يتكرر السؤال التالي: “ولكن، ما هو الرأي الحقيقي للإماراتيين؟” وهو سؤال يكشف عن فضول حقيقي يتعلق بما يجول في أذهان الإماراتيين حول التغييرات الاجتماعية والسياسية التي تمر بها الإمارات، ولكنه ينم، أيضًا، عن انعدام الثقة الضمني في شعار الدولة الشائع “البيت متوحد”.
لقد كان “البيت” بالفعل “متوحدًا” في تحفظه وممارسة صمته الجماعي لتجنب الخروج – العلني على الأقل – عن السرديات الرسمية للدولة. يعتري الإماراتيين شعور عظيم بالفخر ينبع من كون أن بلادهم تمثل النموذج الأوحد والأنجح لاتحاد عربي قائم، وهو ما يفسر جزئيًا الرغبة الجامحة في حماية جوهر الاتحاد واحتضان الوحدة. ومع هذا، تعتبر قوانين الجرائم السيبرانية الإماراتية، غامضة الصياغة، في الوقت نفسه، رادعة بما فيه الكفاية، وهو ما يدفع العديد من الإماراتيين لإيجاد طرق ووسائل إبداعية للتعبير، يمكنهم من خلالها التحايل على مراقبي الفضاء الرقمي.
لا وجود لما يعرف تقليديًا باسم “المجتمع المدني” المستقل في الإمارات. وهذا ليس سرًا – فالدولة لا تنكر حظرها لأي نشاط يتم دون إشراف الدولة، فيجب على جميع الجمعيات غير الربحية الحصول على ترخيص من السلطات لتتمكن من العمل داخل البلاد. لكن هذا الفهم الثابت لما يعنيه المجتمع المدني يمكنه أن يعوق الوصول لفهم أعمق لكيفية أداء المجتمع المدني لوظيفته في السياقات المختلفة، كالسياق في الإمارات.
على الرغم من القيود العديدة والقوانين المتغيرة باستمرار التي تنظم التعبير والسلوك العام، يجتمع الأفراد معًا لإنشاء مؤسسات مهتمة بالشأن العام. ولهذا، يظل من الضروري اجتياز البيروقراطية المرهقة – لكنها ليست سوى أحد العوائق التي ينبغي التغلب عليها في الطريق. إن ما يعوق تشكيل المنظمات الاجتماعية، خارج نقاط التفتيش السياسية القائمة، هو في الأساس ثقافة التضامن الانتقائي.
أوجه التضامن الخاصة
على سبيل المثال، وبالنظر لقضية حقوق المرأة، فإن تشكيل “مؤسسات النفع العام”، أو منظمات المجتمع المدني، يمكن أن تواجه العديد من التحديات في الإمارات. ففي عام 2015، دار نقاش حاد في فصل دراسي خاص بالإناث في دبي، تمحور حول عدم تمكن المرأة الإماراتية من تمرير جنسيتها لأبنائها – وأن هذا المنع ليس مفروضًا على الرجال الإماراتيين. فبدلاً من الوقوف، بشكل جماعي، مع الدعوة للحقوق المتساوية والكاملة لمواطناتهن الإماراتيات، عارضت أغلبية الطالبات، البالغ عددهن حوالي 30 طالبة في الفصل الدراسي، ذلك بشدة. لم تفكر الشابات في أن مسألة المواطنة حق من حقوق المرأة، بل ربطن ذلك بمفاهيم راسخة لديهن حول النقاء العرقي والأصالة الثقافية كما الهوية الوطنية. وعلى الرغم من أن هؤلاء الطالبات الشابات قد دافعن عن حقوق المرأة في مجالات العمل وحقهن بالأجور المتساوية، إلا أنه كان من الواضح أن هناك معايير لما يشكل حقوقًا مقبولة للسعي من أجلها. بالنظر لهذه المفاهيم، ليس من الصعب تخيل التحدي المتمثل في التفاوض على النظام الأساسي المطلوب لتشكيل منظمة غير حكومية تدافع عن حقوق المرأة في الإمارات، على سبيل المثال.
يقتضي المجتمع المدني الابتعاد عن الطابع الذاتي، ونبذ الآراء محدودة الأفق حول الدين والهوية من أجل التركيز على الأهداف أو وجهات النظر الجماعية المشتركة. ومع ذلك، فلا وجود لمثل هذا الحافز في الإمارات، ليس فقط بسبب الصراع بين المعتقدات الراسخة لدى الشخص ومعتقدات الآخرين، وإنما أيضًا لأن الكثير من الناس يرغبون في الحفاظ على خصوصية تعاطفهم وتضامنهم.
على سبيل المثال، يفضل الأشخاص الاحتفاظ بتعاطفهم وربما تضامنهم مع مجتمع الميم (LGBTQ) أو سجناء الرأي سرًا وليس علانيةً. إن اختيار الحفاظ على خصوصية مثل هذه الآراء ليس فقط من باب الالتزام بالاتجاه السائد أو ما هو مقبول سياسيًا، وليس ناجمًا فقط عن الخوف من العقوبة أو ردة الفعل العامة بحد ذاتها. ففي كثير من الأحيان، تكشف الموضوعات المثيرة للجدل والتعقيدات غير المريحة أفكار المرء والتمثيل المجتمعي، فيتساءل المرء: “هل أرغب في أن يرى الناس علنًا أنني أؤيد حق المرأة في الإجهاض؟ هل يتعارض ذلك مع معتقداتي الدينية وتوقعات الناس بالنسبة لدرجة التدين والالتزام الذي أبديه؟ كيف يمكنني التوفيق بين آرائي الشخصية المعارضة للصراع العسكري عندما لا تشجع بيئتي السياسية المباشرة مثل هذه المواقف؟”
يعمل المجتمع المدني بشكل أساسي على الربط بين اشخاص ذوي انتماءات دينية وسياسية مختلفة سعيًا وراء المصلحة العامة للجميع، بطرق لا تضر بالأفراد المنتسبين للمجموعة، والذين قد لا تجمعهم تصورات شاملة فيما يتعلق بالحقوق والمسؤوليات الفردية والجماعية. إن الالتزام بالتمسك بالحقوق العالمية والمساواة للجميع هو التزام يفضل الكثيرون تجنبه – ولو علنًا على الأقل.
المدنية المترحلة
نظرًا للكثير من التحديات الاجتماعية والسياسية التي من شأنها أن تعرقل الجهود الجماعية الرامية لتأسيس منظمات المجتمع المدني رسميًا، فقد وجد الإماراتيون طرقًا أخرى للالتقاء مؤقتًا حول قضايا منفردة ذات اهتمام مشترك، يمكنهم بعدها التفرق بشكل مريح دون الاضطرار إلى حمل عبء الشعارات الجماعية.
من الممكن لعفوية المشروع الفني ألا تكون مسيسة فتصبح آمنة، ظاهريًا على الأقل، وأكثر إغراءً لجيل شاب يريد الاحتفاظ بحقه في التفسير الذاتي. وأحد هذه المشاريع عبارة عن مجلد من المقالات المصورة حول مفاهيم الخليجية – أو الانتماء لدول الخليج العربية – قام بجمعها الشاب الإماراتي سالم السويدي، مؤسس دار سوالف للنشر.
نشأت فكرة “سوالف” خلال فترة الحجر الصحي المرتبط بجائحة فيروس كورونا، وهي مستوحاة من جلسة افتراضية استضافتها المؤسسة الثقافية السعودية معهد مسك للفنون، والتي جمعت عدد من هواة جمع الأعمال الفنية من منطقة الخليج. أدى هذا التفاعل عبر الإنترنت بين المتحدثين وأفراد الجمهور، الذين يشاركونهم اهتماماتهم، إلى مزيد من التفاعلات، ونتج عنها في نهاية المطاف مساهمات طواعية لمشروع السويدي الطموح: مجموعة متنوعة من الأشخاص يشاركون أفكارهم الشخصية وتعبيراتهم الفنية حول معنى أن تكون خليجيًا.
يتحدى المجلد السرديات التقليدية المرتبطة بمفهوم “الخليجية”، والمتعلقة، إلى حد كبير، بالكثبان الرملية المتخيلة، مفخرة الزهد البدوي. وبدلاً من ذلك، جاءت الصور بمثابة احتفاءٍ بالتنوع العرقي للمجتمعات الخليجية، مع ادعاءات متكافئة عن كونهم سكان الخليج الأصليين، وسمحت المقالات بالكشف الشخصي عن تجارب الإقصاء والتهميش. لكن ما جمع هؤلاء الفنانين والأكاديميين، غير المرتبطين معًا، كانت الدعوة لرفض نبذ الذات لصالح الجماعة، بل الاحتفاء بها.
ربما يكون مفهوم “المدنية المترحلة” هي الطريقة المُثلى لوصف هذه المشاركات الاجتماعية والفنية الانتقائية في الإمارات. يسمح هذا الشكل الانتقالي من الارتباطات للإماراتيين بالخوض بأمان في مجموعة واسعة من القضايا التي يمكنهم من خلالها اختيار المشاركة بشكل انتقائي دون إلزام أنفسهم لفترة طويلة. ولا يشير هذا التوجه إلى فشل مجتمعي في الاعتراف بالحقوق العالمية والمتساوية، وإنما يشير إلى مرحلة النضج التدريجي لمجتمع يتغير بشكل متواصل، ويمارسها بوتيرته الخاصة.
من الأمثلة على ذلك قضية فلسطين، التي حظيت بالكثير من الاهتمام والتضامن خلال صيف عام 2021، عندما حاولت السلطات الإسرائيلية تهجير سكان حي الشيخ جراح في القدس الشرقية. بعد الكثير من التردد، لجأ الإماراتيون في نهاية الأمر إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن سخطهم على العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. وأقيمت فعاليات تضامنية بشكل عفوي في جميع أنحاء الإمارات – قام الإماراتيون، دون انتماءات سياسية رسمية أو أبداء اهتمامٍ بالسياسة الإقليمية، بتنظيم عروض سينمائية وحفلات شعرية لزيادة الوعي بالقضية الفلسطينية واتخاذ موقف تضامني. جلبت هذه الفعاليات الاجتماعية مجموعات متنوعة من الناس مع بعضهم بعضًا، كان تعاطف بعضهم وعباراتهم التضامنية تتعثر عند طرح قضية التطبيع مع إسرائيل كمسألة مثيرة للجدل. ففي مثل هذه القضايا، يحافظ الإماراتيون على حيادٍ حذر، وغالبًا ما يميلون لأداء أدوار تتوافق مع مواقف الدولة بدلاً من الانحراف عن مسار “البيت متوحد”.
حتى هذه الفترة التي يسودها الاضطراب من التغيير المستمر، من المرجح أن يستمر الإماراتيون في ممارسة المدنية المترحلة. إنه موقف جامع، ولكنه مرن، يسمح – بأشكال متفاوتة، اعتمادًا على الفرد – بروايات “البيت متوحد”، والأفكار المتنازع عليها لمفهوم “الخليجية”، ومدى معين من التضامن الخاص للبروز بشكل آمن والتفرق بشكل مريح.