ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
خلال السنوات العشر الماضية شهدت منطقة الشرق الأوسط، خاصة دولها ذات الأكثرية العربية، حروب وأزمات وانتفاضات شعبية، بدأت سلمية، وسرعان ما تحول معظمها إلى حركات عنيفة. كما شهدت هذه الدول أعمال قتل جماعي، وحتى استخدام لأسلحة الدمار الشامل، أدت الى اقتلاع وتشريد الملايين، خاصة في سوريا وليبيا، وتدمير اقتصادات هذه الدول وغيرها، مثل العراق واليمن. هذه الاضطرابات عصفت بالمنطقة على خلفية أزمات اقتصادية خانقة في دول تسيطر عليها أنظمة حكم تفتقر إلى الشرعية والشفافية والمحاسبة، ويستشري فيها فساد سياسي ومالي شامل. هذه هي المنطقة المنكوبة التي اجتاحتها جائحة فيروس كورونا. الجائحة لم تترك دولة دون أن تنتهكها. قرب المنطقة جغرافياً من جنوب أوروبا، حيث انتشر الوباء بسرعة في إيطاليا واسبانيا، والحضور الصيني الاقتصادي المتنامي في المنطقة هي عوامل جعلت انتشا ر الوباء أمراً حتميا.
يرسم الخبراء المختصون في شؤون الصحة العامة والاقتصاد، وغيرهم من المحللين السياسيين، صورة قاتمة للمستقبل المنظور للمنطقة، التي ستواجه، حتى في حال نجاحها النسبي في احتواء الوباء خلال الأشهر القليلة المقبلة، تحديات بعيدة المدى، بسبب الأضرار التي سببها، أو سيسببها، الوباء، الذي أوقف الحياة الاقتصادية بشكل كامل في دول يفتقر معظمها إلى الموارد المالية والعملات الأجنبية لشراء الأدوية والمواد الغذائية.
حتى الدول النفطية التي جمدت صادراتها من النفط والغاز سوف تعاني من انحسار استهلاك الطاقة في الدول الصناعية، خاصة وأن الجائحة تزامنت مع انحسار أسعار النفط في الأسواق العالمية على خلفية وجود فائض نفطي كبير، تسبب في توتر سياسي بين بعض أكبر الدول المنتجة للنفط في العالم، تحديداً السعودية وروسيا. ومع ذلك سارعت السعودية إلى تخصيص حزمة تحفيز اقتصادي بقيمة 32 مليار دولار، كما خصصت دولة الإمارات حزمة مماثلة بقيمة 34 مليار دولار. هذه الاجراءات التحفيزية تطرح سؤالا ملحاً: هل سيكون بالإمكان اتخاذ اجراءات اقتصادية مماثلة في المستقبل المنظور مع استمرار وقف انتاج الطاقة والرحلات الجوية والخدمات السياحية وإلغاء فريضة الحج؟
إذا كان لدول الخليج العربية احتياط من العملات الاجنبية وصناديق سيادية، يمكن أن تخفف من وطأة وقف صادراتها النفطية، فإن دولاً أخرى تعتمد اعتماداً كبيراً على صادراتها من الطاقة، مثل العراق والجزائر، التي وصلتها الجائحة وهي تعاني من أزمات سياسية، سوف تواجه تحديات اقتصادية خانقة سوف تؤدي إلى تفاقم تحدياتها السياسية والاجتماعية القديمة. الدول الأخرى التي انهارت سياسياً وأمنياً، وسقطت في أتون الحروب الأهلية والتدخل العسكري الخارجي، مثل سوريا واليمن وليبيا، فإنها عاجزة عن القيام بالحد الأدنى من الإجراءات الوقائية لمكافحة الجائحة لحماية مواطنيها.
النظام السوري الذي يدمر بشكل منظم، بالتنسيق مع الطيران العسكري الروسي، المستشفيات والعيادات الصحية في المناطق الخاضعة للمعارضة، سوف يضمن انتشار الوباء في مقاطعة إدلب المحاذية للحدود التركية، ما يزيد من احتمال انتشار الوباء إلى جنوب أوروبا عبر الحدود التركية. ويحذر الباحث ستيفن كوك مما يسميه “انتقام” سوريا من العالم بواسطة جائحة كورونا. وبعد أن يشير إلى ضعف القيادات السياسية في العالم، يضيف أنها ستقف على حدة، كما فعلت خلال سنوات انهيار سوريا إلى العنف، “وسوف تراقب انفجار وباء كورونا في جميع أنحاء إدلب، ولاحقاً في دولهم. ونتيجة لعجزهم، سوف يتحملون المسؤولية الاخلاقية للوفيات في سوريا وفي الشرق الأوسط وأوروبا، وهي وفيات ما كان يجب أن تحدث”.
انتشار الوباء ارتبط إلى حد كبير بطبيعة النظام السياسي الحاكم في كل دولة، والتطور الاقتصادي والمالي والتعليمي فيها، وقدرة مؤسساتها الصحية على مواجهة الجائحة. الأنظمة المتسلطة والتي تتميز بقدرتها على تعبئة واستخدام أدوات السيطرة والمراقبة والقمع والتعتيم، مثل إيران وسوريا ومصر، لجأت إلى تضليل شعوبها حول طبيعة الوباء ومدى انتشاره وعدد ضحاياه. أما الدول الأكثر انفتاحا، والتي بنت أجهزة بيروقراطية فعالة أكثر وتتمتع ببعض الشفافية، مثل دولة الإمارات العربية المتحدة والكويت ولبنان، فقد تعاملت مع الجائحة بطريقة فعالة أكثر، لعدة أسباب من بينها تطور أنظمتها الصحية، وسرعة حكوماتها في مصارحة شعوبها بحقيقة الخطر، والاسراع في فرض اجراءات العزل الاجتماعي ووقف الانشطة الاقتصادية والاجتماعية.
على سبيل المثال، حصدت الجائحة حوالي نصف ضحايا المنطقة في إيران، التي سارع نظامها الثيوقراطي إلى نكران حجم الخطر في البداية، ولاحقاً تضليل الإيرانيين حول عدد الضحايا. وتعترف إيران بأن الوباء قضى على 5200 مواطن، بينما زاد عدد المصابين بأعراضه عن 83500 شخص. ولجأت إيران إلى دفن العديد من الضحايا في قبور جماعية. الحكومة المصرية قللت من حجم الوباء داخل أراضيها، وهددت بمقاضاة كل من ينشر “الاخبار الكاذبة” عن الوباء في تحذير ضمني لوسائل الاعلام. وفي مطلع مارس/آذار حين ادعت مصر رسمياً أن هناك ثلاث حالات مصابة بفيروس كورونا فقط في البلاد، قّدر العلماء وخبراء الأوبئة أن عدد الاصابات في مصر يتراوح بين 6270 و45070 شخص. غياب الحد الأدنى من حرية الاعلام في دول مثل إيران ومصر وسوريا يعني حرمان شعوب هذه الدول من معرفة حقيقة الخطر الذي يهددها.
في المقابل سارعت دول مثل السعودية الإمارات والأردن ولبنان إلى اتخاذ اجراءات وقائية مبكرة وشاملة لاحتواء أضرار الجائحة، شملت اغلاق الحدود ووقف الطيران المدني، وللمرة الأولى منذ غزو نابليون لمصر قررت السعودية إلغاء فريضة الحج. لبنان، الذي شهدت ساحات مدنه وشوارعه تظاهرات شعبية عارمة منذ الخريف الماضي احتجاجا على الافلاس الاخلاقي والسياسي للطبقة المفترسة الحاكمة، التي أدت ممارساتها المتهورة إلى انهيار الليرة، تعامل بشكل فعال نسبياً ومفاجئ مع الجائحة. المفارقة أن أحد الأسباب الرئيسية هو ضعف الدولة المركزية وعدم ثقة اللبنانيين بها، وإن كانت ثقتهم أكثر بنظامهم الصحي. الحكومة اللبنانية، بعكس معظم حكومات المنطقة، لا تستطيع تضليل اللبنانيين حول خطر الجائحة، ولا تستطيع مثلاً اخفاء العدد الحقيقي لضحايا الوباء. الحكومة اللبنانية التي تأخرت في البداية بوقف الرحلات الجوية من إيران إلى لبنان، حتى بعد اكتشاف الضربة التي تعرضت لها إيران جراء الجائحة، قررت في منتصف الشهر الماضي فرض الحجر الصحي الوطني. وما حدث بعدها هو أن اللبنانيين فاجأوا أنفسهم بأنهم التزموا بشروط الحجر. في هذا المشهد المؤلم للبنان، نجاح اللبنانيين باحتواء خطر جائحة كورونا هو شمعة تضيء ظلامهم العميق.
مكافحة جائحة كورونا، التي صيغت وكأنها عمل حربي أو أمني، سوف تشرعن وتطور استخدام الأنظمة الاوتوقراطية للإجراءات القوية، التي اتخذت لضمان التزام المواطنين بمتطلبات الحجر الصحي، والتي اعتبرت ضرورية للتصدي للوباء خلال أخطر مراحله. هذه الاجراءات سوف تُستخدم لاحقاً لمراقبة المعارضة السياسية والناشطين في مجال الحقوق المدنية والسياسية، والمطالبين بتوسيع دائرة حرية الاعلام. قدرة الأنظمة وأدواتها القمعية، التي سهلت عليها اخلاء الشوارع من الناس وتطوير أساليب الرقابة الالكترونية، عبر نشر آلاف الكاميرات في المناطق الحساسة في المدن الرئيسية، إلى وسائل مراقبة تحركات المواطنين عبر هواتفهم النقالة، سوف تكون الأساليب التي ستلجأ إليها الدول التي شهدت تظاهرات احتجاجية واسعة وفعالة في العراق والجزائر ولبنان ضد فساد السلطات الحاكمة. وليس من المبالغة القول إن هذه الحركات الاحتجاجية كانت من بين ضحايا جائحة كورونا، لأن إحيائها لن يكون سهلاً في عالم ما بعد التحدي الأولي للجائحة. في المقابل، يمكن القول إن تفوق الأنظمة الأوتوقراطية على معارضيها خلال أزمة جائحة كورونا قد يكون مؤقتا، لأن هذه الانظمة تعاني من مرض عضال يتمثل بوجود مشاكل اقتصادية بنيوية تتطلب اصلاحات جوهرية، وأطر سياسية حاكمة فاقدة للشرعية وغير خاضعة للمساءلة، تنمو وتترعرع في أرضية فاسدة.
ما يمكن قوله وتوقعه بيقين كبير، هو أن الأزمات والتحديات الاقتصادية التي ستواجهها جميع دول المنطقة، وتحديداً الدول الاوتوقراطية والفقيرة، سوف تزداد تفاقماً. ولن تبقى أي دولة في الشرق الاوسط بمنأى عن المضاعفات السلبية والخطيرة للجائحة، والتي ستبقى معنا لأشهر وسنوات. وحتى مع بقاء خطر الوباء، سوف نرى عودة التظاهرات الاحتجاجية إلى الساحات العامة والشوارع، كما رأينا بدايات هذه الظاهرة في لبنان في الأيام الماضية. وسوف يطرح الملايين من المواطنين على أنفسهم اسئلة صعبة ولكن ملّحة من نوع: من الأخطر على مستقبلنا جائحة كورونا أم حكامنا الذين يستهترون بنا وبحقوقنا؟ المنطقة التي شهدت عقداً رهيبا بويلاته السياسية والأمنية والارهابية، مرشحة لحمل ويلاتها وآلامها وأحلامها إلى عقد جديد.