هنالك توازن دقيق على حد السكين للمواجهة التي تغلي على نار هادئة بين الولايات المتحدة وإيران ما بين صفقة في طور التبلور وإمكانية متصاعدة باطراد نحو نزاعٍ مسلحٍ مباشر. إن الاستفزازات “مخففة التركيز” في حرب الاستنزاف الفعلية المتواصلة مع نظام العقوبات “الصارم” والتي يتم التصدي لها “بالمقاومة القصوى” يمكن أن تستمر لأشهر، على فَرَض أن لا يقوم القادة الميدانيون بالتجاوز أو ارتكاب خطأ يشعل نزاعًا مفتوحًا. ولكن في نهاية المطاف سيتم الوصول إلى مفترق الطرق. فمن المنطقي أن المواجهة، إذا استمرت إلى أجل غير مسمى، ستؤدي عاجلًا وليس آجلًا إلى صدام عسكري. وبما أن أيًّا من الطرفين لا يرغب في حرب ولو محدودة، فإن إمكانية التوصل إلى اتفاق بدأت تظهر بوضوح. فجميع العناصر تقريبًا متوفرة لكلا السيناريوهين، حيث يبدو أن كلًا من الصراع والتسوية معقولين ويمكن تخيلهما بشكلٍ متساوٍ تقريبًا – وهو وضعٌ غير مألوف في العلاقات الدولية. ومع ذلك، فإن الحقيقة الأساسية بالنسبة لدول الخليج العربية، وخاصة تلك الأكثر عدوانية تجاه إيران -المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين- هي أنه من غير المرجح لكلا السيناريوهين أن يحلا مشكلة المخاوف الكبرى لهذه الدول: تنامي الهيمنة الإيرانية في العالم العربي واستخدام إيران لوكالات وعملاء غير حكوميين لزعزعة استقرار جيرانها ونشر نفوذها في جميع أنحاء المنطقة.
منطق المواجهة
منذ انسحاب الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، أو ما يعرف بالاتفاقية النووية، تصاعدت المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران تدريجيًّا. حيث شنت واشنطن حملة عدوانية من “الضغوط القصوى”، وبشكل رئيسي على شكل عقوبات وحرب مالية ضد إيران. وقد ردت طهران، التي تجد نفسها محاصرة بشكل متزايد من قبل علة اقتصادية تُضيّق الخناق بشكل دائم، ببرنامج محسوب بعناية ينضوي على “أقصى قدر من المقاومة”، لا سيما على شكل هجمات قليلة التركيز قابلة للإنكار أحيانًا على أُصولٍ تجاريةٍ وعسكريةٍ في منطقة الخليج.
في حين أن هناك فرضية واسعة الانتشار أن فيلق الحرس الثوري الإسلامي هو من قام بتنسيق هذه الهجمات أو تنفيذها، إلا أنه كان حريصًا على عدم عبور أي خط أحمر يستلزم ردًا عسكريًا. لقد تم تخريب ناقلات النفط بالألغام اللاصقة ولكن فوق سطح الماء فقط ولم يتم إغراق أي منها. تم الاستيلاء على ناقلة نفط بريطانية لكن مسؤولين إيرانيين قالوا إن هذا كان ردًا على استيلاء بريطانيا على شُحنة نفط إيرانية قبالة ساحل جبل طارق بزعم أنها كانت متوجهة إلى سوريا في انتهاك لعقوبات الاتحاد الأوروبي. اقترحت إيران تبادل السفن لحل القضية. أسقطت إيران طائرة أمريكية دون طيار تدعي أنها كانت في المجال الجوي الإيراني، لكن المسؤولين الإيرانيين والأمريكيين صرحوا أن طهران لم تحاول إسقاط أي طائرة أمريكية مأهولة.
مع عدم استخدام واشنطن لأي نفوذٍ من جانبها، لكن ايران التي لم تعد تحتمل الأضرار الاقتصادية الشديدة الناجمة عن العقوبات، كانت تهدف لمحاولة إجبار حلفاء الولايات المتحدة وشركائها التجاريين على التدخل لدى واشنطن لتخفيف القبضة المالية الخانقة. لقد ضغطت إيران على هذه الدول بتهديد الأمن البحري في منطقة الخليج واحتمالات تعطل التدفق الحر لصادرات الطاقة الخليجية. مع التزام الموقعين الأوروبيين بمحاولة الحفاظ على JCPOA، استخدمت إيران المواجهة كسبب منطقي للتخلي عن التزاماتها، أولاً بزيادة مخزوناتها من اليورانيوم منخفض التخصيب ثم عن طريق زيادة برنامج التخصيب نفسه. إنها تهدد “بالخروج القاسي” الكامل من الصفقة، وحتى تلمح بالتخلي عن معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، كخطوة أولى نحو التطوير المفتوح للسلاح النووي.
تصرفات إيران حتى الآن تجعل من المحتمل أن تكون دول الخليج العربية أهدافًا رئيسية في أي تبادل (واحدة بواحدة) للهجمات العسكرية. على وجه الخصوص، أعطت الهجمات على البنية التحتية النفطية في المملكة العربية السعودية إشارة مباشرة إلى أقصى ما يمكن توقعه في سياق نزاع عسكري واسع النطاق. في حين رحبت دول الخليج العربية بحملة “الضغوط القصوى”، لم ترغب أي من حكوماتها في صراع عسكري، على أمل أن تحقق الاستراتيجية الأمريكية العدوانية تجاه إيران التغيير المطلوب في السلوك. على أقل تقدير، بدأت العقوبات تحرم إيران من مصادر تزويد شبكات عملائها غير الحكوميين، والميليشيات، والجماعات المتطرفة التابعة لها في جميع أنحاء المنطقة. بالمختصر، كانت العديد من دول الخليج العربية تأمل في أن تؤدي “الضغوط القصوى” على الأقل إلى سياسة احتواء، ما يحد من قدرة إيران على مواصلة نشر هيمنتها وفسح المجال لتراجعها عن بعض المكاسب الاستراتيجية التي تراكمت لديها في السنوات الخمس عشرة الماضية.
حتى الآن، لم تنجح استراتيجية إيران في مواجهة هذا الضغط. ولم يضغط حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيون والعرب بقوة على واشنطن لتخفيف العقوبات، وظلت أسواق الطاقة الدولية هادئة نسبيًا في مواجهة تهديدات إيران للشحن الدولي في الخليج والبحر الأحمر. لم يأخذ ترامب الطُعم في رد فعل مبالغ فيه على الاستفزازات الإيرانية، لا سيما رد الفعل العسكري الذي سيعتبره المجتمع الدولي تهورًا وغير ملائم. حتى إنه قد صرف النظر عن تخريب إيران المشتبه به للناقلات التجارية معتبرًا إياه “قليل الشأن“. وقام بإجراء كبير عندما أمر وألغى بشكل مفاجئ في اللحظة الأخيرة ضربة صاروخية كانت تستهدف أهدافًا إيرانية كردٍ على الهجوم الإيراني على الطائرة من دون طيار.
إذا كانت طهران تُعوّل على ترامب في ردة فعل مبالغ فيها، فلا بد أنها قد شعرت بخيبة أمل شديدة. فقد أوضحت واشنطن أن مقتل أي أمريكي سوف يعد تخطيًا للخط الأحمر ويتطلب تحركًا مباشرًا للرد، لكن طهران كانت تبذل بالفعل جهودًا حثيثة لتفادي أي إجراء من المحتمل أن يظهر للمجتمع الدولي كمبرر للرد العسكري الأمريكي. ومع ذلك، فإن “المقاومة القصوى” لم تنتج بعد إفساح المجال لإيران أو اقتصادها في التنفس. لذلك، فإن منطق المواجهة، إذا استمر في توسعه، لا يفرض فقط استمرار الاستفزازات الإيرانية، وإنما يميل إلى تكثيفها تدريجيًّا. إذا كانت تصرفات إيران حتى الآن غير كافية لإثارة ردود فعل مبالغ فيها من الولايات المتحدة أو تدخل حلفاء واشنطن لإجبار ترامب على تخفيف الضغط على إيران، فمن غير المرجح أن يكون المزيد من مثل هذه التصرفات كافيًا لذلك. ومع ذلك، قد يؤدي التكثيف المستمر، عاجلاً وليس آجلاً، إلى صدام مباشر لا يرغب به أي من الطرفين.
منطق التوافق
ونتيجة لذلك، فإن إمكانية التوصل إلى تسوية تقلل من احتمال نشوب صراع عسكري مباشر قد تطورت على الرغم من حالة العداء. منذ البداية، أكد ترامب، ووزير الخارجية مايك بومبيو، ومسؤولون آخرون في الإدارة على أن هدفهم كان التفاوض على “صفقة أفضل” مع إيران. كان الغضب هو ما يميز ردة الفعل الأولية للقيادة الإيرانية على الضغط الأمريكي المتصاعد واستبعدت أي مفاوضات جديدة بشأن القضايا النووية وغيرها مع واشنطن ومع ترامب على وجه الخصوص. لكن مع تصاعد الضغط وفشل “المقاومة القصوى” في تحقيق أي نتائج، كان موقف إيران يضعف بشكل ملحوظ.
من الواضح أن طهران تخلت عن إصرارها على أن أي حوار يجب أن يسبقه انضمام الولايات المتحدة من جديد إلى JCPOA. قال وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، مرارًا وتكرارًا إن إيران مستعدة لإجراء حوار مع الولايات المتحدة طالما يتم التعامل مع طهران “باحترام“، وقد قدم الرئيس الإيراني العرض نفسه إذا تم رفع العقوبات. يبدو أن واشنطن قد اعترفت ضمنيًا بأن القائمة الموسعة التي تضم 12 مطلبًا من طهران والتي قدمها بومبيو في أيار 2018 كانت قائمة أمنيات ومدخلًا لموقف تفاوضي. في الأسابيع الأخيرة، قال ترامب إنه ليس معنيًا في تغيير النظام في طهران، ما يعنيه فقط هو كبح أجندتها النووية، وقال بومبيو مرارًا إن واشنطن على استعداد للتفاوض مع إيران دون شروط مسبقة.
في الثامن عشر من تموز، اتخذت واشنطن وطهران بتردد الخطوات الأولى نحو الحوار المباشر عندما التقى ظريف في نيويورك مع راند بول، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية كنتاكي، وهو من حلفاء ترامب الرئيسيين في الكونغرس ومن رواد الانعزالية الجديدة. من خلال هذه البداية المترددة، أصبحنا نرى بشكل باهت الخطوط العريضة لاتفاق محتمل. عمليًا، فإن مثل هذا الاتفاق من شأنه أن يحاكي العديد من الصفقات التجارية التي أمنها ترامب، مثل اتفاقية نافتا (NAFTA) المعلقة التي أعيد التفاوض عليها مع كندا والمكسيك. وعلى هذا النحو، فإن الاتفاقات القائمة حاليًا، والتي يدينها ترامب بحماس ويعتبرها “الأسوأ على الإطلاق”، والتي من ضمنها JCPOA وNAFTA كأكبر مثالين على ذلك، يجري تعديلها بشكل فعال، وتحديثها، وإعادة تسميتها، ومن ثم يعلن عنها “كالأفضل على الإطلاق”. يشير هذا النموذج إلى أن ترامب قد يكون منفتحًا على نوع من JCPOA 2.0، وهي نسخة من الاتفاقية النووية تم التفاوض عليها من جديد وتعالج العديد من العيوب التي حددها منتقدوها من البداية، كمدة صلاحيتها القصيرة نسبيًا، لكنها لا تزال مقيدة إلى حد كبير بالقضية النووية.
اقترح ظريف علنًا أن إيران قد تكون منفتحة بالتحديد على مثل هذا الملحق لـ JCPOA لإعادة التفاوض عليه، وقال للصحفيين إن إيران يمكنها الإسراع في التصديق الرسمي على “البروتوكول الإضافي” للاتفاقية الذي يسمح لمفتشي الطاقة النووية الدوليين بالوصول إلى إيران بشكل مكثف. نظرًا لأن إيران تلتزم فعلًا بالبروتوكول، على الرغم من أن برلمانها لم يصادق عليه، فقد رفض النقاد هذا العرض واعتبروه عديم القيمة. ومع ذلك، فإن عرض البروتوكول الإضافي يعتبر تلميحًا لما قد يكون ممكنًا في ظل الظروف المناسبة ويظهر استعدادًا لمقايضة التنازلات، من الناحية النظرية على الأقل.
على فرض أن كلا الطرفين عازمان على صياغة اتفاق منقح، فمن المرجح أن تكون أكبر العقبات هي المسألة العويصة المتمثلة في “حق إيران في تخصيب” اليورانيوم وبرنامج الصواريخ. كانت نقطة التحول التي أدت إلى تحقيق JCPOA هي اعتراف إدارة الرئيس باراك أوباما بأن أي اتفاق سوف يحتاج إلى الاعتراف بحق إيران في التخصيب، كما فعلت الاتفاقية في ظل ظروف محدودة وخاضعة لسيطرة شديدة. لم تعبر إدارة ترامب عن رأيها بالتفصيل في هذه المسألة، لكنها بالتأكيد أعطت الانطباع بأنها ترغب في إزالة هذا الحق المفترض. ومع ذلك، إذا تم تمديد صلاحية JCPOA من 10 إلى 15 عامًا فيما يخص القيود المفروضة على إيران في التخصيب والمعالجة أو جعلها دائمة في أي اتفاق جديد، فمن الممكن جدًا لإدارة ترامب أن توافق على بعض عمليات التخصيب على أرض الواقع. وقد ظهر مثل هذا الانعكاس في الموقف في المفاوضات مع كوريا الشمالية: بدأت الإدارة بالإصرار على نزع السلاح النووي بشكل “كامل لا رجعة عنه وخاضع للتفتيش” من جانب بيونغ يانغ، رافضةً تفضيل كوريا الشمالية لإتمام العملية على مراحل، ويبدو الآن أنها تقبل بأن هذا هو الطريق الوحيد لتحقيق التقدم.
من المفترض أن طهران لا تريد أي تفاهم جديد لمعالجة قضية الصواريخ. على الرغم من أن ترامب وبومبيو وآخرين قد انتقدوا JCPOA لعدم فرض قيود على عملية تطوير واختبار الصواريخ الإيرانية، إلا أنهم ما زالوا يستطيعون القول إنه طالما أن أي اتفاق جديد يلغي فعليًا إمكانات إيران لتطوير رأس نووي في أي وقت في المستقبل المنظور، وطالما أنه يمكن مواجهة تطوير طهران للصواريخ الحربية التقليدية بشكل مناسب بواسطة أنظمة الدفاع الصاروخي والردع من ترسانات الصواريخ الأمريكية والعربية والإسرائيلية وغيرها من وسائل الهجوم المضاد. لذلك، على الرغم من أنه من المرجح أن واشنطن ستحاول وضع قضية الصواريخ على الطاولة في أي محادثات جوهرية مع إيران، فإن الفشل في تحقيق ذلك قد لا يلغي الصفقة.
“النشاطات الخبيثة” و”تغيير النظام”
الحقيقة المؤلمة لدول الخليج العربية هي أنه من غير المرجح أن يعمل أيٌّ من هذه السيناريوهات على معالجة مخاوفهم الرئيسية المتعلقة بإيران بشكل ملائم: “أنشطتها الخبيثة” في الشرق الأوسط، ولا سيما زعزعة استقرار جيرانها من خلال تمويل وتسليح الميليشيات غير الحكومية. لقد كان هذا هو السمة الرئيسية للانتقاد الأمريكي والإسرائيلي لإيران، وتمثل بشكل بارز في انتقاد JCPOA وجدول أعمال بومبيو المكون من 12 نقطة. ومع ذلك، عندما أعلن ترامب أنه ليس معنيًا بتغيير النظام في طهران، فقد يكون هذا يعني ضمنًا اعترافًا بأن إجبار إيران على التخلي كليًا عن مثل هذا السلوك ربما لا يمكن تحقيقه من خلال “الضغوط القصوى”، وهي وجهة نظرٍ لا يشاركه فيها مستشار الأمن القومي جون بولتون. ربما تواجه إدارة ترامب الحقيقة التي قبلتها إدارة أوباما في الفترة التي سبقت الاتفاق النووي – وهي أنه في حين أن التوفيق مع طهران بشأن القضايا النووية أمر ممكن، إلا أنه ليس هناك فرصة تقريبًا لتخلي الجمهورية الإسلامية عن السياسات التي تعتبرها جوهر برنامج أمنها القومي وجزءًا رئيسيًّا من مبرر وجودها في الأساس.
يشكل دعم إيران للجماعات المسلحة غير الحكومية مثل حزب الله والميليشيات الشيعية العراقية والحوثيين، بالإضافة إلى أمور أخرى، محور السياسة الأمنية الإقليمية والوطنية لإيران. تعتبر هذه المجموعات هي الوسيلة الأساسية التي تنشر من خلالها إيران نفوذها، لتُضعف خصومها المحليين، وتكتسب عمقًا استراتيجيًا. فهي تسمح لإيران بالتدخل في نزاعات مسلحة مع خصومها خارج حدودها تمامًا ودون استخدام مواطنيها وموظفيها إلى حد كبير (مع استثناء جزئي للتدخل في سوريا). هذا يزودها أيضًا بدرجة من القدرة على الإنكار وهو مسوغ يجعلها تدعم فقط الجماعات التي تقاتل للدفاع عن نفسها وتأمين حقوقها المشروعة داخل بلدها. بالرغم مما في ذلك من سخرية عميقة، إلا أنه يبدو أن له مظهرًا أخلاقيًّا عند بعض الجماهير. علاوة على ذلك، فإن الكثير من هذه الجماعات مدفوع بشدة بالمشاعر الطائفية والدينية، التي تستغلها إيران لتأمين الحماس في القتال، وفي كثيرٍ من الحالات، طاعة شديدة وولاء للقيادة الإيرانية، وبالتالي أجندة سياسية خارجية
تلعب إيران لعبة فعالة للغاية ويسعى خصومها الإقليميون عمومًا إلى تجنبها، ويواجهون بالتالي صعوبة كبيرة في مواجهتها. تتفاقم هذه اللعبة في كون أهداف إيران في معظم الحالات تنطوي على تعطيل الوضع الراهن وزعزعة استقرار الدول والمجتمعات المجاورة. لذلك، فحتى عندما يفشل الحلفاء من غير الحكوميين، مثل الحوثيين، في تنفيذ اقتراحات إيران بالكامل، فإن نشاطاتهم تبقى دائمًا ذات فائدة خالصة لإيران لأنها تساهم في ترويج الاضطرابات والفوضى بشكل عام.
من خلال قيادة هذا الجهد منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية، ارتقى الحرس الثوري الإسلامي (IRGC) إلى مكانة مرموقة. في الأعوام الخمسة عشر الماضية، كان IRGC، ولا سيما فيلق القدس الذي يشرف على هذه الميليشيات الوكيلة والحملات الإيرانية في الخارج، في طليعة تحول إيران من كيان منبوذ يتم احتواؤه خلال الحرب الإيرانية العراقية والفترة اللاحقة من الاحتواء الثنائي إلى قوة إقليمية مهيمنة ناشئة. تتمتع إيران الآن بنفوذ هائل في العراق وسوريا ولبنان واليمن وأبعد من ذلك. كنتيجة لهذه الأهمية المركزية للقوة الإيرانية المتنامية، تطور IRGC في الوقت نفسه ليصبح قوة اقتصادية وسياسية كبيرة داخل إيران.
برز كل هذا في ظل الأيديولوجية الثورية التي تقوم عليها الجمهورية الإسلامية، والحتمية الأساسية لتصدير الثورة وتأسيس المكانة اللائقة التي يُفترض أن تقود فيها إيران العالم الإسلامي بأسره وتصبح قوة عالمية كبرى تنوب عن المضطهدين. لذلك تتمتع السياسة بالحماية الثلاثية لكونها التزامًا أيديولوجيًا تأسيسيًا، وأداةً رئيسية وفعالة للغاية للأمن القومي والسياسة الخارجية، وحجر الأساس المؤسساتي لواحدة من أقوى الفصائل داخل الدولة والمجتمع.
لهذا السبب تعتبر مطالبة إيران بالتخلي عن هذه السياسات بمثابة دعوات لتغيير النظام. إن أي نظام إيراني لا يسعى لمثل هذه السياسة، حتى ولو ما زال منضويًا تحت شعار الجمهورية الإسلامية، فسيكون في الواقع نظامًا جديدًا. أدركت إدارة أوباما أنها حصلت في النهاية على اتفاقية نووية فقط مع طهران.
وحتى إذا تم المضي قدمًا في اتفاق جديد، فلن يتم حل المخاوف العربية الخليجية الأساسية بشأن إيران عمليًّا، حتى لو كانت هناك ورقة تين من التعهدات باحترام استقلال جيران إيران وسلامتهم الإقليمية. من شبه المؤكد أن “النشاطات الخبيثة” سوف تستمر، ولو بشكل مخفف على الأقل، بحيث يمكن تكثيفها في أي لحظة. وبالمثل، في حالة حدوث نزاع، ما لم يؤدِّ ذلك بطريقة ما إلى انهيار النظام الإيراني أو الغزو الكامل لإيران من قبل الولايات المتحدة (وكلاهما مستبعدان جدًا)، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى تكثيف استخدام ايران للمليشيات غير الحكومية والاعتماد عليها. ستكون هذه المليشيات سلاحًا رئيسيًا في الهجمات الإيرانية المضادة ضد المصالح الأمريكية في المنطقة، ودول الخليج العربية نفسها، ومن الممكن حتى في إسرائيل.
لذلك، يتعين على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين وغيرها أن تنظر إلى ما وراء المواجهة الحالية لإيجاد حل طويل الأجل لمشكلة أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار في العالم العربي. لا يوجد سيناريو منطقي، صراع أو تسوية، يُحتمل أن يحل مشكلة مخاوفهم الأساسية حول دور إيران الإقليمي على المدى الطويل. السيناريو الأفضل لهذه الحالة من وجهة نظرهم سيكون استمرار الوضع الحالي- عملية احتواء لإيران تتطور ببطء. ولكن من أجل مواجهة “الأنشطة الخبيثة” لطهران، سيتطلب الأمر مستوى من المشاركة العسكرية الإقليمية للولايات المتحدة، خاصة في دول مثل العراق وسوريا، وهذا يبدو مستبعدًا. والأسوأ من ذلك، هو أن الوضع الحالي قد لا تثبت استدامته لفترة طويلة جدًا. سواء تطور الأمر إلى صِدام أم صفقة في نهاية المطاف، فقد تجد دول الخليج العربية نفسها لا تزال تواجه نظامًا إيرانيًا عدائيًا مستعدًا وقادرًا على استخدام الجماعات المسلحة غير الحكومية، والإرهاب، وحملة واسعة النطاق لزعزعة الاستقرار في العالم العربي في محاولة للنهوض بمصالحها.