولأنه لم ينقل السفارة إلى القدس حتى الآن، ولأنه أعاد الاعتبار إلى الرئيس عباس حين دعاه إلى البيت الأبيض في هذا الوقت المبكر. ويواجه الرئيس عباس انتقادات قاسية من أعضاء الكونغرس بعضها مبرر مثل الفساد المستشري في مؤسسات السلطة الفلسطينية، وتعطيل العملية الديمقراطية من خلال غياب المحاسبة والانتخابات، وبعضها غير مبرر مثل اعتبار أي انتقادات قوية للاحتلال على أنها “تحريض” على القيام بأعمال العنف.
ترحيب ترامب بعباس كقائد فلسطيني ملتزم بالسلام، وحديثه عن رغبته باستقباله في المستقبل لحفل توقيع اتفاق السلام النهائي، أعطى عباس ما يريده في هذه المرحلة الحساسة، أي تجديد الاعتراف به وبسلطته كطرف شرعي يمثل الفلسطينيين في التعامل مع واشنطن ومع إسرائيل، وذلك في الوقت الذي تحاول فيه حركة حماس، من خلال وثيقتها الأخيرة تعزيز مكانتها السياسية في غزة، ورغبتها بتحسين علاقاتها المتدهورة مع مصر. ومن هذا المنظور فإن مجرد لقاء عباس بترامب، وبغض النظر عن نتائجه السياسية، خاصة وأن التوقعات المعلقة عليه في المنطقة وفي واشنطن كانت متدنية للغاية، فهو من منظور الرئيس الفلسطيني نجاح تكتيكي لا يستهان به. وهذا يفسر الثناء السخي الذي أسبغه عباس على ترامب الذي يتوق دائما لسماع المدائح حين قال “نؤمن أننا قادرون بقيادتكم الشجاعة وحكمتكم وقدرتكم التفاوضية على إنهاء هذه المعاناة، ونعتمد على الله ثم عليكم وسنكون شركاء حقيقيين لكم لتحقيق معاهدة سلام تاريخية برعايتكم وقيادتكم.”
ولكن أي مراجعة نقدية لمواقف ترامب وقراراته بشأن هذا النزاع يجب أن تؤدي إلى استنتاج أولي واضح، وهو أنه لا يوجد لدى الرئيس ترامب أو مساعديه البارزين تصورا استراتيجيا لحل هذا النزاع الذي أخفق كل الرؤساء الأمريكيين بحله منذ بداية “عملية السلام” قبل حوالي نصف قرن. ما نراه هو تشكيلة من المواقف والتعهدات المبالغ بها والتمنيات والمناشدات، التي لا ترقى إلى مستوى المبادرات المدروسة والتي يستثمر فيها الرئيس الأمريكي وكبار مساعديه الكثير من الوقت والطاقات – كما فعل الرؤساء السابقون جيمي كارتر ورونالد ريغان وجورج بوش وبيل كلينتون وبوش الابن وباراك أوباما- لأن إحدى المسلمات المتعلقة بهذا النزاع هي أنه إذا لم يكن الرئيس الأمريكي ضالعا وبشكل مباشر في الجهود السلمية فإنها ستصل إلى طريق مسدود. وهذا يتطلب الصبر الطويل والمثابرة وممارسة الضغوط وتطوير العلاقات الشخصية مع الأطراف الرئيسية في المفاوضات. الرئيس ترامب يفتقر إلى هذه الصفات. وهذا ما قاله بوضوح مستشاره لشؤون الأمن القومي إتش آر ماكماستر قبل يوم واحد من لقاء ترامب بعباس. وقال ماكماستر أن ترامب لن يبذل وقتا طويلا في دراسة تفاصيل النزاع، وسوف يدفع بسرعة للتوصل إلى نتائج، وتابع أن ترامب “ليس لديه الوقت للمناظرات بشأن العقائد”، وتابع “الرئيس ليس رجلا يتحلى بصبر كبير. البعض وصفوه بـ الفوضوي. وهم محقون في ذلك. وهذا أمر جيد. جيد لأننا غير مستعدين للاستثمار في سياسات لا تخدم مصالح وقيم الولايات المتحدة وحلفاؤها”.
تحالف إقليمي- أمريكي لردع إيران؟
ولكن المستشار ماكماستر أشار إلى مسألة تحظى باهتمام متزايد في الأوساط السياسية الأمريكية في السنوات الماضية، وتتعلق بوجود ما يسمى بالخطر المشترك الذي تواجهه دول عربية وإسرائيل، والذي يشمل تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) والخطر الإقليمي الذي يمثله النظام الإيراني لهذه الدول العربية وإسرائيل والولايات المتحدة جميعا. ورأى ماكماستر أن هذا الخطر المشترك “قد يسمح لنا بحل ما اعتقده البعض والمشاكل المستعصية على الحل، مثل النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين”. وتابع “الرئيس ترامب قد اتخذ موقفا غير تقليديا كعادته، واعتمد توجها جديدا في تعامله مع هذه المشكلة”. هذا التقييم يلقى صدى ايجابيا كبيرا في إسرائيل، وإلى حد ما في بعض العواصم الخليجية، حيث يتردد عن وجود مستوى متدن من التنسيق (الاستخباراتي بالدرجة الأولى) بين هذه العواصم وإسرائيل لردع إيران. ويرى بعض الخبراء أن أي تنسيق من هذا النوع يتطلب تحقيق تقدم ملحوظ في المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، لتبرير أي تعاون علني لصد إيران وحلفاؤها. وتعتبر هذه القضية من أبرز القضايا التي سيثيرها ترامب ومساعدوه مع الإسرائيليين، ومع قادة دول مجلس التعاون الخليجي الذين سيجتمع بهم ترامب في الرياض خلال زيارته إلى السعودية. وفي هذا السياق من المتوقع أن يطرح القادة العرب مسألة إحياء مبادرة السلام العربية التي طرحتها السعودية وتبنتها القمة العربية في بيروت في 2002.
ويقول السفير دينيس روس، المبعوث السابق لعملية السلام، والذي شغل منصب منسق السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط في ولاية الرئيس أوباما، إن “الرئيس ترامب سوف يناقش مع القادة العرب القلق المشترك تجاه إيران، وسوف يقول لهم: أنا أناقش ما يهمكم، ولكنني أريد أن أناقش معكم ما يهمني بالنسبة لحل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي”. ويضيف روس في حوار خاص مع موقع معهد دول الخليج العربية في واشنطن، “هذا ما أسميه “الربط المعكوس”، بين هاتين المسألتين. ويأمل ترامب أن تشجع الدول العربية السلطة الفلسطينية ليس فقط على التفاوض بل أيضا على الإيفاء بالتزاماتها ويضيف “ترامب يريد أن يشارك القادة العرب في صنع القرار، لأن الرئيس عباس لن يتخذ القرارات الصعبة دون غطاء عربي، كما أن إسرائيل تريد أن تكون أي تنازلات تقدمها للفلسطينيين ذات جدوى وأن تحصل بالمقابل على تنازلات فلسطينية- عربية”. ومع ذلك لا يتوقع روس “خطوات كبيرة في المستقبل المنظور، ولكن ترامب قادر على كسر الجمود الراهن، وتسهيل عملية استئناف المفاوضات”.
وحول أي تعاون مستقبلي بين العرب وإسرائيل لردع إيران إقليميا، يقول روس إن ما يمكن أن يحصل عليه ترامب من الدول العربية المعنية هو “البدء بحوار أمني جدي مع إسرائيل بشأن التصدي لإيران وميليشياتها في المنطقة” ويرى أن إسرائيل يجب أن تتقدم بـ تعهدات والتزامات للفلسطينيين والدول العربية تشمل مسائل من بينها مثلا “تعهد إسرائيل بعدم فرض سيادتها شرق الجدار العازل” في الضفة الغربية. ويرى روس أن مثل هذه الخطوات من الطرفين يمكن أن تحسن من فرص التعاون بينهما على الصعيد الإقليمي وعلى أكثر من جبهة في المواجهة مع إيران وحلفاؤها في المنطقة. ولكن روس، يشير أيضا إلى أنه إضافة إلى الاعتبارات والحسابات الخاصة لإسرائيل والسلطة الفلسطينية والدول العربية المعنية، والتي يمكن أن تخلق العقبات أمام مثل هذا التعاون في المستقبل، فإن هناك أيضا عقبات أمريكية محتملة من بينها شخصية الرئيس ترامب وعدم وجود فريق ديبلوماسي فعال يضم مسؤولين من مختلف الأجهزة الأمريكية لهم خبرة طويلة بشؤون المنطقة، لأن العمل على إحياء عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، والعمل على بناء ائتلاف إقليمي جدي للتصدي لإيران، تشكل تحديات سوف تتطلب الكثير من الجهود والطاقات الأمريكية، ولكن جولة ترامب برأيه يمكن أن تكون الخطوة الأولى في هذه الجهود.