“على إيران أن تقرر ما إذا كانت تريد أن تصبح أمةً أو قضية”، هذا ما قاله هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية الأسبق، لديفيد إجناتيوس (David Ignatius) من صحيفة الواشنطن بوست في عام 2006، مشددًا على التوتر بين المصالح الوطنية الإيرانية والإيديولوجية الثورية للجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ عام 1979. وكما هو الحال مع تصريحات كيسنجر الحصيفة الأخرى، فقد أصبح انفصام الأمة/ القضية منذ ذلك الحين مبتذلاً في واشنطن، ولكن إلى أي مدى تعتبر الجمهورية الإسلامية هذه السياسة الأمنية من مهام أيديولوجيتها الثورية؟
في حين أن الإيديولوجيا الثورية ومفهوم “تصدير الثورة” كان بلا منازع الدافع الرئيسي لسياسة إيران الأمنية في الفترة التي أعقبت الثورة مباشرة، ولا تزال بعض المؤسسات والأفراد يعتمدون عليها إلى حد ما، إلا أن هنالك دراسة استقصائية من خمسة مؤشرات رئيسية توضح استمراراً ملحوظاً في السياسة الأمنية الإيرانية منذ أوائل الستينيات من القرن الماضي: دعم الميليشيات الأجنبية، ومعارضة وجود القوى الخارجية عسكرياً في منطقة الخليج، وحروب التدخل السريع، والبرامج النووية والصاروخية كانت من أبرز سمات السياسة الأمنية الإيرانية في ظل نظام الشاه محمد رضا بهلوي، وكذلك هو الحال في ظل الجمهورية الإسلامية. لذلك يجب أن يُنظر إلى هذه الثوابت على أنها من السمات السلوكية للدولة الإيرانية الحديثة بدلاً من اعتبارها من مهام الإيديولوجية الثورية للجمهورية الإسلامية.
يجري العمل تحت إشراف فيلق القدس، الذي يعتبر القوة الطلائعية لحرس الثورة الإسلامية، وحزب الله اللبناني والمليشيات الشيعية الأفغانية والعراقية والباكستانية واليمنية، وأحيانًا يختارون أيضًا الجماعات المسلحة السنية مثل الطاجيك الأفغان، ومؤخرًا بعض فصائل البشتون من طالبان، لتعزيز أهداف الأمن القومي لإيران مع التعتيم على التدخل الإيراني في الصراعات الخارجية.
غالباً ما تفسر الجمهورية الإسلامية تفضيلها لاستخدام الشركاء والوكلاء والحملات السرية للتدخل في الشؤون الإقليمية من خلال التذرع “بالقيود المفروضة على قدراتها العسكرية التقليدية، والرغبة في الحفاظ على طريقة منطقية للإنكار”. ومع ذلك، من الممكن أن يعود دعم إيران للميليشيات الأجنبية تاريخياً إلى دعم طهران للتمرد الكردي في العراق في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي كانت تفتخر فيها إيران بقدرات عسكرية تقليدية معتبرة.
وإصراراً من بهلوي على إرغام العراق على الامتثال لتعريف إيران للحدود بين البلدين على طول الممر المائي أرفاندرود/شط العرب، وعلى الرغم من عدم استعداده للانخراط في حرب تقليدية، كان يقدم دعمًا محدوداً ولكن مستمراً للمتمردين الأكراد. ومع استمرار التمرد، كان عدد المستشارين العسكريين الإيرانيين وضباط المخابرات، الذين يعملون في كردستان العراق بالزي الكردي، يتزايد باستمرار. وفي بعض الأحيان كان الموساد الإسرائيلي ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية يساعدون الضباط الإيرانيين. وبحلول عام 1974، تزايد تورط الطائرات والقوات الإيرانية في الأحداث الحدودية مع القوات العراقية، وكانت على وشك المواجهة المباشرة مع القوات العراقية. ولم تتوقف إيران فعليا عن دعمها للتمرد الكردي في العراق إلا بعد توقيع اتفاق الجزائر في مارس/آذار 1975.
وتعد معارضة الوجود العسكري للقوى الخارجية في الخليج أحد الثوابت الأخرى في سياسة إيران الأمنية. في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الإيراني حسن روحاني في ذكرى حرب 1980-1988 مع العراق في الثاني والعشرين من سبتمبر/أيلول 2019 قال: “إن أمن منطقة الخليج الفارسي ينبع من داخل [المنطقة]… وجود قوات خارجية في المنطقة قد يشكل معضلة”. ومخاطباً الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، بعد ذلك بأيام قليلة، عرض روحاني “مسعى سلام مضيق هرمز” الإيراني لضمان “الحفاظ على السلام والاستقرار في الخليج الفارسي”. وتجاهلت الدول العربية المجاورة لإيران اقتراح روحاني إلى حد كبير، تلك الدول العربية التي حملت الجمهورية الإسلامية مسؤولية العديد من أعمال التخريب في خليج عمان منذ مايو/أيار 2019، بالإضافة لضربات الطائرات المسيرة وصواريخ كروز في 14 سبتمبر/أيلول 2019 ضد المنشآت النفطية في المملكة العربية السعودية.
كانت تصريحات روحاني ومبادرة السلام عبارة عن صدى لكلمات ومبادرات الشاه قبل نحو خمسة عقود. في استقباله بعض الصحفيين الأجانب في 16 يناير/كانون الثاني من عام 1972 قال بهلوي: “لقد أعلنا من قبل أننا لا نريد رؤية أي وجود أجنبي في الخليج، لا إنجلترا ولا الولايات المتحدة ولا الصين- سياستنا لم تتغير”. وتابع “أعتقد أن الولايات المتحدة تدرك أنها لا يمكن أن تكون شرطةً دوليةً، وأنه ينبغي ضمان الاستقرار العالمي من قبل الدول التي يمكنها الاضطلاع بهذه المسؤولية في مختلف المناطق”. كما عرض الشاه ترتيبًا أمنيًا خاصاً به للدول المطلة على الخليج، حيث تم تجاهله إلى حد كبير من قبل الدول العربية المجاورة، التي شهدت احتلال إيران العسكري لجزر طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1972.
وفي الوقت الذي نصح فيه الشاه الولايات المتحدة بعدم التصرف كـ “شرطة دولية”، إلا أنه لم يتردد في تحمل مسؤولية الشرطة الإقليمية على عاتقه، وهو العنصر الثابت الثالث في سياسة إيران الأمنية في العصر الحديث، حروب التدخل السريع.
لقد شاركت الجمهورية الإسلامية، منذ عام 2003، في الصراعات الإقليمية في سوريا والعراق واليمن، بالتدخل العسكري على مستويات متفاوتة. كان التدخل الإيراني في سوريا لخدمة هدف ضمان بقاء نظام الأسد، وبالتالي الحفاظ على خط الإمداد من إيران إلى حزب الله في لبنان. في العراق، نشرت إيران مستشارين عسكريين وبعض القوات البرية التقليدية لمحاربة تنظيم داعش. وفي اليمن، تقدم إيران الدعم العسكري للحوثيين ضد التحالف الذي تقوده السعودية.
تذكرنا حرب التدخل السريع التي تشنها الجمهورية الإسلامية حاليًا بمشاركة إيران في قمع تمرد ظفار في عمان (1972-1979)، وبشكل أكثر محدودية في جنوب اليمن (1972-1975).
كان الشاه ينظر إلى تمرد ظفار، الذي هيمنت عليه تدريجياً الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي ودعمته جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الماركسية، وخطر انهيار الملكية العمانية، كتهديدٍ للمنطقة بأسرها. ووصلت أول شحنة إيرانية من الإمدادات العسكرية إلى عمان في أغسطس/آب 1972، بناءً على طلب من السلطان قابوس بن سعيد في يونيو/حزيران. وبدأت وحدات صغيرة من القوات الخاصة الإيرانية تصل في أواخر عام 1972، وفي ذروة الصراع، كان هنالك أكثر من أربعة آلاف جندي إيراني يخدمون في ظفار. وحسب أحد التقديرات، تم نشر ما لا يقل عن 15000 من الجنود والبحارة والطيارين الإيرانيين في عُمان بين عامي 1972 و1979، قُتل منهم أكثر من 700 في المعارك. وعمل البريطانيون والإيرانيون والأردنيون والباكستانيون وحلفاء آخرون على ضمان بقاء عرش السلطان، تماماً كما يضمن تدخل الجمهورية الإسلامية في سوريا بقاء نظام الرئيس بشار الأسد.
أما الثابت الرابع فهو برنامج إيران النووي المثير للجدل. بعد ثورة 1979، تخلت الجمهورية الإسلامية عن البرنامج النووي، الذي بدأ في عام 1957، بسبب القيود المالية والعداء الذي يكنه قادة الثورة لسياسات النظام السابق. في أواخر عقد الثمانينيات، بدأت الجمهورية الإسلامية بالبرنامج النووي من جديد، لإنقاذ الاستثمارات الباهظة التي تمت بالفعل من جهة، ومراقبة الغزو العراقي لإيران وطموحات الدكتاتور العراقي صدام حسين من جهة أخرى. وأقل مما كان متوقعاً من أنشطتها النووية في الثمانينيات، يشتبه في أن الجمهورية الإسلامية كان لديها طموحات نووية خاصة بها منذ ذلك الحين، أكثر شبهاً بنظام بهلوي، الذي لم يتبع رسمياَ استراتيجية السلاح النووي.
في سيرته الذاتية “مهمة من أجل بلدي“، ادعى الشاه أن برنامج إيران النووي كان “من أجل المستقبل المزدهر والسلام، وليس من أجل الحرب والدمار”. ووقع وزير الخارجية الإيراني أرديشير زاهدي معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية في يوليو/تموز عام 1968، وصادق عليها البرلمان الإيراني في فبراير/شباط عام 1970. ومع ذلك، كانت تصريحات الشاه العلنية في بعض الأحيان تضر بالموقف الرسمي الإيراني في أعقاب أول تجربة نووية هندية في مايو/أيار 1974. وفي تقييم للطموحات النووية الإيرانية عام 1975، خلص تقرير لوكالة الاستخبارات المركزية CIA إلى أن: “لدى الشاه الرغبة في الوصول إلى موقع يمكنه في نهاية المطاف من إنتاج أسلحة نووية خلال فترة قصيرة إذا اعتقد أن ذلك ضروري”.
أخيراً، يبدو أن درجة الاستمرارية أكبر من درجة التغيير في محاولات إيران تحقيق الاكتفاء الذاتي فيما يتعلق بصواريخ كروز والصواريخ البالستية. وللتأريخ، تدين الجمهورية الإسلامية رسمياً وبشكل مستمر قيام الشاه بشراء الأسلحة من الولايات المتحدة، ما جعل إيران تعتمد على القوى الأجنبية. وبناءً عليه، فإن جذور هذه الرواية تعود إلى برنامج الصواريخ الإيراني في حرب الثماني سنوات مع العراق (1980-1988)، عندما كانت إيران عاجزة عن الرد بشكل مماثل على استخدام العراق الممنهج للصواريخ البالستية ضد المراكز السكانية الرئيسية في إيران.
في الواقع، أسس نظام بهلوي صناعةً حديثة متأصلة للأسلحة. ولكي يقلل من اعتماد إيران الكلي على الموردين الأجانب لأنظمة الأسلحة المتطورة، أراد الشاه الحصول على ترخيص إيراني لإنتاج أسلحة من الطراز الحديث، معظمها بالاشتراك مع شركات أمريكية. وفي مواجهته لرفض الولايات المتحدة طلبه للحصول على صواريخ أرض-أرض قصيرة المدى من نوع لانس، والتي كانت واشنطن قد باعتها بالفعل لتركيا في ربيع عام 1977، لجأ الشاه إلى إسرائيل من أجل التطوير المشترك لصاروخ باليستي، قادر على حمل رؤوس حربية تقليدية ونووية.
وهكذا، فمن الصعب الإبقاء على الحجة القائلة بأن السبب الأيديولوجي هو الدافع الرئيسي وراء السياسة الأمنية للجمهورية الإسلامية. في كثير من الأحيان، يتغلب البقاء على الأيديولوجية، وتجد النخب الحاكمة في الجمهورية الإسلامية نفسها متشبثة بثوابت السياسة الأمنية لسلفها الذي تطعن فيه.